السرعة القصوى في طيِّ ملف الصحراء
أرشيف


إدريس الواغيش


الجمعة 18 دجنبر 2020 – 15:15

لست ممثلا للدبلوماسية المغربية ولا أدافع عن قرار أي جهة رسمية، وأقر بأنني لست خبيرا في الإستراتيجيات الكبرى ولا أفقه كثيرا في القضايا الدولية، لكنني أعبر عن وجهة نظري كأي مواطن مغربي يحب بلده ويهمّه ما يقع في محيطه الإقليمي والدولي.

لقد لاحظت كثرة اللغط والكلام المباح في الأوساط الشعبية المغربية في الأيام الأخيرة، إلى درجة أصبح فيها الجميع فقيها سياسيا، كما استمعت إلى فضاضات ساقطة أحيانا إلى حناجر مبحوحة مدفوعة الأجر في الغالب على بعض القنوات العربية الرسمية وغير الرسمية، بعد اعتراف الولايات الأمريكية بمغربية الصحراء في مقابل “التطبيع” مع دولة إسرائيل.. وكأنهم كانوا ينتظرون ما حدث للكشف عن أنيابهم في أكثر الحالات بسوء نية لتصفية حسابات قديمة، ويثرثرون في أقل الحالات عن حسنها، وبالتالي انتقل الحديث من قفزة المغرب الصناعية إلى حديث المحللين في الصحافة العربية والدولية عن حالة “التطبيع” الطارئة.

وهذا دليل آخر على القيمة التي أصبح يحظى بها المغرب في الميزان الدولي كقوة إقليمية تسارع الخطى كي تصبح في المستقبل القريب قوة ناعمة وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي؛ وذلك لعدة اعتبارات: أولها ما يشهده المغرب من إقلاع اقتصادي، وثانيها ما يتمتع به من موقع إستراتيجي يُحسد عليه، خصوصا بعد أن عرف كيف يوظفه توظيفا جيدا في السنوات الأخيرة، بحيث أصبح لا غنى عنه كمَمر لمنتجات تركيا أو طريق الحرير الصيني مستقبلا إلى غرب إفريقيا، وثالثها ما يتمتع به من علاقات دولية عرف كيف يحافظ على توازنها باحترافية بين الشرق والغرب، وعدم الارتماء كليا في أحضان أي قوة كانت شرقية أو غربية، رغم ما يبدو من ميل في ظاهر الأمر إلى الضفة الأخرى على المحيط الأطلسي، وهذا يرجع بالأساس إلى متانة علاقته التاريخية بالولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية عظمى؛ وهو أمر طبيعي بصفته أول دولة تعترف باستقلالها إبان حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله في 20 فبراير 1778، متحديا بذلك قوى استعمارية كبرى كانت تتحكم في رقاب عدد من الدول وشعوبها كفرنسا وإنجلترا، وهو ما يذكره كل الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين على البيت الأبيض بفخر في كل مناسبة انتخابية أو غيرها من باراك أوباما إلى دونالد ترامب وجو بايدن في خطاباتهما الأخيرة، وأيضا لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تدبّر مُجريات الأحداث في العالم بصفتها القوة العظمى؛ وإن بدا عدم اكتراثها بما يجري من نزاعات في بعض المناطق، فإن ذلك مرده إلى مصلحة هي أدرى بها وتعرفها جيدا، لكنها مع ذلك تبقى في الغالب متحكمة في مجريات الأحداث من وراء حجاب.

وفي هذه الحالة بالذات اختلط على الناس الموقف الديني مع ما هو إيديولوجي محض أو حتى قومي عربي صرف، ولم يعودوا يميزون بين كثير من الأمور، أو تستغلها كل جهة حسب مزاجها أو أهوائها ومصلحتها، مع العلم أن الجميع يعرف أن المغرب وإن كان من أكثر الدول الإسلامية والعربية بُعدا عن فلسطين جغرافيا، إلا أنه في الوقت نفسه كان دائما من أكثر الدول قربا إلى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من الجانب العاطفي والوجداني وحتى العملي، لأن فلسطين وعاصمتها القدس كانت وستظل متجذرة في الوعي الجَمعي المغربي، حتى أصبحت القضية الفلسطينية تنافس قضية الوحدة الترابية المغربية، وهي كما نعلم جميعا من القضايا المقدسة عند كافة المغاربة. لذلك يبقى في كل الأحوال حصول تطبيع شعبي مغربي مع الكيان الصهيوني أمرا مستبعد جدا، وذلك بعيدا عن أمزجة السياسة والسياسيين المتقلبة في الغالب. وللتذكير فقط، فقد فتح المغرب مكتب اتصال إسرائيلي في الرباط، وكان قرارا سياديا ولم يستشر فيه أحدا، وحين أغلقه لدوافع موضوعية تتعلق أساسا بدعم الانتفاضة الفلسطينية لم ينتظر أيضا رأي أحد. وفي السياسة دائما ما هو ممكن اليوم قد يصبح غدا ملغى وغير موجود.

لكن دعنا نصارح إخوتنا في المشرق العربي كما في المغرب قليلا من باب عتاب الأخوة، ألم نكن في الصفوف الأمامية دفاعا عن العروبة وفلسطين منذ عهد صلاح الدين الأيوبي وإلى حدود نهاية القرن العشرين في حرب أكتوبر 1973م، وأبلى الجنود المغاربة البلاء الحسن في الحرب كما في السلم وأبانوا عن شجاعة نادرة في الحرب مع جمهورية مصر ضد الجيش الإسرائيلي، وفي الجولان بسوريا، دون أن تمُنّ المملكة المغربية بذلك على أشقائها، رغم أن حافظ الأسد دفع بالجنود المغاربة إلى المجزرة الإسرائيلية لولا تدخل الغطاء الجوي العراقي؟ ثم ألم ندعم الثورة الجزائرية منذ اندلاعها مع الأمير عبد القادر، فآوينا ثوراها ورجالها وزعماءها التاريخيين، الحقيقيون منهم والمنتسبون إليها زورا وبهتانا مثل الهواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة ودعّمناهم بالمال والسلاح، والنتيجة أننا طعنا في الظهر أكثر من مرة من قبل أغلب هؤلاء الأشقاء أنفسهم في وحدتنا الترابية، بدءا من حافظ الأسد إلى جمال عبد الناصر ووصولا إلى بوتفليقة وبومدين؟.

ولذلك لا يزايد علينا أحد في إسلامنا وعروبتنا ومبادئنا، ودعنا نكون صرحاء مع بعضنا ولو لمرة واحدة في العمر، ماذا قدمه الإخوة العرب للمغرب في محنته مع وحدته الترابية منذ المسيرة الخضراء سنة 1975م وإلى اليوم؟ وقبلها مع المحتلين الفرنسي في الوسط والإسباني في الشمال والصحراء في الجنوب؟ ومع ذلك صبرنا على كل ذلك كشعب مغربي أصيل، وقلنا نحن أشقاء ولا لوم على طعن الأشقاء لنا في الظهر خفية كما في الصدر جهارا نهارا .لكن اليوم يأتي علينا صيادو الماء العكر من سفهاء الداخل والخارج ويقولون لنا إن المغرب باع القضية الفلسطينية وخانها دون حشمة ولا تقدير للتاريخ القريب أو البعيد، رغم أننا كنا ومازلنا الأقرب إلى فلسطين والقدس قلبا وقالبا، ووجدنا أكثر من أي دولة عربية أو إسلامية أخرى، ونحن الأبعد عنها من حيث الجغرافية والمسافة.

ختما وختاما، المغرب انتقل إلى السرعة القصوى في توحيد شماله بجنوبه وطيّ ملف الصحراء، وأي كلام آخر يبقى مجرد هراء، واليهود مواطنون مغاربة مثلنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا في أرض تجمعنا، وقد كانوا دائما وأبدا موجودين بين ظهراننا في المغرب ولديهم هنا ديار وعقار. وتبقى السياسة في الأول والأخير لعبة مصالح، أصبح المغرب يتقنها دون تفريط ولا إفراط في مبادئه، ولذلك نحن كشعب لن نفرط في حبة رمل من صحرائنا مهما كلفنا ذلك من ثمن، إذ لا توجد بيننا وفينا ومعنا أسرة أو عائلة لم تفقد جدا أو أبا أو ابنا دفاعا عن الصحراء المغربية، ومن يقول عكس ذلك أو إن الصحراء مجرد “كثبان من الرمال” عليه أن يعطي صحراءه لمن يشاء من المشائين. كما أننا أيضا لن نفرط في فلسطين وفي القدس، لأنها تبقى أولا وأخيرا قضيتنا وقبلتنا الثانية المقدسة. وقضية فلسطين هي أيضا بكل بساطة وبعيدا عن لعبة السياسة قضية آمنا بقدسيتها حتى النخاع مثلما آمنا بقدسية وحدتنا الترابية من الشمال إلى الجنوب.

hespress.com