يرى الكاتب عبد الله بوصوف، الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج، أن رئاسيات نونبر 2020 تميزت عن باقي الرئاسيات الأمريكية السابقة، “حيث ساهمت شخصية الرئيس السابق دونالد ترامب وطريقة تدبيره وتسييره لفترة عرفت “بالترومبيزم”، وتغييره أولويات السياسة الخارجية الأمريكية وترتيبات تحالفات استراتيجية جديدة”.

ووفق مقال جديد لبوصوف عن الانتخابات الأمريكية الأخيرة وفوز بايدن، فإن الحروب التجارية، خاصة مع الصين، وكذا طريقة تدبير أزمة جائحة كورونا وارتفاع الضحايا والسباق العالمي حول اللقاح الفعال، والمشاكل الاجتماعية والتمييز العنصري (Black Lives Matter)، ونظام التغطية الصحية، ساهمت كلها في جعل انتخابات نونبر الماضي متميزة من جهة، وكانت ساحة كبيرة للفاعل السياسي والإعلامي والمثقفين ولمعاهد الدراسات ومؤسسات الاستقصاء من جهة أخرى.

المزيد في مقال بوصوف التالي:

تم تنصيب جو بايدن (78 سنة) كما هو متعارف عليه يوم 20 يناير 2021 كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية رقم 46، بعد حملة انتخابية قوية صاحبها الصخب والصراع من كل جانب، حتى بعد إعلان النتائج بإعلان فوز الديمقراطي “جو بايدن” كرئيس منتخب، ومحاولات دونالد ترامب بالطعن في النتائج والتشكيك في سلامة التصويت الإلكتروني، مستعملا كل الوسائل بما فيها الالتجاء للقضاء أو الحملات الإعلامية.

ومن المعروف أن الانتخابات الأمريكية هي الأكثر متابعة إعلاميا والأكثر إثارة في العالم، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى موقع الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل قوي على أكثر من مجال، خاصة في معادلات السياسات العالمية والتحالفات الاقتصادية والعسكرية على مستوى العالم.

لكن رئاسيات نونبر 2020 تميزت عن باقي الرئاسيات الأمريكية السابقة. حيث ساهمت شخصية الرئيس السابق دونالد ترامب وطريقة تدبيره وتسييره لفترة عرفت “بالترومبيزم”، وتغييره أولويات السياسة الخارجية الأمريكية وترتيبات تحالفات استراتيجية جديدة. كما ساهمت الحروب التجارية خاصة مع الصين، وكذا طريقة تدبير أزمة جائحة كورونا وارتفاع الضحايا والسباق العالمي حول اللقاح الفعال. والمشاكل الاجتماعية والتمييز العنصري (Black Lives Matter) ونظــام التغطية الصحية. كل هذا وغيره ساهم في جعل انتخابات نونبر الماضي متميزة من جهة، وكانت ساحة كبيرة للفاعل السياسي والإعلامي والمثقفين ولمعاهد الدراسات ومؤسسات الاستقصاء من جهة أخرى.

وفي يوم التنصيب (20 يناير) قال الرئيس الأمريكي الجديد بايدن: “نحتفل اليوم بفوز، ليس المرشح بل الديمقراطية، الديمقراطية ثمينة.”، ثم يعود مخاطبا العالم: “أمريكا ستقود ليس بإعطائها مثالا على قوتها فقط، بل أيضا بفضل قوة النموذج الذي سنقدم”.

وهنا نلاحظ الذكاء في استعمال مصطلح “القوة” الذي خدم مفهوم القوة العسكرية والاقتصادية من جهة، وخدم مفهوم قوة النموذج الأمريكي الديمقراطي من جهة ثانية، خاصة بعد أحداث الكابيتول وتشديد الإجراءات الأمنية في العاصمة واشنطن، لضمان التسليم السلمي للسلطة ولتفادي أعمال الشغب والاصطدام مع أنصار ترامب، وبعث رسالة قوية للعالم على الحالة الصحية القوية للنموذج الديمقراطي الأمريكي.

كما شهد “يوم التنصيب” استعمالا قويا للعديد من الرموز والرسائل، بدءا من أداء الرئيس المنتخب بايدن للقسم على إنجيل جلدي تملكه عائلته منذ سنة 1893 ويتميز بصليب يرمز لأصوله الإيرلندية، وهو نفس الإنجيل الذي أقسم عليه يوم تنصيبه كنائب الرئيس باراك أوباما. وهو الأمر الذي أعاد للواجهة الحديث عن “جو بايدن” كرئيس كاثوليكي أو الكاثوليكي الرئيس.

وتناولت على إثره العديد من التقارير الإعلامية الجانب الديني في حياة الرئيس بايدن، ونشر الدكتور ماسيمو فوغولي، وهو مؤرخ في الأديان وأستاذ بجامعة “فِيلاَ نُوفَا” بمدينة بينسيلفياني الأمريكية، كتابا جديدا “جو بايدن والكاثوليكية في الولايات المتحدة”، حيث قارن فيه الرئيس جو بايدن كثاني رئيس كاثوليكي بأول رئيس كاثوليكي، أي جون فيجرالد كنيدي، وأبرز اختلاف المحطتين التاريخيتين وعرج على فشل محاولات كل من جون كيري سنة 2004 وهيلاري كلينتون سنة 2016، كما تناول علاقة بايدن بالبابا فرانسيسكو، ورمزية وضع بايدن لصورته على مكتبه البيضاوي. وأيضا الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا والأساقفة.

الرمزية كانت حاضرة، أيضا، في أداء نائبة الرئيس الأمريكي “كامالا هاريس” للقسم على إنْجيليْن اثنين، واحد يعود لأمها الثانية “ريجينا شيلتون”، والثاني يعود لـ”تورغرد مارشال”، وهو رمز حقوقي كبير وأول نائب عام من أصل إفريقي. وستستمر الرمزية بالحضور القوي من خلال أداء كامالا هاريس للقسم أمام القاضية بالمحكمة العليا “صونيا صوتومايور” ذات الأصل الأمريكولاتيني.

وسيُسجل التاريخ أن هذه الرئاسيات عرفت “الموجة الوردية” قامت بها نون النسوة داخل المشهد السياسي الأمريكي. كما أن الذاكرة السياسية الأمريكية لن تنس الصراع العلني الذي قادته “نانسي بيلوسي”، وهي أول رئيسة مجلس النواب الأمريكي ضد الرئيس ترامب، وكانت وراء تقديم ملتمس سحب الثقة من الرئيس ترامب، ولازال الجميع يتذكر حادث تمزيقها لخطاب ترامب أمام عدسات الإعلام الأمريكي والعالمي، كما أن “كامالا هاريس” نفسها تعد أول امرأة تشغل منصب نائب الرئيس الأمريكي، وأول امرأة من أصول إفريقية / أسيوية ومن أسرة مهاجرة.

ومن جهة أخرى، فقد رصد المحللون الحضور القوي للعنصر النسوي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، سواء من عدد المرشحات الذي ارتفع مقارنة مع الاستحقاقات الماضية أو من حيث النتائج، إذ يعد رقم 141 رقما قياسيا للحضور النسوي في الكونغرس الأمريكي من ضمنهم 51 نائبة من أصل إفريقي وهو رقم قياسي جديد. وهو ما يعني ترقب الحضور القوي لملفات تكافؤ الفرص والعنف ضد المرأة والمساواة في الرواتب بين الرجل والمرأة وغيرها. ستكون حاضرة بقوة في نقاشات الكونغرس أو الإعلام الأمريكي. إذ سُجل على كل النائبات الحضور القوي في الحياة السياسية والحقوقية والمشاركة السياسية على المستوى المحلي أو الفيدرالي. وأن وراء كل نائبة بالكونغرس تراكم حقوقي أو سياسي قوي وتكوين أكاديمي عال وتجربة مهنية وإنسانية دالة.

الرمزية واستعمال الرموز الدينية والسياسية والحقوقية كانت هي الصفة الطاغية على مسلسل الانتخابات وفي يوم التنصيب. إذ إن التلويح بعهد جديد شمل تغيير خريطة تكوين الكونغرس وكذا الإدارة الأمريكية الجديدة. التي تميزت بحضور العنصر النسوي بقوة وكذلك بالتنوع العرقي والثقافي والإثني للمجتمع الأمريكي. بل حتى “المكتب البيضاوي” لم يخل من رمزية وبعث الرسائل التغيير بدءا من السجاد إلى لوحات الرؤساء الأمريكيين السابقين إلى صور القادة الحقوقيين الأمريكيين وصورة مع بابا الفاتيكان. بل التغيير شمل أدق التفاصيل ومنها أقلام توقيع الرئيس جو بايدن.

ويبدو أن القطع مع أدبيات الماضي ليس بجديد في حياة الساكنة الجديدة بالبيت الأبيض “جيل بايدن” (67 سنة). إذ ستعتبر أول سيدة أولى تحافظ على عمالها في مجال التعليم طوال ثلاثين سنة. لكنها فعلت نفس الشيء عندما كانت السيدة الثانية في عهد “ميشيل أوباما”. فالتعمق في تفاصيل حياة السيدة “جيل بايدن” فيه الكثير من الرمزية والعرفان للتعليم ولرجال التعليم التي تعهدت بالاشتغال عليه وحل مشاكل رجال التعليم والمربين.

وستمتد الرمزية إلى تفضيلها اسم “الدكتورة جيل بايدن” وليس “السيدة بايدن”، حيث يحضر الاعتراف بتكوينها الأكاديمي وتحصيلها العلمي من جهة، كما أنها تحترم ذكرى السيدة “نايلا” زوجة جو بايدن الأولى، والتي ماتت صحبة ابنتها في حادثة سير سنة 1972، وتعتبرها هي “السيدة بايدن” من جهة ثانية.

إن كل تلك الترتيبات والتفاصيل والإسقاطات والاستعمال حتى التخمة للرمزية، تلهمنا لتحديد أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، سواء في ترتيب بيتها الداخلي أو ترتيب تحالفاتها ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية على المستوى العالمي. وهو ما سنرجع له في المستقبل القريب.

hespress.com