دون كيشوت وطارق بن زياد لن يقيما حفلا للعشاء الأخير

على المغرب أن يقدر حجمه ومصالحه بميزان من ذهب وأن يكون شعار صناع قراره الخارجي: أقوياء بدون غرور ومتواضعون بدون ضعف. وعلى إسبانيا أن تخرج من قلقها التاريخي المزمن، فلن يبعث طارق بن زياد لفتح الأندلس، وعليها أن تتخلص من كتبها القديمة التي صورت عبور طارق بجيشه للمضيق كلحظة مليئة بالعنف والقتل، حيث يتصور المتخيل الإسباني أن مع سفن طارق جاءت كل الكوارث..

وليس بإمكان فارس الظل الحزين دون كيشوت أن يعبر البحر المتوسط بسيفه الخشبي وخوذته البالية وحصانه الهزيل ليعيد لإسبانيا أحلام الفرسان النبلاء، ولم يعد هناك جار ساذج مثل “سانشو” ليصدق المعارك الوهمية والبطولات الزائفة لدون كيخوتي، الذي وإن التقى طارق بن زياد لن يقيما حفلا للعشاء الأخير..

ما تناسل من صراع دبلوماسي بين إسبانيا والمغرب ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير، لكن السياق وحده ما يعطي معنى للأشياء، إذ إن أزمة اليوم تبدو مفتوحة وإن جرت وفق معادلات متحكم في مركباتها وإسقاطاتها.

ليست استضافة إبراهيم غالي، بالشكل الرخيص الذي تمت به، سوى قطعة صغيرة في مرمى السهام العديدة التي تراشق بها حارسا بوابة القارتين في غربي المتوسط، بين الشمال والجنوب..

حتى اللحظة أدارت الدبلوماسية المغربية رقعة الشطرنج بدهاء كبير وأمسك صناع قرار السياسة الخارجية المغربية بخيوط الصراع من خلال رسم مساحات اللعب المتاح، بأقل الخسائر الممكنة في اتجاه توحيد الصف الداخلي حول قضية وطنية، حيث تداعى كامل الجسد حين اشتكى عضو واحد منه بالسهر والحمى، وفي الانتقال من الدفاع إلى إتقان فن الهجوم، وخارج “فلتة” بوريطة حول الارتخاء الأمني وهجرة القاصرين التي أصلح عطبها الملك محمد السادس بعودة جميع الأطفال القاصرين في وضعية غير قانونية بدول الاتحاد الأوربي، فإن المغرب حقق أكثر من نصف انتصار بأقل الأخطاء الممكنة في لعبة شد الحبل مع الجار الإسباني.

جسد “غالي” في المزاد الرخيص

المعلومة سلطة، قوة لا تقدر بحساب، وعليها يُبنى الموقف والقرار السياسي وتبسط الحسابات الفعالة، هكذا كان نجاح المخابرات المغربية في الحصول على معلومات دقيقة حول إدخال زعيم جبهة بوليساريو تحت هوية مزورة يوم 21 أبريل الماضي ضربة معلم.. انتشر الخبر في صحف لها مصداقيتها، وهو ما دفع الخارجية الإسبانية إلى الإقرار بحقيقة استقبال زعيم الانفصاليين في أحد مستشفياتها قصد العلاج؛ وبتعبير وزيرة الخارجية الإسبانية أرانشا غونزاليس لايا، “لأسباب إنسانية”.

تحولت الصفقة السرية بين وزارة الخارجية الإسبانية وجنرالات الجزائر إلى فضيحة أخلاقية. هل كانت الجزائر تحاول أن تتخلص من إبراهيم غالي، بعد أن أصبح عبئا ثقيلا وورقة محروقة، بوضعه في قلب المخاطرة بأراضي معروف أن قضاءها يطالب منذ 2008 بالاستماع إليه في جرائم لا تسقط بالتقادم؟ كيف ابتلعت الحكومة الإسبانية طعما مرا باستضافة زعيم بوليساريو في وقت رفضت ألمانيا ذلك؟ وعلينا أن نتمتع بقدر كبير من البلادة حتى نقتنع بالعبارة الرومانسية لوزيرة الخارجية الإسبانية “لأسباب إنسانية” التي تخفي طبيعة الصفقة الجزائرية الإسبانية ومردوديتها على حكومة مدريد.

أسال وجود إبراهيم غالي بهوية مزورة على الأراضي الإسبانية الكثير من المداد في وسائل الإعلام، وتحول جسد “غالي” إلى لعبة صغيرة غير مسلية سوى للإعلام في مجال التراشق بين المغرب وإسبانيا المنتفع الأول من كل الاتفاقيات التي تربط الاتحاد الأوربي بالمغرب. وبذا تكون الرباط نجحت في تحويل قضية غالي إلى كعب أخيل في الجسد الإسباني.. فقد تمت المحاكمة خارج أسوار قصر العدالة الإسباني في حقل الأكورا الإعلامي الدولي الواسع.

ارتدادات الأزمة في الداخل الإسباني

لم تكن إسبانيا تقدر حجم الضرر الناتج عن كشف إدخال إبراهيم غالي إلى أراضيها. هذا يعني أن أجهزة الطرفين الجزائري والإسباني مخترقة، في تقدير أول من طرف الأجهزة المغربية، وفي تقدير ثاني من أحد الأجهزة الكبرى لدولة صديقة للمغرب، قد تكون فرنسا وقد تكون الولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم اعتراض وزير الداخلية الإسباني على إدخال زعيم بوليساريو بهوية محمد بن بطوش إلى التراب الإسباني، لأن الأمر يمس في العمق اختصاصه الأمني الذي عبر أجهزة الكشف الجديدة في المطارات الإسبانية لن تستطيع أي عملية تزوير أو إخفاء أن تحتال عليها، حتى لو تعلق الأمر بـ”رئيس جمهورية الواقواق”، فإن وزارة الخارجية تبنت القضية باعتبارها طرفا في الصفقة إلى جانب الجزائر.

وعلينا أن نفهم تصريح وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا، الثلاثاء الماضي، حين قال: “إن مدريد والرباط شريكان مهمان وتربطهما علاقات أخوية”، أبعد من كونها محاولة للتخفيف من حدة التوتر الذي تفاقم بين المغرب وإسبانيا، وعلى أنه تسجيل موقف داخلي وتحلل من أي مسؤولية في ما حدث.

وهنا لعب المغرب بذكاء في نقل الأزمة إلى الداخل الإسباني، إذ تحولت قضية إيواء “إبراهيم غالي” إلى حصان طروادة للمعارضة، وفي مقدمتها الحزب الشعبي الإسباني الذي طلب من حكومة بلاده تقديم توضيحات بشأن الدخول غير القانوني وبهوية مزورة لإبراهيم غالي إلى إسبانيا. وهاجم رئيس الحزب بابلو كاسادو الحكومة المركزية في مدريد، التي اتهمها بـ”التضحية بالعلاقات مع شريك اقتصادي وتجاري مهم لإسبانيا”.. هكذا أصبح جسد إبراهيم غالي مكلفا للسياسة الخارجية الإسبانية، وسلاحا بيد المعارضة، توخز به جراح حكومة شانيز.

فلتة المهاجرين القاصرين

ظل المغرب يطالب دوما بالنظر إلى مشكل الهجرة غير النظامية ببعد شمولي يستحضر الجانب الإنساني، وما تحوله من بلد عبور إلى بلد استقرار للمهاجرين من دول الساحل جنوب الصحراء إلا تنزيل لهذه الرؤية ذات العمق الإنساني والثقافي الذي لا تستحضره المقاربة الأمنية، لكن يجب التحلي بالشجاعة والصدق للقول إن هجرة القاصرين ليلة الهجوم الجماعي على سبتة ليست مما يمكن أن نحوله إلى سلاح نعتد بالانتصارات التي نحققها من ورائه، لقد كان خطأ فادحا حاكم كل السياسات العمومية التي ولدت هوامش الفقر وانحدار جودة التعليم وأشكال الهشاشة التي مست الأطفال المغاربة..

كما أن شكل تبرير ما حدث من طرف وزير الخارجية ناصر بوريطة، حول إعياء رجال الأمن وتزامن الهجرة الجماعية مع عطلة العيد، يفتقد للكثير من الذكاء السياسي، في دولة تعتد بقوة أمنها ومصداقية أجهزتها ذات السمعة العالمية. لقد كانت العملية أشبه بـ”قرصة أذن”، لكن وجود أكثر من عشرين بالمائة من القاصرين بين المهاجرين يمس بمصداقيتنا، فلنسمي القط قطا دون الحاجة إلى المراوغة، لذلك كان قرار الملك محمد السادس القاضي بعودة كل القاصرين المغاربة غير الشرعيين من جميع بلدان الاتحاد الأوربي تصحيحا لوضع مختل، دون أن ينحني المغرب أمام مطالبه اتجاه إسبانيا. هذا السلوك في تقديري فتح قنوات التواصل بين الرباط ومدريد، بدليل أن حكومة شانيز رغم كل اللهجة العدائية التي عبرت عنها أخبرت الرباط بعودة زعيم الانفصاليين إلى الجزائر قبل حتى أن تحط الطائرة الجزائرية في المطار الإسباني.

هفوة العثماني حول مناورات الأسد الإفريقي

في وقت يستعد المغرب لاستضافة مناورات “الأسد الإفريقي 21″، التي تنظمها القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا AFRICOM ما بين 7 و18 يونيو الجاري، غرد رئيس الحكومة سعد الدين العثماني خارج السرب، بكون التدريبات ستشمل لأول مرة منطقة الصحراء المغربية بمشاركة نحو 10 آلاف عسكري مغربي وأمريكي، إلى جانب آخرين من 8 دول وملاحظين من 21 دولة. المسؤول الحكومي الأول أكد أن مناورات “الأسد الأفريقي” لهذه السنة تختلف عن باقي النسخ السابقة، وتحمل إشارة واضحة إلى وقوف الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب المغرب ودعمه وحدة أراضي المملكة..

الأمر يتعلق بزلة غير محسوبة، فللبيت رب يحميه، ورئيس الحكومة مصدر يفترض أن مصداقية معلوماته موثوقة وليست مما يجبر الصحافيين الذين نقلوا التغريدة أن يتبينوا، هل كنا في حاجة إلى توضيح البانتاغون والأمر محسوم منذ عام حول الرقعة الجغرافية المعدة للمناورات أم هناك شيء تغير في آخر لحظة؟ في كل الأحوال تغريدة العثماني كانت خارج السياق.

في الجهة الأخرى، وجدت حكومة بيدرو سانشيز نفسها في ورطة حقيقية، يتعلق الأمر بمناورات عسكرية دولية ظلت إسبانيا تساهم فيها تحت القيادة الأمريكية بالمغرب.

وبالتالي فالانسحاب منها يتجاوز توجيه رسالة إلى المغرب، بل فيه غير قليل من الغضب على الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يجر رئيسها بايدن منذ انتخابه أي اتصال بسانشيز، وهذا ما سخر منه المعارض الإسباني بابلو كاسادو زعيم الحزب الشعبي حين قال: “ليس من الصدفة أن يتصل الرئيس الأمريكي بايدن بثلاثين زعيما ولم يفعل ذلك مع السيد سانشيز”.. ومن جهة أخرى فإن القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا AFRICOM لم تعر أي انتباه لعدم مشاركة إسبانيا في مناورات الأسد الإفريقي، تحت زعم وزارة الدفاع الإسبانية أن الأمر يرجع إلى أسباب مالية.

أقوياء بدون غرور ومتواضعون بدون ضعف

إن المسار الطويل والشاق والمكلف الذي اختطه المغرب لحماية المصالح الوطنية في الحدود الشمالية منذ أزمة 2002 استغرق من المملكة عقدين من العمل وملايين الدولارات: بنية تحتية كبرى بمدن الشمال، معلمة ميناء طنجة المتوسطي، عودة المغرب إلى نفوذه البحري، من خلال القاعدة العسكرية للقصر الصغير وتطوير الأسطول البحري على الحدود، خنق المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية اقتصاديا لهدم التهريب المعيشي ثم تقنين زراعة “الكيف”…

يفرض على صناع القرار تقدير مدى مردودية النزاع مع إسبانيا وأفقه الذي لن يذهب إلى أبعد بحكم المصالح المشتركة. وفي تقديري يجب النظر إلى أبعد مدى في تقييم طبيعة الصراع المغربي الإسباني الذي ينفجر بين الفينة والأخرى، إنه يكمن بعيدا في عمق التاريخ، أبعد مما انفجر مع أزمة جزيرة ليلى عام 2002، وأقوى مما يحدث اليوم من تداعيات التراشق الدبلوماسي بن الرباط ومدريد.. لتفكيك العقد التي تحول دون تواصل جيد بيننا وبين الإسبان الأمر يحتاج إلى مجهود ثقافي وفكري بعيد المدى يقوم به الحكماء من الجانبين لمواجهة الحقائق التاريخية بجرأة وتحويل الأعطاب إلى دعائم للتفاهم، فما ينفجر بين الفينة والأخرى يجب النظر إلى مسبباته العميقة، ما تراكم من جراح عميقة بين البلدين من الجغرافيا إلى التاريخ، من الاستعمار إلى حركة التحرير المغربي… ي

قول ألفونصو ذي لاسيرنا في كتابه “جنوبي طريفة المغرب وإسبانيا: سوء تفاهم تاريخي”: “ظلت الحقائق الجغرافية والتاريخية تقيم عبر القرون حدوداً منقوشة بالعقبات بين هذين البلدين اللذين نسميهما اليوم، على التوالي، المغرب وإسبانيا، في المقام الأول، هناك العقبة الطبيعية المتمثلة في البحر في مضيق جبل طارق، هذا الخندق المائي الذي يبدو أنه انفتح، ربما في عهود جيولوجية غابرة، على البرزخ الذي كان يربط بين القارتين: أوربا وإفريقيا.

وفي المقام الثاني، هناك العقبة السياسية الهائلة التي نصّبها تاريخ الحروب: الغزوات والاستردادات، الحروب “الجهادية” والحروب “الصليبية”، الاحتلالات العسكرية والاستعمارات، اللقاءات الفاشلة والماسّات المثيرة للغضب. ولكن بالأخص، وهو ما يصعِّب أكثر هذه الحدود النزاعية، هناك الحاجز النفسي الذي انتصب نتيجة كل ذلك، إنه سياج ذهني منع في ظن كثير من الإسبان والمغاربة وجود رؤية واضحة متبادلة، طمس التفاهم بين البلدين، مُحولا “العبور الروحي” للخط الذي يفصل بيننا إلى شيء محفوف بالمخاطر”.

على إسبانيا أن تخرج من قلقها التاريخي المزمن، فلن يعود طارق بن زياد اليوم لفتح الأندلس، وعليها أن تتخلص من كتبها القديمة التي صورت عبور طارق بجيشه للمضيق الذي حمل اسمه، كلحظة مليئة بالعنف والعويل والقتل واللعنة، حيث يتصور المتخيل الإسباني أن مع جنود طارق بن زياد وسفنه جاءت كل الكوارث الطبيعية.. الأعاصير والطاعون والجوع والرائحة الصفراء للموت الناتج عن هذا العبور الإسلامي الذي قاده “الموروس”..

وليس بإمكان فارس الظل الحزين دون كيشوت أن يعبر البحر الأبيض المتوسط بسيفه الخشبي وخوذته البالية وحصانه الهزيل “روسينانتي” ليعيد لإسبانيا أحلام الفرسان النبلاء، ولم يعد هناك جار ساذج مثل “سانشو” ليصدق المعارك الوهمية والبطولات الزائفة لدون كيخوتي دو لا مانشا، الذي وإن التقى طارق بن زياد لن يقيما حفلا للعشاء الأخير سوى في الكوميديا الإلهية لدانتي أو داخل قلعة رسالة الغفران للمعري.

إن الوقائع اليوم هي التي تنطق في عالم متسارع الخطى، وعلى حافة تغيير حضاري كبير، يفرض الخروج من مآزق الماضي واستشراف المستقبل بروح وفاقية.

ويجب أن تتخلى إسبانيا عن رهابها الفظيع حول حلم استعادة المغرب المسلم للفردوس المفقود كما فعل المرابطون والموحدون ومن تلاهم، وأن تتخلص من الاستعمار الابن الأكثر بلادة الذي أنجبته الفورة الاستعمارية الإمبريالية، إنه زمن مغاير يستوجب استحضار المصالح المشتركة وإعطاء الحوار الندي فرصة لتذويب كل عقد التاريخ والجغرافي.

وعلى المغرب أن يقدر حجمه وقوته الحقيقية خارج كل الأوهام، ومن حقه الدفاع عن مصالحه ويطالب بالندية والتشارك، لكن عليه أيضا أن يحسن إتقان الوسائل المؤدية إلى خدمة هذه المصالح؛ هذا هو السبيل الوحيد ليزيل عنه صورة الجار المقلق غير المؤتمن الذي يمكن أن تأتي منه كل الشرور، ويعي حجم التحول الإستراتيجي الذي سيجعل المحيط الهادي والأطلسي الطريق البديل للمتوسط.

hespress.com