على الرغم من “المكانة المتميزة لعلال الفاسي، لا في تاريخ الفكر المغربي فقط بل في تاريخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر أيضا”، فإن فكر هذا الرجل “ظلم ظلما كبيرا”، وفق الأكاديمي سعيد بنسعيد العلوي، بسبب طغيان صورة الزعيم السياسي لحزب الاستقلال على الجوانب الأخرى في شخصيته.

ويتأسف الأكاديمي والمفكر المغربي، في أولى حلقات سلسلة “رواد في الذاكرة” التي بثت مباشرة على صفحة حزب الاستقلال على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وسيرها الأكاديمي ورئيس مؤسسة علال الفاسي مبارك ربيع، لـ”الظلم الكبير الذي عرفه فكر علال الفاسي، بسبب الارتباط الذي وقع في الأذهان بين اسمه وحزب الاستقلال”؛ مما جعل الناس الذين يوافقون الحزب أو يعارضونه، نتيجة انقسام الحركة الوطنية، يكونون مع أو ضد علال الفاسي.

وأكد المتحدث، في هذه الحلقة التي تناولت مسار علال الفاسي وعطاءَه بوصفه مفكرا وفَقيها وسياسيا وأحد رموز العمل من أجل الاستقلال بالمغرب، أن “هذه الخصومة السياسية أو الإيديولوجية انتقلت إلى الجانب الآخر، دون أن يروا نصوص علال الفاسي التي في منتهى الروعة والإبداع، حول الحرية والإنسية المغربية والديمقراطية، وتأريخه للحركة الوطنية المغربية، وطرحه لأهمية النظرية في العمل السياسي، وتنظيره للدولة، وعلاقة الدين بالسياسة”.

كما يتأسف العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس لكون “علال الفاسي المفكر غير معروف داخل حزب الاستقلال، أو كونه معروفا بكيفية ضيقة جدا، فيه، مع جهل بعمق فكره”. مستحضرا في الإطار ذاته نضاله السياسي، ومقاومته منذ سنته الرابعة عشرة، وحتى آخر نصف ساعة في حياته “حيث توفاه الله إليه وهو في مكتب تشاوشيسكو يدافع عن نقطتين هما مغربية الصحراء والقضية الفلسطينية”.

ويتحدث سعيد بنسعيد العلوي عن مسار علال الفاسي الذي امتزج فيه الشخصي بالوطني، ومرحلة ولادته التي هي مرحلة بداية الحماية، والانحطاط، ودعاة الجديد والقديم، والتي وجد نفسه إثرها “في زعامة التيار التحديثي مِن البداية”.

ويقول المحاضر إن علالا الفاسي “مفكر لا يجد مكانه في تاريخ الفكر المغربي، بل في تاريخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر بجانب المفكرين الكبار؛ فمكانته متميزة جدا بجانب طه حسين وعباس محمود العقاد والطاهر ابن عاشور وعبد العزيز جاويش وعبد المتعال الصعيدي، ومن الذين الذي يرتبط ميلاد الفكر العربي المعاصر بهم من أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد الحجوي، ونصوصه يجب أن ينظر إليها من هذا الجانب”.

ويصف الأكاديمي علالا الفاسي بكونه عالِما من المجددِين في الدين، في كتاب “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، خاصة في قسمه الأخير المتعلق بنظام الحكم في الإسلام والدولة والمواطن والسياسة. ووضَعه، هنا، في مرتبة رائد الفكر الإصلاحي محمد عبده.

ويقف المتحدث عند كتاب “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي” لعلال الفاسي وخاتمته، التي قالت في نهاية الأربعينيات، بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، إن المغرب سيصل إلى الاستقلال شاء الاستعمار ذاك أم كره؛ لكن ماذا أعددنا لهذا الاستقلال؟ وكيف نريد أن يكون مغرب الغد؟ خاصة في نقطتين: أي نظام سياسي؟ بمعنى أي نوع من الأنظمة الملَكية؟ وأي مجتمع نريد أن نؤسسَه؟

ويذكر سعيد بنسعيد أن علالا الفاسي قد قدم مثالا بالإسبان الذين استغلوا فرصة فراغهم من الحكم للتفكير في الغد، ودعا إلى التفكير في المغرب لاستثمار فترة ما قبل الاستقلال والانشغال بالمسؤولية السياسية؛ وهو “ما دفعه إلى تأليف كتاب “النقد الذاتي”، الذي يحمل في جوفه أفكارا كبيرة: فكرة الدولة، المجتمع، الدين الإسلامي والعلاقة به، والإسمنت الثقافي الرابط بين كل هذا”.

وعكس التصنيف السائد، يشدد الوجه البارز للدرس الأكاديمي الفلسفي على أن علالا الفاسي كان “ضد التقليد، ومع التجديد والحداثة”، بل “هو مفكر الحداثة في المغرب”.

ويسترسل العلوي شارحا: “علال الفاسي العالِم، يقول فكرة مهمة جدا؛ فنعرف أن الفقه يميز بين العبادات والمعاملات، وفي المعاملات المصالح التي هي اجتهاد بشري، ولا علاقة لها بالعبادات والعقيدة في نهاية الأمر، ويقول بصراحة في “النقد الذاتي”: إنما الدولة قضية مصلحية، تتصل بمصالح العباد، أي علينا الاستفادة من تجارب الأمم، والأخذ بأسبابها”.

ويورد المتحدث أن “جواب علاقة الدين بالسياسة” في كتاب علال “مقاصد الشريعة ومكارمها”، وتكملته في “دفاع عن الشريعة”؛ فمفهوم السيادة، الذي هو أحد المفهومين اللذين يقوم عليها الفكر السياسي الحديث، يرتبط بالشعب وبالأمة، لتمييزه بين “السيادة المطلقة لله تعالى”، و”السيادة العملية في أرض الواقع التي هي للشعب والأمة”، وهو ما تنتج عنه “فكرة المواطن وكرامة المواطن، ومعانقته للحداثة من أولها إلى آخرها”.

ويفسر العلوي هذا بقوله: “علال الفاسي طيلة عمره يدافع عن وطن معروف الحدود، ثم يأتي من يقول له هناك دولة إسلامية لا حدود لها، لا يمكن؛ فهو دافع عن وطن معلوم برموزه ومواطنيه وسيادةِ تمارَس، ولا يتنازل عن السيادة، وإبداعه في هذا لا يقدره الكثير من الباحثين”.

ويزيد المتدخل: “مفهوم العصرية عنده هو “الحداثة” اليوم، فهو يميز بين مجال العمل الديني ومجال العمل السياسي، ولا يخلط بينهما، وجواب السؤال السياسي عنده ليس بالاستشهاد بالآيات والأحاديث بل بالبرامج السياسية من تعادلية، ومنهجِ استقلالية، والبرامج المقدمة لمؤتمرَات حزب الاستقلال، وكتاباته التوضيحية في هذا الباب، وبدفاعه عن الديمقراطية والحرية، وعن حقوق الإنسان.

وينفي العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس عن علال الفاسي صفة “السلفي”، ولو بمعناها الإصلاحي السابقِ عن السلفية الراهنة، مذكرا بأن الفقيد قد “اعتبرها مرحلة تاريخية مر بها”، قبل أن يضيف: “لو رأى ما جرى من ويلات باسم السلفية، لقال لهم إني براء منكم”. كما دعا في الإطار ذاته إلى “إعادة قراءة فكر علال الفاسي قراءة نقدية مستنيرة، تبعد مجموعة من الخرافات، وما نلوكه من كلام”.

ويذكر سعيد بنسعيد بأن أعظم ما أعجب علالا الفاسي في التزام المغاربة بالشريعة هو “حفاظها على وحدتهم ورابطتهم”، ثم استرسل قائلا: فكره كله فيه الأسبقية للوطنية، لكنها ليست وطنية مقفلة بل وطنية مفتوحة ومستنيرة، وربما هو أول من ترجم مفهوم “Humanisme”، بـ”الإنسية”، التي لَم تظهر لا في مصر ولا لبنان بل في المغرب في كتاباته.

ويرى المتحدث ذاته أن إسلام علال الفاسي هو “إسلام العقل المستنير”، الذي يظهر في ثمانية دروس حسنية ألقاها حول معاني العدل والخير والمواطنة والسلام وإطعام الطعام، وذكر بـ”معركته الأولى ضد الطرُقية” التي كانت معركة “ضد استغلال الدين”.

ويسجل الأكاديمي والمفكر المغربي أن فكر علال الفاسي “يتجه إلى المستقبل”، و”لا يهمه الماضي إلا بمقدار ما نستمده منه من دروس، من قبيل الشجاعة وعمق الهوية المغربية والانتماء”، أما همه الحقيقي فهو “المستقبَل، والوطن، والمواطنون، وكرامة الإنسان، وإقامة دولة الحق”.

من جهته، تحدث عبد الواحد الفاسي، قيادي في حزب الاستقلال طبيب نجل علال الفاسي، عن والده، وأصل أسرته الأندلسي، ونشأة علال الفاسي وحيدا لأبويه، ثم يتيم الأم منذ سن الخامسة، وحفظه القرآن في سن صغيرة، والتحاقه بالقرويين في سنة الثانية عشرة، وحرمان الاستعمار الفرنسي له من شهادة العالِمية بعدما حازها، في سنة 1930، مع أستاذين آخرين هما إبراهيم الكتاني وعبد العزيز ابن إدريس العمراوي، بسبب نشاطهم السياسي ضد ظهير 16 ماي في تلك السنة، المعروف بـ”الظهير البربري”.

وتوقف عبد الواحد الفاسي عند أول سجن لعلال الفاسي، ونفيه سنة 1937، وشخصيته المتعددة، حيث “كان يهتم بكل شيء، ويقرأ كل شيء بالعربية، وبالفرنسية التي تعلمها في منفاه بالغابون، وكان يستطيع الانسجام مع الجميع، وكان يعتبر أبناءه مثل جميع أبناء المغرب، وكان حبه الأول بعد الوطن هو الكتُب (…) وكان يريد شعبا واحِدا موحدا”.

hespress.com