الشهامة والشْماتة.. لفظتان رَسْما ونُطْقا تشتركان في أحرفهما الأولى (الألف واللام والشين)، ولكنهما دلاليا يحيلان على معان متضادة:

تعرف الشهامة في معاجم اللغة بأنها مصدر فعل “شهم”، والشهم: الذكي الفؤاد المتوقد، الجلد، وقد شهم الرجل، بالضم، شهامة وشهومة إذا كان ذكيًّا، فهو شهم أي جلد. وقيل: الشهم معناه في كلام العرب: الحمول، الجيد القيام بما يحمل، الذي لا تلقاه إلا حمولًا، طيب النفس بما حمل. وعرفت في بعض الاصطلاحات بأنها: “عِزةُ النفس وحرصُها على مباشرةِ أمور عظيمة تستَتبِعُ الذكرَ الجميلَ”، وقيل عنها أيضا بأنها: “الحرص على الأمور العظام؛ توقعًا للذكر الجميل عند الحقِّ والخلق”. ولذلك فهذه الكلمة تحيل على معاني المسؤولية والعفة والمروءة والنجدة والشجاعة والحياء والنبل وغيرها من القيم الإيجابية التي تصاحب الإنسان الشهم.

أما “الشماتة” -بفتح الشين- فأصلها من فعل “شمت” و”أشمت”، وتعني “الفرح ببلية أو مكروه يصيب عدوا”، وتَشَمَّتَ”: رجع خائبا من غير غنيمة، و”الشِّمَاتُ”: من يُشْمَت بهم لخيبةٍ أو بَلِيَّة”. وعرفت في بعض الاصطلاحات بأنها: “سرور النَّفس بما يصيب غيرها مِن الأضرار، وتحصل مِن العداوة والحسد”، وذكر الفيلسوف الألماني شوبنهاور أن الشماتة أقبح شعور يمكن أن يستمتع به الإنسان لأنها أمر شيطاني. ولذلك فهذه اللفظة تحيل على معاني الخِسّة والتلكؤ والجفاء والتخاذل والدياثة والصفاقة وكل الأوصاف المرذولة التي يمكن أن تصاحب الإنسان الشماتة.

ولقد كانت الرجولة – في المجتمع المغربي – مقرونة دائما بالشهامة، فكان الرجل المغربي يعمل بعرق جبينه ويحفر الصخر ويقوم بأي عمل طيب حلال مهما كان بسيطا ليوفر القوت الذي يكفي لزوجته وعياله، وكان يأنف أن يتكفف الناس لأجل ذلك، بل وكان يأنف أن يأخذ مال زوجته – ولو كانت ميسورة الحال – إلا عن طيب خاطر منها دون أن ينكر فضلها عليه إن وسّع الله عليه في الرزق. وكانت هذه الطينة من الرجال أيضا لا تعربد في أحيائها ودروبها أو تعترض سبيل بنات الحي أو تتربص بهن لإيقاعهن في الفاحشة أو لإغرائهن بالزواج ثم التملص منهن والتنكر لهن بمجرد قضاء الوطر منهن… أو تقطع سبيلهن – خِلْسة وخسّة – لسلبهن ما في حقائبهن من دريهمات معدودات أو ما يتزينّ به من دماليج وأقراط فضية أو ذهبية أصلية أو مجرد تقليد… وكانت هذه الفئة الشهمة تهبّ لنجدة المظلوم… ومساعدة كبار السن من الرجال والنساء وتوجيه الصغار وقضاء أغراض أبناء الحي بكل حب وأريحية وبكامل الطواعية…

إلا أن هذه المعاني السامية من الشهامة في الرجولة المغربية آخذة في التواري والانزياح من المجتمع، ليحل محلها “الرجل الشْماتة” (بتسكين الشين حسب نطق المغاربة) الذي يتنصل من المسؤولية المادية لأسرته الصغيرة ولو كان له دخل قار من عمل وظيفي أو تجاري.. بل ويطمع في دخل زوجته المسكينة الذي تكسبه أحيانا في ظروف قاسية، تحت لهيب الشمس في الضيعات الفلاحية أو أمام لفيح أفرن الغاز من بيع “المسمّن” و”الحرشة” أو بالانحناء الشاق في معامل النسيج أو في المتاجر الكبرى أو تحت قساوة ألسنة ونظرات قليلي المروءة في المقاهي والحافلات!!

و”الرجل الشماتة” الذي يقبل على نفسه الذل والمهانة والعيش بلا كرامة… إلى حد التسول بعرض زوجته أو بناته من خلال “تصوير فيديوهات روتيني اليومي لهنّ بكل قبحها وعهرها” وعرضها أمام الملايين من النظّارة المتلصصين – داخل الوطن وخارجه – من أجل اكتساب “دريهمات” ملطخة ليس بدماء العار وحسب ولكن بصديد وقيح الدياثة!!

و”الرجل الشماتة” الذي يستعرض عضلاته المفتولة على الضعفاء والمساكين في الدروب والأزقة ليرهبهم بفتوته المزيفة، ولكنه إذا طُلب للنجدة في الصعاب والشدائد صار حاله “كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد”، وربما أسوأ حالا حتى من هذا الهر الذي لا يتوانى في الدفاع عن نفسه أو نجدة صغاره عند المواقف الحرجة!!

و”الرجل الشماتة” الذي يتنكر لجميل الجوار وصفاء الرفقة واقتسام النعمة في البيوت.. وذلك حينما يجد أدنى فرصة لخيانة أمانة أعراض بنات الجيران بل وأحيانا حتى بنات الأقارب والخلاّن، فلا حرمة عنده ولا استعفاف لا لهؤلاء ولا لأولئك فالكل عنده سيان في الاستمتاع الشيطاني!!!

وبدل أن تتم محاصرة هذه الظاهرة المتسارعة في انحدار قيم الرجولة، يتم تسويقها والتمكين لها أكثر وأكثر من خلال أعمال كوميديا التلفزيون للضحك والفرجة… وهو فعلا ضحك ولكنه مُبْك لأنه ببساطة يحول مآسي المجتمع إلى ملهاة!!!

hespress.com