بخيط رفيع وناظم، وبتعبير سلس وناعم، افتتح الشاعر سعد سرحان مقالا له حول اللغة والنّسغ والثّمر باستحضار “جودة الخشب” و”عبق الألوان” و”سمفونية بيتهوفن”، و”أُذُن فان غوخ”، وأوجه التشابه بين الشعراء وخبراء العطور.

ومن بين الومضات التي تضمنها المقال إشارة سعد سرحان إلى أن “الخيال شجرة باسقة، ومع كلّ بُرعم يخضرُّ أَلِفُ الأمل، والشفاء أعشابٌ حكيمةٌ، وللانتصار أغصانٌ في شجر الغار”، مضيفا أنه ما من كلمةٍ إلّا ولها قرينٌ “جذرٌ أو عطرٌ”، “ظِلٌّ أو طَلٌّ”، “غصنٌ أو نسغٌ”.

وبعد أن تناول سرحان ثنائيات و”قرائن” باللغة الفرنسية، ختم مقاله بالقول “لَكَمْ أريد لهذه النّزهة أن تستمرّ، لكن، في أرض اللّغات الواسعة، الثّمار لا تُعَدُّ والعناقيد لا تُحصى، وما مِن مائدة، حتى لو كانت مصنوعةً من خشبِ غابةٍ كاملة، تستطيع أن تعرضها جميعًا. فكيف بورقةٍ كهذه؟ كيف بورقةٍ، والأمر يحتاج لا إلى كتاب، بل إلى مكتبة؟”.

وهذا نص المقال:

يقينًا أنّ عمقَ المعرفة بمادّة الاشتغال هو أساس جودة الاشتغال بهذه المادّة.

فلئن كان الخشب، مثلًا، اسمًا جامعًا مانعًا للغابة، فإنّ الأبنوسَ غيرُ السّاج، والسنديّانَ غير السّرْو، والقَيْقَبَ غير الأكاجو… والصّندلَ غيرها جميعًا. لذلك، فالنجّار الجيّد يعرف الغابة، حتى دون أن يبرح ورشته، أكثر مِمّا يعرفها حاطب اللّيل.

ولعلّ المعرفةَ بالألوان والقدرةَ على النّفاذ إلى روحها الخالدة هما اللّذان مَكَّنا جاك ماجوريل من إهداء مرّاكش الحمراء، ليس فقط تلك الحديقة الثّرية بالحياة، بل أيضًا أزرقه الفريد: أزرق ماجوريل.

وما دام اللّون باللّون يُذكر، فإنّ فان غوخ أهدى أوروبا كلّها ثروة طائلة من ذلك الأصفر الذي قطّره من عروق الذّهب في روحه، قبل أن يُضْفيه على أزهار عبّاد الشمس، هو الذي مات فقيرًا مقطوع الأذن.

وإذا كان من نظير لفان غوخ في كل تاريخ الفنّ، فهو بيتهوفن الذي عاش، هو الآخر، الفقرَ كقَدَرٍ ذي يد ثقيلة أوسعت باب حياته طَرْقًا، فاستلهم من طَرَقات القدر تلكَ رائعتَه التي تحمل نفس العنوان، والمعروفة بالسيمفونية الخامسة. ولئن كان فان غوخ قد قطع أذنه في حكاية مشهورة، فإنّ بيتهوفن انقطع سمعه تمامًا في العقد الأخير من حياته. ومن صميم الصَّمَم أورث العالم السيمفونية التاسعة التي تُعتبر درّة التاج في الموسيقى الكلاسيكية، مُؤكِّدًا بذلك أنّه، بِطبلة في القلب لا في الأذن، عاش وهو يُصيخُ للعالم الرّوح أيضًا لا السّمع فقط.

وإذا كانت الألوان حُلّةً للغابة والأصوات حُجّةً لها على الحياة، فإنّ أنفاسَها هي العطور التي تضوع من السّاق والأوراق والتُّوَيْج، كما قد تفعل من سُرَّة الغزالْ. وحتّى تنتهي العطور إلى أعناق النّساء وياقات الرّجالْ، كان لا بدّ لها من شعراء مُبَرَّزين يصوغونها فوّاحةً قبل أن يسكبوها في قوارير بديعةٍ تليق بجلالتها. وليس عبثًا تشبيه خبراء العطور بالشعراء، فقديمًا كان يُطلب من هؤلاء حفظ ألف بيت من الشّعر قبل أن يقرظوه. أمّا أولئك، فمنهم من يحفظ خمسة آلاف رائحة. فلا عجب، إذن، أن عُهِد إليهم بالإشراف على زواج الشعر بالكيمياء، الزّواجِ الذي أسفر عن ديوان العطر.

الغابة بألوانها وأصواتها وروائحها هي الأقرب إلى تمثيل اللغة. فما لم تتمتّع الكلمات بهذه العناصر، تكون جثثًا من خشب، ولَكَمْ هي محظوظةٌ لو كانت من خشب الصّندل.

ففي غابة الكلمات:

الخيال شجرة باسقة

ومع كلّ بُرعم يخضرُّ أَلِفُ الأمل

الشفاء أعشابٌ حكيمةٌ

وللانتصار أغصانٌ في شجر الغار

وما من كلمةٍ إلّا ولها قرينٌ:

جذرٌ أو عطرٌ

ظِلٌّ أو طَلٌّ

غصنٌ أو نسغٌ

ويشهد الصّمغُ أنّ ثمّة مُعجمًا غابرًا في اللِّحاء.

فلنقل إذن: الغابة قاموسٌ منه تتحدّر الحدائق والبساتين نصوصًا، ومنه، أيضًا، تتخلّق شذرات الأصص.

لهذا، يتبادل الكاتب والبستانيّ الأدواتِ والخِبراتِ، فيشذّبُ الأوّل عمله مُستحضرًا مقصّ الثّاني، ويُضْمر هذا قلمَ ذاك وهو يُقَلِّم الأشجار، أمّا التّلقيم والتّلقيح فهما النّحت والتّوليد… وهكذا: ما من سَعْيٍ لأحدهما بدون مسعى للآخر.

فيقينًا، مرّةً أخرى، أنّ عمقَ المعرفة بألوان الكلمات وموسيقاها وعطورها…هو ما جعل بعض الأفذاذ قادرين على نفخ روح الغابة في أجساد الحدائق. وللعمق ذاك والرّوح تلكَ نحن مدينون بالمنتزهات الخالدة فوق رفوف المكتبات.

ما من كثافة تضاهي كثافتها، فكثافة الغابة مركّبةٌ من تشابُك الأغصان وتداخُل الظّلال والْتِفاف الجذور على الجذورْ. بل حتّى أنفاسها، إنّما هي مزيجٌ من أنفاس الأوراق والحشرات والطيورْ والقوارض والزواحف والزهورْ والتراب والماء والبذورْ…

ما من شيء يضاهيها كثافةً عدا اللّغة، ففي غابتها، غابةِ اللّغة، قد تتغذّى شجرةٌ من نسغ جارتها، وقد تتدلّى لهذه ثمارٌ لغصنٍ من تلكَ… وقد تتشابه الأوراق، فيتشابه علينا الشّجر.

إنّني أقيم بعيدًا عن الغابة، أمّا اللّغة فهي أحد عناويني التي لا يخطئها بريد. لذلك، فدعوتي ستكون إليها. فالضّربُ قليلًا في أرضها لضرب الأمثال منها، إنّما هو، أيضًا، ضربٌ من النّزهة.

لمدّة طويلة، سَعَتِ اللغة العربيّة كلامًا، قبل أن تَسْتَتِبَّ لها الكتابةُ. لذلك، جاءت أداةُ هذه قريبةً نُطْقًا من ذاك: القلم. فالقلم صِنْوُ الكَلِم، وهو أيضًا الغصنُ الذي يعبره نسغ الكلام إلى ثمر الكتابة. أمّا اللّغة الفرنسيّة، فلا تربط القلم بالكلام أو الكتابة، وإنّما بالأسلوب. لذلك، اشتقّت أحدهما من الآخر، فجاءت الكلمتان:

Le style et le stylo

لقد قطعت الكتابة رحلةً طويلة من الرُّقُم الطينيّة إلى أوراق البرديّ إلى الجلود… قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن. ولعلَّ وجهها الأبرز، في كلّ العصور، هو المكتبة، تلكَ التي كانت الحروب، قديمًا، تستهدفها ضمن ما تستهدف بإحراقها أو إغراقها؛ فهي، عند قومها، أعزّ من الزّرع والضّرع، كيف لا وحجر الزاوية فيها مقدّسٌ؟ فالمكتبتان العربيّة والفرنسية إنّما هما ثمرتان بنسغ دينيّ؛ فالمكتبة العربية مشتقّة من الكتاب: ذلك الكتاب لا ريب. أمّا المكتبة الفرنسيّة فتُنسب إلى الإنجيل فإذا هو وهي كالتالي:

La bible et la bibliothèque

وثمة كلمات تُنسب إلى غير جذرها، لعلّ أشهرها كلمة “حبّ”. فهذه يُعَبَّرُ عنها غالبًا بثمرة حمراء على شكل قلب، مع أن لا نسغ لها منه. ففي العربيّة، اشتُقَّ الحبُّ من الحَوْباء، وهي من مرادفات الرّوح. أمّا في الفرنسيّة، فقد تخلّقت من الرّوح شخصيًّا كما توضّح الكلمتان:

L’âme et l’amour

أمّا لماذا القلب، فلأنّه صنو الرّوح، فهي تزهق بتوقُّفه عن النّبض.

لا يكتمل الحبّ بدون عِناق، فهذا تجسيد صادق لذاك. لذلك، نهلت اللّغة من قاموس الجسد؛ فالعربيّة أخذت التسميّة من العنق، فيما رأت الفرنسيّة في الذراعين أجمل تعبير كما في الفعل:

Embrasser

تاركةً العنقَ للعنف كما في هذا الفعل:

Secouer

ما يجري في لغات الحاضر له، بكلّ تأكيد، منابع في اللّغات الغابرة. فهذه كانت تنهل حتى من السّماء بعد أن رصّعتها بالآلهة، آلهةِ الأساطير وقد باتت كواكب. وحتى الآن، ما من روزنامة إلّا وفيها للقمر يومٌ كما للشّمس يوم، ولإلهِ الحرب شهرٌ كما لإله الخصب شهر… عدا أسماء الأسبوع في اللّغة العربيّة التي اعتمدت الأرقام من الأحد إلى الخميس، أمّا الجمعة عندها فهو يوم الجماعة والجامع والاجتماع، بينما السّبت آخِرُ الأسبوع، عنده ينقطع ليبتدئ آخَرُ: فمن معاني السّبت القَطْعُ. ومع ذلك، فهو لا يشُذُّ عن التّرقيم، فهو اليوم السابع، والعدد سبعة، يا للمصادفة، في اللغة الفرنسيّة، كما يُكتب لا كما يُنطَق هو:

Sept

ولنا أيضًا أن نلاحظ نسغ الزمن في هاتين الثمرتين. فالعربيّة تُعبِّر عن فساد الطّعام فتقول: سَنِهَ وتَسَنَّهَ، مثلما تعبّر عن تقادمه وتغيّر لونه وطعمه فتقول عنه إنه حائل. أمّا الأوّل فمن السّنة، وأمّا الثاني فمن الحَوْلِ، وهو الزّمن الذي يقضيه القمر في دورة كاملة حَوْل الأرض. ولمّا كان الطّعام الفرنسيّ سريعَ الفساد، إذ يكفيه لذلك شهرٌ واحد فقط، فقد اشتقّت له من الشهر الفعل فإذا هما:

Mois et moisir

لجهة القدرةِ والعجز، القابليّةِ وعدمها، تحتاج اللّغة إلى سابقة هنا ولاحقة هناك. ولعلّ منسوب سبق الإصرار في الصّدفة هو ما جعل كلمة “قابل” العربيّة تتخلّل، بنطقها الأعجمي “آبل”، أكثر من لغة. فما هو قابل للكسر، مثلًا، في العربيّة يصبح في الفرنسيّة:

Cassable

أمّا في الإنجليزية فقد يأتي هذا اللفظ لاحقةً، كما في الفرنسية، تعبيرًا عن القابليّة، مثلما يَرِدُ بمفرده تعبيرًا عن القدرة:

Able

في اللّغة كما في الشّجر، قد تتجلّى الثّمار حبّاتٍ كما قد تتجلّى عناقيد وأعذاقًا. وإذا كانت تلك هي الكلمات، فإنّ هذه هي الجُمل والتّعابير… أمّا الأولى، فقد ضربت منها أمثلة منتقاة عسى أن تُنبِّه إلى سواها مِمّا يُثقل الأغصان. وأمّا الثانية، فمن الكثرة والكثافة بحيث ما من أمثلة فيها تُغني عن غيرها. ومع ذلك، لا بأس من تذوّق بعض العناقيد.

لم يكن المسرح مِمّا لعبت فيه الثقافة العربية قديمًا، لذلك وجد ابن رشد نفسه في ورطة وهو يترجم كلمتيْ كوميديا وتراجيديا، وبقية الحكاية معروفة.

وفي كلّ الأدب العربي القديم، لا وجود لكلمةٍ نزلت من الركح أو اختفت وراء الكواليس، مثلما لا وجود لشخص لعب دورًا… فالعبارة “لعب دورًا” دخلت إلى العربيّة عبر الترجمة من لغة عريقة في المسرح. ولحسن الحظ أن لم يصادفها ابن رشد، فالرجل كان جادًّا تمامًا، وليس له في اللّعب، فأحرى في لعب الأدوار.

ومن تعابير القدماء أسوق هذه الجملة “لا ناقة ولا جمل” التي تخلّقت، كما هو واضح، غير بعيد عن البعر والبعير، سوى أنّ أصحابها انتقلوا من الوَبَر إلى المَدَر، وصارت لهم نضارة وحضارة، فلم يعد لائقًا أن تَخِدَ على ألسنتهم بأنفها وسنامها. لذلك، كان لا بُدّ لها من عمليّة تجميل تختفي معها المضارب وتلمع الواجهات. فبِأَلِفٍ هنا وآخر هناك صارت واثقة الخطوة تسعى هكذا: “لا أناقة ولا جمال”.

وليس أنجح من عمليّة التّجميل هذه سوى عمليّة التّبشيع التي تعرّضت لها إحدى العبارات الفرنسية.

ففي حكاية قديمة، أنّ شخصًا يُدعى مارسيل إِكْوِيْ صنع مزمارًا عجيبًا، مزمارًا تجتمع لصوته الطّرائد من الأرض ومن السماء. وقد طلب ثمنًا لصنيعه الفذّ رقمًا فلكيًّا، فصار بذلك مَضرب مثلٍ للغالي والنّفيس:

L’appeau d’Ecouille

وبسبب التّطابق التّام في النّطق مع اختلافٍ طفيف في الكتابة، سيتحوّل “مزمار إِكْوِيْ” عند الفرنسيين إلى “كيس الصَّفَنْ”:

La peau des couilles

وإذا غَضَضْنا السّمع عن بشاعة التّعبير، فهو حقًّا جِدُّ مُوفّق. فكيس الصَّفَن هو أغلى ما يملك الرّجل، ففيه كلّ رصيده من النّسل المُحتمل.
والمرأة؟ ماذا عن المرأة التي لا تملك كيس صفن؟ من المؤكّد أنّ اللّغة الفرنسيّة ظلمت المرأة بعمليّة التّبشيع تلك. وعزاؤها في اللّغة العربيّة التي رأت أنّ للمرأة كيسيْن، لا واحدًا فقط، كيسيْن مكتنزيْن لا يُقَدَّران بثمن: فالحرّة تجوع ولا تأكل بثديَيْها.

لَكَمْ أريد لهذه النّزهة أن تستمرّ. لكن، في أرض اللّغات الواسعة، الثّمار لا تُعَدُّ والعناقيد لا تُحصى، وما مِن مائدة، حتى لو كانت مصنوعةً من خشبِ غابةٍ كاملة، تستطيع أن تعرضها جميعًا. فكيف بورقةٍ كهذه؟ كيف بورقةٍ، والأمر يحتاج لا إلى كتاب، بل إلى مكتبة؟

hespress.com