قال حكيم مبدع تتشابه حيوات الأغنياء، لأنها تطوف حول قداسة المال، وتتنوع حيوات الفقراء لأنها بحث مضن عن الترقي وتغيير الأحوال. أما قيل لولا الفقراء ما عرف الكون نعم التغيير؟

ولا تختلف أحوال الأسر عن أحوال الأمم والشعوب. تختلف باختلاف الشعور بالنخوة، والاعتزاز بالانتماء إلى الوطن، والرغبة في خدمته، وطلب الترقي والعلا.

ومنذ فترة شرعت تهب على أفئدة هذا الوطن الأمازيغي-العربي- المسلم رياح مضمخة بالاعتزاز بالذات، والتاريخ الاستثنائي، وروح الانبعاث، وعودة الروح والوعي تجلت في مظاهر وقضايا عدة، منها هذا الحديث عن “تمغرابيت”.

ويبدو أن “تمغرابيت” مفهوم شاسع وعميق يستحق الوقوف عنده لأنه يكاد يلخص طبيعة ماضي هذا الوطن العظيم ومستقبله. تاريخ استثنائي لوطن استثناء، ما عرف الاستعمار أبدا (ولذلك سمت الإمبريالية الفرنسية وجودها العسكري بالبلد “حماية”)، ولحظة راهنة محملة بالتحديات (تنبيه الغافلين من عسكر الشقيقة الجزائر إلى الأخوة الحقيقية والمصيرية التي تجمعنا بالشعب الجزائري العظيم المنتفض لنيل الاستقلال المدني أبدية، وحكم العسكر عابر، والعمل على الحد من جموح الروح الاستعمارية التي تهب على العلاقات المغربية الإسبانية التي تريد “فِيلاً آخر”: جبل التروبيك، والحد من جشع الأحزاب في المغرب التي ما هزت النخوة ولا صحوة الضمير “ممثليها” في الغرفة الثانية أن يطالبوا بإلغائها للتدليل عن حسن النية وحقيقة خدمة الوطن، والتوقف عن طلب المزيد من الدعم…)، وتحقيق رهانات (ميناء طنجة المتوسطي، ومشروع نور، وميناء الداخلة، والحصار الاقتصادي للمدينتين المحتلتين، سبتة ومليلية، قصد استرجاعهما بمفاوضات واتفاقيات…)؛ فهذا الماضي، وهذا الحاضر برهاناته وتحدياته

هو الذي سيحكم المستقبل الذي لن يكون إلا واعدا.

وقد نتساءل ما الذي بعث روح “تمغرابيت” في هذه اللحظات من تاريخ الوطن، وعمل على استعادة الروح المغربية؟ أيكون بعض الجواب هو ما اهتدى إليه ذلك الشاعر العربي الفذ:

وإِذا أرادَ اللّهُ نشرَ فضيلةٍ/ طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورَتْ/ ما كان يعرفُ طِيبُ عَرفِ العُودِ

لعل البلد شرع يمسك بمصيره بيديه، وتأكد أن ما يحك جلده هو ظفره، واتخاذ المبادرة.

أذكر قبل سنوات، حين شرع ربيع الخليع يتحدث عن مشروع القطار الفائق السرعة، قال ذات اجتماع مع رجال المال بالمنطقة الصناعية بطنجة بنوع من الخيبة: “كل من حدثته في المشروع يعتقد أني مصاب بجنون!”. وحين أصبح الموضوع شأنا عموميا تعرض لكثير من النقد. ولما رأى النور أصبح جزءا من مفخرة مغربية.

أنحتاج الثقة في الذات، استرجاعها؟

لقد سار البلد خطوات في هذا السبيل عبر بعض أبنائه المخلصين. هو في حاجة إلى أن ينضم إليهم المتشككون، ويلجم اللصوص والخونة زحف لعابهم، فالإيمان بالأوطان نعمة بحلاوة العسل.. الحر.

ولا شيء بعزيز على إرادة الشعوب والأوطان. وعلى هذا الشعب الاستثناء..

وعن هذه “التمغرابيت” يحدثنا مقال أنور مجيد، ويبين أن مفاهيم الغرب وأمريكا جزء من تاريخها الخاص.

الديمقراطية السلطانية: النظام السياسي المغربي الفريد..

مثل قراء “هسبريس”، أعيش في العالم الحديث، عالم شكلته سياسياً الثورة الأمريكية، التي صدر بيانها قبل حوالي 245 سنة. وبينما أفكر في إعلان الاستقلال وكيف أطلق نظاما عالميا جديدا، نظاما حرر الناس، لأول مرة منذ اليونان القديمة، من قيود العبودية السياسية، ومنحهم فرصة تقديم الرأي في الطريقة التي يريدون أن يُحكموا بها، لا يسعني إلا أن أتساءل عن مستقبل العالم الإسلامي، وما إذا كانت المثل العليا التي ألهمت مؤسسي أمريكا ستجد لها صدى في الدول ذات الأغلبية المسلمة. لا أريد للمسلمين أن يقلدوا التاريخ الأمريكي بالطريقة التي يشترون بها المنتجات الأمريكية، ولكني أريدهم فقط أن يفكروا بشكل خلاق في الطرق التي يمكنهم بها إنقاذ مجتمعاتهم المضطربة.

ومادامت الولايات المتحدة أصبحت امتدادا للتاريخ الأوروبي، ستظل التجربة الأمريكية بعيدة المنال في الدول ذات الأغلبية المسلمة. وكما أوضح ذلك شيخ المؤرخين برنارد لويس في كتابه “اللغة السياسية للإسلام” (1988)، استمد الغرب إصلاحاته من تاريخ أبقى الكنيسة والدولة منفصلتين، أو أبقى علاقتهما، على الأقل، في حالة توتر. وفي الإسلام لم يكن هذا الفصل بين الدين والدولة ممكنا لأنه لا يوجد شيء خارج نطاق الواجب الديني. وهكذا، فإن فكرة العلمانية هي، في جوهرها، إهانة للإسلام، كما يتم فهم ذلك بشكل صحيح. ذلك أن الإسلام هو الذي يضفي الشرعية على سلطة الحكام، حتى لو لم يكن الحاكم المسلم قدوة أو لم يكن، في بعض الحالات، مسلما على الإطلاق. وطالما أن المسلمين لا يُمنعون من ممارسة دينهم، فلا بد من التسامح مع الحاكم، بغض النظر عما إذا كان قد اغتصب السلطة، أو وصل إليها عبر انقلاب، أو كان طاغية متوحشا. ذلك أنه يُفضل دائمًا الحفاظ على الوضع الراهن عوضا عن اللجوء إلى الثورات العنيفة ما لم يتم انتهاك إيمان الشخص بشكل أساسي.

وعلى امتداد زمن طويل كان حكام بلاد المسلمين خلفاء، وسلاطين، وأمراء، ونحو ذلك. ولم تعد معظم هذه الألقاب تحمل أي معنى سياسي حقيقي وحلت محلها ألقاب أوروبية. وعلى سبيل المثال، بدأ استعمال مصطلح “سلطان”، الذي كان يعني في الأصل السلطة، باعتباره تجريدا، وليس وصفا وظيفيا، وكان يُمنح للأشخاص الذين يشغلون مناصب عليا، مثل وزير أو رئيس، ولكن كان يمنح دائما لشخص مرتب تحت سلطة الخليفة. ومع الانشطار السياسي الذي عرفته الخلافة الإسلامية بعد الأفول التدريجي للسلالة العباسية، اكتسب اللقب وظيفة رأس الدولة، وظل محتفظا بذلك المعنى حتى بعد الاستعمار، حيث تم استبداله بلقب الملك الأوروبي، وهو لقب يقترن، يا للمفارقة، بالاستبداد في القرآن.

وكما يوضح ذلك برنارد لويس، أيا كان اللقب الذي قد يختاره حاكم في دولة ذات أغلبية مسلمة أو أمة عربية- “رئيسا” أو “رئيس دولة” أو “زعيما” أو “ملكا” أو “خادم الحرمين” (كما هو عليه الأمر في المملكة العربية السعودية)- فالنقطة المهمة هي أن الحاكم مدعوم بتقاليد قانونية توافقية تلزم رعيته بالطاعة. نصح الفقيه ابن بطوطة، الذي عاش في القرن العاشر، بعدم اللجوء إلى إثارة الفتنة حتى لو كان الحاكم غير عادل أو ظالما، بل لو حدث أن كان عبدا حبشيا. وقد نصح الفيلسوف العظيم الغزالي (القرنان الحادي عشر والثاني عشر) بالشيء نفسه، بل ذهب أبعد من ذلك في الحث على طاعة الحكام، إذ أوصى بالطاعة حتى لو خالف الحكام التقاليد الإسلامية. وقال بالرأي ذاته الفقيه السوري ابن جامع (القرن الثالث عشر إلى الرابع عشر). وقد شاطر الفقهاء المالكيون في شمال إفريقيا العلماء السابقين الرأي ذاته. وتشير النظرية العامة إلى أن الحياة في بلد يعيش حالة قمعية، ولكنه يساس بشكل جيد، أفضل من العيش في بلد تسود فيه الحرية، ولكنه يعيش حالة فتنة (وهي كلمة تجمع بين معاني الاختبار، والاضطراب، والفوضى، وكذلك فقدان السيطرة العاطفية والجنسية). أما قيل إن الفتنة أشد من القتل؟ وأنا متأكد بأن العديد من فقهاء العصور الوسطى سيعتقدون أنهم كانوا على جانب كبير من الصواب في القول بآرائهم تلك ويرونها مُبررة إذا ما عادوا إلى الشرق الأوسط اليوم وشهدوا الفظائع التي يرتكبها المتطرفون من السنة الذين يسعون إلى إقامة دولة إسلامية في العراق وسوريا. وبالنسبة للناس العاديين، يفضل النظام الاستبدادي على إسقاط الدولة، وعلى الدولة الفاشلة.

ويمكن للتقليد القانوني الإسلامي أن يفسر لماذا وصف المسلمون الثورة الفرنسية عام 1789 بالفتنة. ذلك أن مصطلح ثورة، مثله مثل المعنى الحالي للمصطلحات السياسية الأخرى مثل الحرية، والانقلاب، والاستقلال، والوطن، (بمعنى الأمة) والحكومة، والدستور، والقانون (العلماني).. يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر لأنها مستوحاة من السياسة الأوروبية أو مستعارة منها.

وقد دخلت هذه المفردات السياسية الجديدة إلى اللغات العربية، والتركية، والفارسية في محاولة عبثية من لدن المسلمين لمحاكاة الغرب واللحاق بركبه وامتلاك القوة مثله. لكن اللغة السياسية الغربية ظلت في الغالب شكلية وتجميلية، ونضدت على صخرة صلبة من البلاغة العربية والثقافات السياسية التي شكلتها قرون من الحكم الإسلامي. ويبدو أن الفقهاء المسلمين في العصور الوسطى قد عزلوا المسلمين عن التأثيرات السياسية الأجنبية إلى الأبد. ولهذا السبب لم يستطع المراقب الفرنسي في القرن التاسع عشر، ألكسيس دي توكفيل، أن يرى الديمقراطية على النمط الأمريكي قابلة للوجود والتطبيق في العالم الإسلامي أو أن يرى الراحل صامويل هنتنغتون، وهو يستعير الفكرة إلى حد ما من برنارد لويس، أن علاقة الغرب والعالم الإسلامي تمثل صدام الحضارات. ولهذا يمكن القول إن هؤلاء الثلاثة ما أخطؤوا وهم يفكرون بذلك.

وأن يكون مثل هذا التاريخ تاريخك، هل يمكن للدول ذات الأغلبية المسلمة أن تتبنى النماذج السياسية الغربية دون السقوط في حالة فتنة دائمة؟ هذا هو السؤال الذي يشغلني أكثر من غيره لأن الوعد بالربيع العربي، كما أشرت إلى ذلك في حينه، كان حلما مستحيلا للنشطاء العرب والمروجين الغربيين للديمقراطية في العالم العربي على حد سواء. أثبت الإسلام، بتقاليده الثقافية الراسخة وشكله القوي في تكوين الهوية وترسيخها، أنه العقبة الكأداء التي لا يمكن التغلب عليها ولا صعودها، كما كان في فجر القرن التاسع عشر عندما هيمنت القوى الأوروبية على المسلمين في جميع أنحاء العالم.

كيف يجب إذن أن نفكر في مستقبل العالم الإسلامي؟ يكمن النهج الأكثر عقلانية في الجمع بين عناصر من كلتا الثقافتين السياسيتين (الإسلامية والغربية) بما يمكن من حماية الأهداف النهائية للحرية والتنمية دون أن تؤدي إلى حالة من الفصام والانهيار السياسي. وفي الواقع، من المحتمل جدا أن مثل هذا النهج قد لا يكون مفيدا فقط للناس في العالم الإسلامي، ولكنه قد ينشط أيضا الأنظمة السياسية المتعثرة في الغرب. والحقيقة أن الديمقراطيات الغربية، مع معاركها السياسية العنيفة والمآزق المثبطة للهمة والمنهكة للبلد بما لا طاقة له به، أصبحت غير قادرة على الاهتمام برفاهية مجتمعاتها، وهو ما دفع المعلقين إلى التوصية بسبيل معين؛ أي اتباع نموذج مثل النموذج الصيني أو السنغافوري. إن الحكومة الاستبدادية المتواضعة لهي أكثر كفاءة من المشاحنات اللامتناهية للسياسيين، الذين تؤدي مصالحهم الضيقة إلى تفاقم انهيار البنية التحتية الحيوية، واتساع نطاق عدم المساواة في البلد. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تتجه نحو نظام إقطاعي جديد وأكثر ضررا (نظام كان من المفترض أن تحل محله الثورة الأمريكية)، حيث يسيطر واحد بالمائة من الناس على معظم ثروة الأمة (أمتهم).

وإذا لم تعد الديمقراطية على النمط الأمريكي وظيفية وعملية في الولايات المتحدة، فلن تستطيع فعل الكثير للدول الإسلامية التي تحتاج إلى استمرارية القيادة لاستمرار الإصلاحات الكبرى التي تتطلب سنوات عديدة حتى تؤتي ثمارها. أفضل نهج هو أن تكون لديك سيادة قوية، من جهة، في ظل نظام سياسي تشاركي من جهة أخرى، وبالتالي الانضمام إلى التقاليد السياسية للشرق والغرب للتخفيف من الانهيارات في كليهما.

وبالنسبة لي، تعتبر المملكة المغربية أفضل مثال في العالمين العربي والإسلامي لتقديم نموذج قابل للتطبيق. إنها ليست ملكية دستورية على غرار إسبانيا أو المملكة المتحدة، ومع ذلك فهي تتمتع بنظام سياسي دينامي ومجتمع مدني نابض بالحياة يساعد في الحفاظ على شكل من أشكال التوازن بين الملك والأحزاب السياسية. يشترك الملك في صنع القرار مع حكومة منتخبة دون أن يفقد سلطته في أن تكون له الكلمة الأخيرة. إنني أسمي هذا الترتيب أو هذه التسوية “الديمقراطية السلطانية” لأنه يجمع بين أفضل التقاليد السياسية في محاولة لبناء مستقبل أفضل للجميع. كما أنني أستخدم مصطلح “سلطان” لتجنب الدلالات والتشريفات المرتبطة بالفكرة الأوروبية للملك.

عندما كان الرؤيوي اليهودي ثيودور هرتزل يحلم بدولة يهودية في فلسطين، أراد بذلك “ملكية ديمقراطية” أو “جمهورية أرستقراطية” لأن الديمقراطية غير المقيدة، في رأيه، “تنتج تلك الطبقة الذميمة والمرفوضة من الرجال- السياسيون المحترفون”. ولم تسر الأمور على هذا النحو الذي أراده هرتزل في إسرائيل، وحققت الديمقراطية مسيرة ناجحة (وليست كاملة) [صحافة قوية، وربط المسؤولية بالمحاسبة لدرجة محاكمة أي وزير أول وسجنه] في تلك الدولة؛ لكن بالنسبة للعرب والمسلمين قد تكون رؤية هرتزل السياسية هي بالضبط ما هو مطلوب. وبسبب التواريخ المختلفة، قد لا تكون “الديمقراطية السلطانية” ممكنة في دول إسلامية أو عربية أخرى، ولكن يمكن بناء نظام يجمع بين القيادة الكاريزمية والمشاركة العامة من أجل الصالح العام حول مفاهيم مختلفة.

إن المغرب استثناء في العالم الإسلامي بسبب ثقافته السياسية المخزنية التي تعود إلى قرون خلت. إنه ليس ديمقراطية بالمعنى الحديث للمصطلح لأن الحكومة، كما أشار جان جاك روسو إلى ذلك، ليست بطبيعتها ديمقراطية. لكن الحكومة الجيدة تضمن سيادة الأمة. كان جان بودان، الفيلسوف والمفكر الفرنسي من القرن السادس عشر، أول من ميز بين الحكومة والسيادة، وأبرز بوضوح بالفعل – كما فعل ابن خلدون – بأن الملكية يمكن أن تكون ديمقراطية إذا تمت معاملة الناس على قدم المساواة. وقد أعرب توماس هوبز في كتابه “اللفياثان” عن معارضته للحكومة الديمقراطية بممارساتها المسرفة والمناقشات التي لا تنتهي في المجالس، وأبرز بوضوح أن شعب أي أمة لا وجود له خارج السيادة.

وهناك تراث هائل وضخم من النقاش حول شكل الحكومة الأفضل للأمة. والأمر الواضح وضوح الشمس أنه لا يوجد نموذج واحد يناسب جميع الأمم والشعوب. ونحن في المغرب لدينا نظامنا الخاص، وهو نظام يمتد عمره لأكثر من ألف عام من السيادة، وقد اندمج بالتدريج وانصهر مع المنظمات السياسية الحديثة، مثل الأحزاب، من أجل ضمان الاستمرارية في ظل التغيير. وعندما يسألني الناس عن نوع الحكم التي نتوفر عليه في بلدنا، أقول “ديمقراطية سلطانية”. ويسعدني دائما أن أشرح ذلك وأفسره!

hespress.com