منذ فيلم “صمت الحملان”، 1992 للمخرج جونتان ديم، الذي يلعب فيه دور الوحش الآدمي الدموي المؤمن بعقيدة القتل، إلى فيلمه الأخير “الأب” «The Father» 2020، الذي يتحدث عن الشيخوخة وفقدان الذاكرة والضعف الإنساني، ما فتئ يدهشنا سير أنتوني هوبكنز بأدائه الراقي والبديع لمختلف الشخصيات المركبة والمتنوعة التي طبعت مساره السينمائي.
فكرت في هذا الأمر وأنا أتابع فيلم “الأب”، وهو إنتاج مشترك بريطاني فرنسي للعام 2020 نال عنه أنتوني هوبكنز جائزة الأوسكار كأحسن ممثل، فيما فاز الفيلم أيضا بجائزة إضافية عن أفضل سيناريو مقتبس عن عمل مسرحي تحت العنوان نفسه.
تدور أحداث الفيلم، الذي يعد التجربة الأولى في السينما لمخرجه الكاتب الروائي والمسرحي الفرنسي فلوريان زيلر، حول أب عجوز يعاني ينحدر بالتدريج نحو مرض الخرف.
ومثل شجرة تفقد أوراقها، تفقد ذاكرة العجوز أنتوني، وهو اسم الشخصية الرئيسية في الفيلم، قدرة التركيز على الأشخاص والأحداث، الزمان والأمكنة، ولعل الكتابة المتقطعة للسيناريو التي مزجت لحظات الصحو مع لحظات الاستيهام لدى العجوز أنتوني فرضت على المتلقي أن لا يكون محض متفرج، بل مرافقا للمعاناة النفسية القاسية التي ينحدر إليها بطل الفيلم بالتدريج، والتمييز في انفعالات هذه الذاكرة المنفلتة، بين الواقعي وغير الواقعي من الذكريات والمواقف واللحظات التي تتفاعل داخلها شخصية بطل الفيلم، بوجهيه الجميل أحيانا والقبيح أيضا وداخل دوامة من أحاسيس متناقضة تراوحت بين الغضب والخوف واليأس.
لا يمكن بأي حال أن نعتبر هذا الفيلم من الأعمال السينمائية الجميلة، بالنظر إلى حساسية الموضوع الذي يتناوله، وما يميزه من سوداوية، ومن إقحام للمشاهد في عمق معاناة الرجل العجوز أنتوني وهو يغرق في نسيان كل شيء، والإحساس بالضعف الإنساني الشديد والمعاناة مع تجربة الخَرَف في الشوط الأخير من الحياة، وانكسار العلاقة الإنسانية مع المحيط الاجتماعي ومع المقربين.
لا يستطيع المتفرج أن يكبح عواطفه وهو يتنقل بين مشاهد الفيلم، ويتابع العجوز أنتوني وهو يفقد ارتباطه بالواقع ويفقد القدرة على التواصل أو التذكر، بل لم يعد يملك حتى قدرة التعبير عما بدواخله من ألم ومن رغبات.
فيلم قوي، تجري أحداثه داخل فضاء مغلق، عبارة عن شقة صغيرة، سيناريو بكتابة محبوكة وعميقة، بل ودقيقة تلجأ إلى العديد من التقنيات المسرحية التي تم توظيفها سينمائيا بشكل بديع لمعالجة هذه التجربة الإنسانية ومقاربة الألم الذي يرافقها، وقد كان اختيارا موفقا للتعامل مع موضوع سيء وقاس، نادرا ما لا يتم الحديث عنه.
الفيلم ليس جميلا، بالمعنى الممتع للسينما، لكنه فيلم قوي وأغلب عناصر الجمال فيه، تتجلى في الأداء الباهر للمبدع أنتوني هوبكنز الذي رغم بلوغه الثمانين من العمر ظل يؤكد بالملموس ومنذ ستين سنة من الممارسة، أنه واحد من الممثلين الكبار الخالدين، وأحد السحرة الماهرين القادمين إلى الفن السابع من خشبة المسرح بسجله الحافل في التعامل مع العديد من الشخصيات الشكسبيرية على خشبة المسرح الإنجليزي، أسس بالاستناد إليها تجربة سينمائية قدم خلالها العديد من الشخصيات المختلفة، بل الغريبة في بنياتها النفسية والسلوكية، باقتدار كبير. ولعل أنتوني هوبكنز في هذا الفيلم بدا في ذروة تجربته، بل ذروة طاقته التعبيرية التي يتمكن من خلالها من السيطرة على حواس المتلقي.
تلعب دور ابنة العجوز إلى جانب هوبكنز، اوليفيا كولمان، وهي إحدى النجمات الإنجليزيات الكبيرات، حائزة على جائزة الأوسكار، وقد شكلت مشاركتها إضافة نوعية حقيقية لهذا الشريط الجدير بالمشاهدة والتأمل.