كشف الأكاديمي والروائي الدكتور بنسالم حميش عن مقتطف من صفحات عمل روائي ما يزال في طور الإنجاز، بعدما اختار “السلطان إسماعيل مجاهدًا” عنوانا بارزا له.
وافتتح حميش “الصفحات” المذكورة بالقول: “في مفتتح عهدي بتقلد أمور أمتي دعوت إلى الاجتماع بي في قصبة مشرع الرمل أكابر الجيش وبعض صدور دولتي، ومن أريكتي متوسطة البروز خاطبتهم بعد التحميد والتصلية والترحيب بـمقدمهم المبارك”.
وأشار حميش، ضمن الصفحات ذاتها، إلى ضرورة “توخي اجتناب الهجوم والمبادأة، لا عن ضعف وخوف، بل لأن الحرب في حد ذاتها لهي، كالطلاق، أبغض الحلال إلى الله، وهي واجبة لا مندوحة عنها إذا ما تم انتهاك حمى الأمة وحوربت مبادأةً من طرف أعداء عقدوا العزم وتسلحوا لرميها بالشرور والإيقاع بوجودها نفسه”.
وهذا نص المقال:
في مفتتح عهدي بتقلد أمور أمتي دعوت إلى الاجتماع بي في قصبة مشرع الرمل أكابر الجيش وبعض صدور دولتي، ومن أريكتي متوسطة البروز خاطبتهم بعد التحميد والتصلية والترحيب بـمقدمهم المبارك فقلت:
قوادنا الأشاوشَ الأبطال، يا أولي الخبرة والدراية والعزم المتين، هذي وصايايَ إليكم، فبلغوها وفسروها في كل بقاع إيالتنا. وبدءا فلتحفظوا وتعتبروا جميعكم حديث رسولنا الأكرم الطهور: “أيها الناس، لا تتمنوا لقاءَ العدو، واسألوا اللهَ العافية. فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. اللهم مُنزلَ الكتاب ومجريَ السحاب، وهازم الأحزاب، أهزمهم وانصرنا عليهم”… وعليكم بهذا الدعاء تتنادون به أو تذكرونه في أنفسكم: ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين، آمين.
وعملا بذاك الحديث النير الأسنى توخوا اجتناب الهجوم والمبادأة، لا عن ضعف وخوف، بل لأن الحرب في حد ذاتها لهي، كالطلاق، أبغض الحلال إلى الله، وهي واجبة لا مندوحة عنها إذا ما تم انتهاك حمى الأمة وحوربت مبادأةً من طرف أعداء عقدوا العزم وتسلحوا لرميها بالشرور والإيقاع بوجودها نفسه.
والإيمانَ الإيمانَ إن صحَّ لديكم وصدق فلَهُوَ قوتكم الأقوى والأنجع، وإن قلَّ أو ضعُف فلا تُغني عنه الأعداد والعتاد. وقد جاء في محكم الكتاب ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾. وما رواه إسماعيل البخاري حُبِّبَ ذكره: “الإيمان معرفةٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان”، كذلك يكون المؤمنون المجاهدون، يخوضون المعارك بقلوبٍ وأنفسٍ آمنة، وهاماتٍ مرفوعة وأعناقٍ مشرئبة إلى النصر المبين وإعلاءِ كلمة الحقِّ الساطعِ المنير، ومن استُشهدوا في القتال فيصحُّ عليهم قوله جلَّ ثناؤه ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
استأذن القاضي العربي بردلة الأندلسي في الحديث فقال: أي نِعْمَ الإلحاح إلحاحكَ يا مولاي على قيمة الإيمان المعتبرة وطاقته الفعالة. وهل بغير الإيمان الراسخ القوي انتصر المسلمون على الفرس في موقعة القادسية وعلى البيزنطيين في موقعة اليرموك، هذا مع أن قواهم العسكرية كانت دون قوى الامبراطوريتين العظميين أعدادا وعتادا. وهذا الحدث الفخيم معجزة خارقة وأيّ معجزة وهل بغير مثيل ذلك الإيمان في إسلام البربر تمكن العرب بقيادة موسى بن نصير، وهم قلة نظرا لبعد الشقة، من فتح المغرب، وبعده الأندلس حيث كانوا أيضا قلة قياسا إلى أعداد البربر المجاهدين بقيادة طارق بن زياد، وهم جميعا ما تيسر لهم دخولها إلا استجابةً لأهاليها الرازحين عهذاك تحت طغيان قبائل القوط الجرمان الهمج وقهرهم للنصارى الكاسح.
شكرت القاضي بردلة على تذكرته الصائبة المفيدة، وعاضدها اليحمدي مضيفا حواشيَ وإفاداتٍ، ثم أردفت:
ألا يا قوادنا البواسل، بلِّغوا عني كلامي هذا لأجنادكم في القلاع والقصبات ولسرايا المشاة والخيالة والرماة وبين زحف وآخر، ولا تنسوا القرعَ على الطبول والنفخ في المزامير، ترعبون بها عدوكم قبل الصدام والمناجزة، وارفعوا الأعلام الحمراء خفاقةً تتعارفون بها وتتناوبون على حملها. وإنْ بين جنباتكم حضرت نسوة، فعليهن بالزغاريد والصياح بالأناشيد يحمِّسنكم ويحرضنكم على الحمية والكرِّ فالكرّ؛ وأشجعهنَّ يتولين سقي العطشى وإسعاف الجرحى ورعاية القتلى الشهداء. كما لا يلزم التقصير في جهاد مضرمى نيران الثورات والفتن التي هي أشد من القتل، وذلك عملا بأمر الله المستجاب ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرَ﴾. وأنتم يا قوادنا من كل الصفوف والرّتب، أعدوا للنصر، وأنا شاخص بينكم، قواعده الصحيحة وخططه المحكمة وخُطبه المجيِّشة، وكلَّ ما يلزم إعماله من حيل وخُدع واقتناص الفرص الغراء السانحة، وجميعها تروم ترويع العدو وتدويخه فإنهاكه وهزمه… ولنا في هذا الشأن الخطير أسوةٌ حسنة في فتوحات نبينا الأمجد صلاة الله عليه وسلامه، كما في فتوحات عظماء الجهاد الأبرارِ المؤزرين.
لا، وحق من خلق وسوى وقدّرَ وهدى، لن نظفر بأيِّ نصر وتوفيق في مساعينا كلها إلا إذا تضافرت جهودنا وأيادينا وقمنا لأدائها كرجل واحد وبنيانٍ مرصوص. لذا من حولي وفي عضدي أريد رجالا أحلامهم كالجبال، لطفاءَ في السلمِ رحماء، أشداءَ في الحرب عرفاء، لهم في إحسان الرئاسة والسيادة باعٌ وأيُّ باع… وعليكم، رعاكم الله وشدَّ أزركم، بآداب الإسلام في المعارك، تتحلون بها وتحفظون دستورها وميثاقها. فعلى الأطفال والنساء والعجائز لا تعتدوا، وعلى أشجار الثمار والظلال لا تعتدوا، وعلى مخازن الحبوب والأقوات ومصادر الماء وأمكنة الطهارة والعبادة لا تعتدوا. وإذا أسرتم فبالإحسان عاملوا أسراكم، ولهم عليكم حق الإطعام والاغتسال ما استطعتم، إلى أن يُكتب لهم الافتكاك وإخلاء سبلهم بالتي هي أوفق وأجدى.
النصارى الأسارى أوصيكم بهم خيرا، مصداقا لقوله تعالى: ﴿ويطعمونَ الطعامَ على حُبِهِ مسكينا ويتيما وأسيرا﴾، ذلك أنّا لا نريدهم مرضى آفلين، وإلا تدنت سهومهم في سوق مبادلتهم بأسرانا المسلمين، ناهيكم عن تشغيلهم في مرافقَ تحتاج إلى أيديهم وعن خبراتهم ومهاراتهم، أبرزها مرفق البناء ومرفق صناعة السلاح والبارود وآلات الرمي بالكور وأخرى رخامية شمسية لتحقيق الوقت والتحكم في تصريفه كما يجب.
يا أئمة إيالتنا وخطباءها ارفعوا عقائركم بالدعاء للأسرى الأجانب عندنا حتى تلين قلوب ملوكهم وولاتهم ويجنحوا للسلم كما نجنح له، فيُيَسروا سبل عودهم إلى ديارهم وأهاليهم آمنين سالمين، إذ أن أعزَّ شيء لدينا هو حرية الأسير، كما أبلغناهم مرارا وتكرارا. ولن يتم هذا إلا بافتكاك أسرانا من أيدي سجَّانيهم النصارى؛ وطلبُنا الأكيد في هذا هو المبادلة رأسا برأس وليس بالبيع والشراء، مع تمكيننا من استرجاع خمسمئة كتاب عن كل رأس في انتظار أن يأتينا منهم مجموع ذخيرتنا المحجوزة عندهم نهبا وعدوانا.
أما الأخصام من بني جلدتنا فإن لنا سياسة حازمة ندبرها في شأن قبائل الأعراب في السهول والهضاب والوديان نضيِّقها عليهم بما رحبت، كما في أمر البربر العالقين بالمرتفعات والجبال كدرن والعياشي وفازاز وسواها، نسد قممها عليهم سدا، وليس لنا محيد عن هذه السياسة طالما تجبر هؤلاء وأولئك وطغوا. فلا خيار لهم إذن إلا أن يتجردوا من السلاح تماما ومن الخيل، وتكون لهم عوضها الحمير والبغال، ولهم الحقول الخصبة يحرثونها فيجلبون منها أقواتا وغلات تكفيهم. نصيحتنا لهم: افلحوا الأرض وأخرجوا خيراتها تفلحوا وتأمنوا وتمهروا؛ كما لهم الضأن والأنعام يرعونها ومنها يتكسبون، فلا يكونوا عالة على الدولة وعبئا ثقيلا. هذا ولا مغارم يدفعونها إذا هم آمنوا بالنماء وأنجزوه بدل الفتنة والعِداء والخوضِ في المروقِ والانتقاض؛ ثم إنه لا انتجاع بعد اليوم ولا ارتحال إلا ما تلزمه التجارة والحاجة القصوى.
وليعلم الثوار من أهل الدلاء وأزلام الخِضر غيلان وأولاد النقسيس أنْ لا جيشَ إلا جيشَ الوداية وأحلافه وجيش عبيد الله. وحدَهم لهم الحق في المحلات وإقامة القلاع والقصبات وتعميرها واستعمال كل صنوف السلاح بما فيها المهاريس والمجانيق، وذلك للدفاع عن حمى الدين والعباد والدولة والبلاد. ثم ليعلم المحتمون والمستقوون بأتراك الجزائر ضدنا أن عساكرنا المجاهدين يتسقطون أخبارهم ودسائسهم، وينصبون لهم الكمائن والفخاخ، ويقاتلونهم بلا هوادة في مكامنهم الشرقية وحتى في مخابئهم الأخرى عند حماتهم ومحرضيهم علينا من أعالي الجبال أو من أغوار الصحراء…
استأذن القائد عبد الله الريفي في الكلام أصالةً عن نفسه ونيابةً عن زملائه، فقال بعد أداء التحية الواجبة لمقامي مشفوعة بعبارات المحبة والولاء: منذ شهرين أعطيتَ يا مولاي لقواتك المسلحة أمرك المطاع بالشروع في استئصال شأفة الثوار الخطرين المنتفضين على سدتك العالية بالله ودولتك المنيفة. فما هي إلا فترة معدودة مليئة بالاستعدادات والترتيبات، حتى زحفت سرايا جيشك الباسل وحاصرت جند بن محرز من كل جانب، فاضطر مع حراسه إلى الفرار من تازا إلى الصحراء الوسيعة حيث اعتادوا اللجوء والاختباء.
قلت: إني فحصت الموقف ودقائق الخرائط، يا عبد الله، فأمرتك بالعروج مع جيشنا المظفر إلى منطقة الهبط لقتال أرهاط الخضر غيلان وأولاد النقسيس وتحكيم السيوف في رقابهم جميعا، وكان ذلك ما وفقتم إليه، فشرّعتُ لعسكرنا الرواتب المستحقة، وارتاحت نفسي وأديت سجود الشكر لله، بعضه في النهار وبعضه في جوف الليل. وبُعيد ذلك أقبل عليَّ حماة أولئك الثوار من أهل فاس طالبين مني العفو والتوبة، فاستجبت شريطةَ تجريد هؤلاء من السلاح كله وإلحاق رماة الفاسيين بجيشنا يضمنه عقدٌ عدلي مختوم، فقبلوا الشرط مرحبين معاهدين.
حلم تحرير ثغور البلاد ومدائنها الساحلية ما انفك يراودني منذ فتوتي، وازداد اتساعا وإلحاحا لما أن تقلدت شؤون البلاد والناس أيام عهدة المرحوم أخي الرشيد ثم بعد أن خلفته وانعقد الاجماع على بيعتي. وهكذا تهيأتْ للحلم شروط التحقيق بدءا من الحلقة الصغرى ثغرِ باديس الذي حرره عنوة من احتلال الإصبان عبد الكريم الخطيب قائد تطوان، وذلك بإيعاز مني؛ ثم تلاه فتح المعمورة بقيادة عمار بن حدو الريفي بأمر مني ومعززا بجيش كثيف، وذلك بعد أن تملكها الإصبان نصف قرن ونيف. هذا وإني شاركت، كما تعلمون، في القتال وباشرت قذف العدو بالكور، ودعوت إلى الإبقاء على اسم المدينة الأصلي عوضا عن تسميتها المهدية نسبة، كما أخبرني الغساني وبردلة، إلى الفاطميين الشيعة الذين غزا جيشهم المعمورة بقيادة جوهر الصقلي منتصف القرن الخامس، فجددوا بناءها ونشروا فيها دعوتهم وسموها بذلك الاسم الدخيل على عقيدة المغاربة ومذهبهم السني. وكانت مغانم جيشنا وافرة، كلفتُ من يوزعها بالقسطاس الشرعي على المجاهدين، وحُزتُ إلى تصرفي الأسرى والبارود والسلاح اليدوي.
ثم إني، بعد استراحة عامة مستحقة ومرور فترة استعداد واستنفار، تخللتها صلواتنا وأدعيتنا لله، أمرت القائد نفسه بالمسير إلى طنجة-كحلقة أخرى وازنة-لحصارها وطرد الإصبان منها، فلبى الأمر بعساكره ومتطوعته، لكن النصر لم يحالفه إذ مات مسموما، فعينت خلفه القائد علي الريفي الذي أبلى البلاء الحسن في إعمال أفانين القتال وحيله الصائبة الناجعة، حتى إذا حلَّ يوم جمعة أغرّ فاتح ربيع الأول عام خمسة وتسعين وألف دخلت سرايا جنودنا الأبطال طنجة، فألْفوها فزعين عامرةً بأكوام الردوم المتراكمة المنتشرة، وهي للمساجد والحمامات والحصون ولمرافق أخرى، وذلك من فرط ما عاث فيها عسكر الملك تشارل النچليزي تخريبا وفسادا، كأنما أرادوا بأعمالهم الوحشية التخفيف من وطأة هزيمتهم النكراء أمام جيش المسلمين المؤزر.
ونصحني مستشاراي عبد الوهاب الغساني وأحمد اليحمدي بدعوة وجهاء وفقهاء وأشراف من فاس، وذلك كما قالا حتى يشهدوا بأم أعينهم فتوحي المظفرة ويروُوا عن دهائي الثاقب وعلو كعبي الفائق في التخطيط المحكم للمعارك وحسن تدبيرها وقيادتها من أجل تحرير الثغور والمدائن وإرجاعها إلى أصولها والسيادةِ الإسلامية.