مضت تسعة أشهر على مقتل جورج فلويد من غير أن تباشر الولايات المتحدة عملية إصلاح جذرية لجهاز الشرطة، لكنها تواصل التقدم بخطى محدودة وموضعية سعيا لمكافحة العنف والعنصرية في صفوف قوات حفظ النظام.
وكان لمقتل الأربعيني الأسود اختناقا تحت ركبة شرطي أبيض في 25 مايو في مينيابوليس بولاية مينيسوتا في شمال الولايات المتحدة، وقع الصدمة في البلاد، وأثار تظاهرات حاشدة استمرت أسابيع عدة مطالبة بإصلاحات.
ما الذي يبقى من هذه التعبئة الاستثنائية في وقت تبدأ فيه محاكمة الشرطي ديريك شوفين المتهم بقتل جورج فلويد؟
مناقشة جوهر المسألة
أهم ما حققته موجة الاحتجاجات هو تغيير في الأذهان. فإن كانت الأقلية السوداء تندد منذ سنوات بالتجاوزات المرتكبة في حقها، فإن غالبية الأميركيين، ولا سيما البيض منهم، كانت ما تزال تنظر إلى عناصر الشرطة بكثير من الاعتبار.
وأوضحت الأستاذة في كلية كاردوزو للحقوق في نيويورك كايت ليفين أنه “أمر مقبول ثقافيا في أميركا أن الشرطة ترتكب أعمال عنف. وثمة افتراض بأن الشرطة ترتكب أعمال عنف لأنها تواجه أعمال عنف”، مشيرة إلى أن “مقاطع الفيديو والتظاهرات وإفادات الضحايا سددت ضربة إلى هذا الافتراض”.
ولفتت الشرطية السوداء السابقة تريسي كيسي، التي ساهمت في تأسيس مركز المساواة في تعامل الشرطة، إلى أنه مع مقتل جورج فلويد “اضطر أشخاص لم يسبق أن ترتب عليهم التفكير في أعمال العنف التي ترتكبها الشرطة إلى القيام بذلك، ولو أن الأمر لم يكن سارّا لهم”.
تدابير آنية
صدرت دعوات منذ يونيو لاعتماد تغييرات جذرية، وتردد بصورة خاصة شعار يدعو إلى “قطع التمويل عن الشرطة”.
واتخذت تدابير عدة على الفور سعيا إلى “تهدئة النفوس”، بحسب ما أوضحت كيسي، فحظرت بعض المدن تقنية الضغط على عنق الموقوفين، فيما أعلنت مدن أخرى عن ملفات تأديبية في حق عناصر في شرطتها أو شددت برامج إعدادهم، فضلا عن تدابير أخرى.
وأقر مجلس النواب مسودة قانون تحد من الحصانة الواسعة التي يحظى بها عناصر الشرطة، ستطرح الآن للمناقشة في مجلس الشيوخ.
وبصورة عامة، باشرت الولايات المتحدة مراجعة لتاريخها، فأزالت العديد من التماثيل التي ترمز في معظمها إلى ماضيها المرتبط بتجارة الرقيق.
تعثر الجهود
مع تصاعد حدة الحملة الانتخابية، اتخذت المناقشات منحى سياسيا. وفي وقت سجلت فيه الجرائم ارتفاعا في المدن الكبرى، طرح الرئيس السابق دونالد ترامب نفسه في موقع المدافع عن “القانون والنظام”، متهما الديمقراطيين بالتساهل على هذا الصعيد.
ومع احتدام الأجواء، تم التخلي عن أي إصلاحات جذرية. وقالت ليفين: “جرت محاولة عابرة في مينيابوليس” حيث تعهد المجلس البلدي بـ “تفكيك” قوات حفظ النظام، لكن ليفين ذكرت أنه “لم يتم القيام بأي شيء” في نهاية المطاف.
وفي نيويورك، أقرت في يونيو اقتطاعات بقيمة مليار دولار في ميزانية الشرطة، غير أنه تم لاحقا خفضها إلى حد بعيد أو توزيعها على فترة طويلة. أما عملية الإصلاح الفدرالية، فأسقطها مجلس الشيوخ مرّة أولى.
أما على الأرض، فلم يسجل أي تحسن؛ إذ قضى ألف شخص برصاص الشرطة عام 2020، 28% منهم من السود، في حين إنهم لا يمثلون سوى 12% من سكان الولايات المتحدة.
كما رفض القضاء ملاحقة عناصر مسؤولين عن مقتل أميركيين سود غير مسلحين، مثل بريانا تايلور التي قتلت بالرصاص في شقتها في كنتاكي، ودانيال برود الذي قضى خنقا فيما كان مصابا بنوبة نفسية قرب نيويورك.
مبادرات متفرقة
رغم العقبات “تتواصل المناقشات” لأن “القادة على يقين بأن بعض الأمور لم تعد مقبولة”، برأي تريسي كيسي.
ووعد الرئيس جو بايدن، الذي انتخب بدعم غالبية من الأميركيين السود، بجعل مكافحة العنصرية إحدى أولوياته. وفي الكونغرس، صادق مجلس النواب من جديد على مشروع إصلاح الشرطة، ويأمل الديمقراطيون في التوصل إلى تسوية مع الجمهوريين في مجلس الشيوخ.
كما تتواصل الجهود على مستوى الولايات. فأقرت إيلينوي أخيرا إصلاحا للقانون الجنائي يتضمن تحديد قواعد جديدة لتقنيات التوقيف، كما تعتزم ماريلاند تشديد العقوبات في حق العناصر الذين يمارسون العنف.
هناك في الولايات المتحدة، 18 ألف جهاز لقوات حفظ النظام، ما بين مكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” وأجهزة الشرطة البلدية ودوريات الطرق العامة والقوات المحلية وغيرها. وقالت ليفين إن كثرة الأجهزة هذه تشكل عائقا لأنه “لا يمكن إجراء إصلاح واسع النطاق” ينطبق في كل أنحاء الولايات المتحدة، غير أنها في المقابل تفتح المجال للاختبارات.
وفي هذا السياق، حظرت مدينة بيركلي في كاليفورنيا مؤخرا معظم عمليات التدقيق في الأوراق على الطرق، سعيا للحد من الاحتكاك بين الشرطة والمواطنين.
ورأت كيسي أن “هذا البلد يقف حقا عند مفترق طرق”. وتابعت قائلة: “أظهر التاريخ أننا حاولنا التقدم في مناسبات عدة، ورغم ذلك ها نحن الآن في خانة البداية، من دون أن نكون وجدنا تسوية للمسألة العرقية”.
وأضافت: “لدينا فرصة جديدة للقيام بذلك بطريقة مغايرة”، مقرة في الوقت نفسه بأن “الأمر سيبدو مختلفا للغاية بحسب المنطقة التي يأتي منها كل واحد”.