في أربعين قصيدة، يستشعر محمد السكتاوي “دبيب الحياة الصامت وتحوّلات كائن إنسانيّ تحت الحَجْر كما عاشها منعزلا في شرفة، تطلّ على قارّة بعيدة ضربها وباء أسود”.

جاء هذا في أحدث دواوين الشاعر والحقوقيّ المغربيّ محمد السكتاوي المعنون بـ”الشرفات الأربعون”، الصّادر عن منشورات دار التوحيدي.

ومِن “شرفة على حافّة العالَم”، يطلّ الشاعر وراء حدود البحر على كلّ الفصول والرياح، وحرائق المدن الغاضبة، بينما الشجرة التي غرسَ شتيلتها تنمو خلف الشرفة، و”هي” دليل الروح وسط الخراب، بقِيَ جذر الشجرة في صلبها، يَطلب منها أن تبقى، كما كانت، عصفورا معلّقا بين قارّتَين يسعى بين الحقيقة والمجاز.

وفي “الزقاق الأخير”، قصّة قلق من زمن الحَجر، يتحدّث فيها الشاعر عن طائرة حبيبته التي لم تُقلِع، وبقيت جاثمة في مطار كثيفِ الضّباب، وجلسة قراءته الضّجِرَة، ليلتقي في نومه القلق عالمُ الناس وعالم الأدب في عالَم الكوابيس، ليستيقظ مرتجفا يصيح “ماذا أفعل بوجودي .. وأنت بعيدة عنّي .. كلّما اقتربتُ منكِ تبدّدتِ كالسراب”، إلى أن تصل رسالة جديدة عن الانتظار المتبادل، ليكون جوابه: “سألقّح يا حبيبتي الغمامَ المسافر .. بذورَ وَشوشاتنا التي احترقَت .. ذاتَ ليلة على شِفاهنا .. حتى إذا تساقطَ المطر .. قرأتِ حكاياتِ عشقنا .. في حروف الماء تنسابُ .. متلألئة على زجاج شرفتك”.

وفي “وردة الحلّاج في بيتي”، يكتب الشاعر عن الحلاج الذي أيقظه في ليلة ليجدها معه في رؤياهُ، فارتديا رقع جبّتين وسارا كل في طريقه، ضاربين في الأرض كعبيد هاربين وآثار السياط على ظهورهما، ليعبرا ذواتهما دون أن يصلا إلى خلوة الرّوح، ودون أن يجد الشاعر “طريقا مفتوحا إليّ إليك”، ليعودا إلى ما وراء العمر، فيجدا الحلّاج مشنوقا على باب بغداد، وحرس الخليفة يعدّون حطَب المحرقة، فيقول: “كان دمُه دمي .. تبَرعم وردة في داخِلي .. فألقيتها عشقا عليكِ” إلى أن ينتفض الحلّاج “سكران بالفناء” ويصيح من فوق عمود مشنقته “يا خليلي لا تفعَل .. وردة الحبيب تؤلم”.

ويكتب الشاعر عن الحرب التي انتهت دون أن ينتهِي زمن الطوارئ، وعن الراعي الذي رحل إلى عالَم آخر ناسيا رعيّته الأولى، وعن الصبيّ الذي كانه، ولجام الوهم الذي يمسكه، والمدن المحاصرة، والحكايات التي نحتاجها، ولو كانت مجرّد حكايات، لمنازلة الأشباح الخبيئة وشقّ الدّرب ما بعد الخَلوة، والإسراء إلى المحبوب بعد نفض غبار الوباء.

كما يكتب محمد السكتاوي عن العُزلة التي ملَكنا فيها العالَم، وأطلّ فيها كلّ واحد مِن شرفته ممتدّا في المدى اللامحدود، يجري بلا مصبّ، في خلوته، يكتمل خلقُه، وعلى رقبة العالَم قدرٌ يجثو، فيما يطوف الكهنة الفاسقون بإرث الله، آملا/آمرا في مقايضة أخيرة يستردّ فيها ما أُخذ منه، مقابل الكلمات الأولى والأخيرة…

كما يجد القارئ في الشرفاتِ الأربعين، أبياتا عن أمل انتفاض الموج لتنبعث من رحمهِ ثورة الكون الكامنة، ليبدأ السفر خارج أسر القدر، وأخرى عن العالم الذي ضاق لمّا كبُر، والسّفن التي صدئت، والبحر الذي تكشّف مليئا بالغرقى بعدما انقشع الضباب، وبحثِه عن دمه في كلّ المرافئ، دون أن يجد غير زجاجة قذفها في لجّته ذات خريف، ليكسّرها، بعد رؤيته، على الصّخر، بعدما كانت في قلبِها مرثيّة لِزمن قديم، وكفنٌ من ورق أبيض يلفّ جثّة حلمه.

hespress.com