مع سقوط صاروخ “تيانغونغ” الصيني الذي يعني “القصر السماوي” في المحيط الهندي، تبين أن الذي سقط حقيقة هو عالم التواصل الاجتماعي! فقد سقط معظم المتابعين في فخ تضخيم الحدث، وتنميط الصين عبر وسمها بأنها رزت العالم بوباء كورونا واليوم ترزيه ببلاء الصاروخ. عجت شبكات التواصل الاجتماعي وضجت بتوقعات مكان وزمان سقوط الصاروخ الطائش، وتراوحت بين التنكيت والتهويل؛ غير أن الرياح أتت بما تشتهي الصين، فصاروخها الطائش سقط في البحر ولقاحها “سينوفارم” ضد “كورونا” الذي استصغره الغرب نال اعتماداً رسمياً من منظمة الصحة العالمية.

قبل أن يسقط الصاروخ، جعله بعض المتابعين محط إسقاطاتهم الغيبية والباطنية؛ فمنهم من تمنى سقوطه على عدوه، ومنهم من كال السباب والشتائم للصين واعتبر شعبها امتداداً لياجوج وماجوج الذي سيُعجل بفناء الأرض، ومنهم من استحضر نظرية المؤامرة وأرغى وأزبد وادعى أن الصين تعمدت تطييش ذلك الصاروخ للتجسس على العالم، إلخ.

خلال الأيام الأخيرة، حبس الناس أنفاسهم وظلوا يتداولون تأويلات عجائبية غرائبية يستقونها من مصادر ومراجع غير متخصصة؛ بينما صموا آذانهم عن آراء العلماء الذين تحدثوا في قنوات تلفزيونية عديدة ووسائط متعددة في الإنترنت لطمأنة سكان كوكب الأرض بمختلف اللغات بأن الصاروخ الصيني ليس هو الأول الذي يخرج عن السيطرة بل سبقته صواريخ أخرى طاشت مثله وأنه سينتهي به المطاف على الأرجح في البحر أو في مناطق غير مأهولة بالسكان. ولكن يبدو أن معظم الناس تستهويهم قصص الخيال ويميلون أكثر إلى كل ما هو كارثي غيبي بدل ما هو حقائقي عقلاني علمي.

إذا عُدنا إلى أصل الحكاية، سنجد أن الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية هو الذي بدأ الحديث عن الصاروخ الصيني الطائش واستغل الأمر فرصة للوم الصين، علماً أن الأمر نفسه حدث سابقاً مع الولايات المتحدة وروسيا دون أن يحظى أي حدث منها بهذا الاهتمام الضخم. وقد اكتملت فصول الإثارة الهوليودية بتصريح لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، بأن بلاده ترصد مسار الصاروخ الصيني وأنها لن تسقطه، في تلميح إلى جعل الصين تتحمل مسؤوليتها التقصيرية في حال وقع ما لا يُحمد عقباه. وعلى الرغم من تصريح بعض العلماء الغربيين بأن الصاروخ لا يشكل خطورة على سكان الأرض وأنه سيسقط في البحر، فإن بعضهم الآخر اعتبر خروج الصاروخ عن التحكم يحمل مخاطر؛ ومنهم من أسهب في شيطنة الصين واتهامها بالإهمال والاستهتار، متماهين نسبياً في رأيهم هذا مع تصريحات الساسة، مما دفع الصين إلى اتهام العلماء الأمريكيين ووكالة “ناسا” بالابتعاد عن الضمير المهني والتفكير العقلاني واستغلال الحدث للتشكيك في كفاءة برنامج الفضاء الصيني وكبح تطوره السريع، خصوصاً أن هذا الصاروخ كان سيضع وحدة أساسية في محطة الفضاء الصينية التي ستكتمل العام المقبل وستصبح بعد 4 سنوات المحطة الفضائية الوحيدة في العالم عندما تُحال إلى التقاعد محطة الفضاء الدولية التي تشمل أهم وكالات الفضاء في العالم عدا الصين (ناسا الأمريكية وروسكوسموس الروسية وجاكسا اليابانية ووكالتا الفضاء الأوروبية والكندية).

الصين ماضية في طموحها الفضائي، وهي تُسير الرحلات الفضائية إلى القمر والمريخ وتنفذ في أقطار السماوات بسلطان العلم والحِلم. إن الولايات المتحدة فعلت كل ما تستطيع لمنع الصين من مزاحمتها في الفضاء؛ فأقدمت عام 1999 على فرض قيود على صادرات تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية إليها، وأقر الكونغرس عام 2011 تشريعاً يفرض تقييد تعاون وكالة “ناسا” مع الصين ومنع رواد الفضاء الصينيين من المشاركة في محطة الفضاء الدولية، فقصر ارتياد محطة الفضاء الدولية على رواد دول وصلت تسع عشرة دولة إلى الآن، باستثناء الصين. لكن هذه التضييقات أتت بنتائج عكسية، حيث تمكنت الصين من تطوير قدراتها الذاتية واستفادت من الخبرات الروسية وأطلقت العديد من الأقمار الاصطناعية والصواريخ والمركبات خلال العقدين الماضيين، بل وبنت محطة فضاء صينية خالصة ستكون بدءاً من العام المقبل سابع محطة فضائية في تاريخ كوكب الأرض، في الوقت الذي يشتكي الأمريكيون من الكلفة الباهظة للمحطة الدولية على الرغم من تقاسم أعبائها التي وصلت 150 مليار دولار في 2010 ويفكرون ويقترحون خصخصتها لجعل مهماتهم إلى القمر والمريخ قابلة للتحقق.

وكما سقط لروسيا وأمريكا في بداياتهما أكثر من صاروخ، فإن الصين تعد في بداياتها نظراً لالتحاقها المتأخر بركب الفضاء، وهو ما يفسر سقوط صاروخها السنة الماضية وتكرر الأمر هذا العام؛ لكن هذا لن يمنعها من مواصلة إطلاق صاروخ آخر بعد استخلاص دروس السقطة الثانية حتى تحقق هدفها، فمبدأ المحاولة والخطأ مبدأ شائع لدى من يخوض غمار العلم على مر التاريخ.

ولعل المتتبع لسيرة الصين في العقود الثلاثة الماضية يخرج بخلاصة مفادها أن الصين بارعة في التعامل مع النكسات دون الانتكاس، وتجاوز السقطات دون السقوط.. ولذلك، فهي حتماً ستواصل الطيران إلى الفضاء لبسط نفوذها الاقتصادي والعسكري أرضاً وبحراً وجواً، وفضاءً.

صراع الجبابرة هذا الذي انتقل إلى الفضاء بين أمريكا والصين له ما يبرره ويفسره؛ فقد أضحى الجميع يدرك أن من يسيطر على الفضاء سيسيطر على الأرض. كيف لا وكل تكنولوجيا الاتصالات والفضاء السيبراني والرقمي يجري التحكم فيه من الأقمار الاصطناعية السابحة في الفضاء، وهذه الأقمار الاصطناعية ذاتها يمكن تدميرها بأقمار اصطناعية مضادة لأغراض تكتيكية أو إستراتيجية. ولذلك، لا تفتأ أمريكا تتهم الصين، إلى جانب روسيا، بالسعي إلى عسكرة الفضاء وتسليحه؛ لكن أمريكا نفسها منخرطة في هذا المسار نفسه سنوات قبل إعلان رئيسها السابق دونالد ترامب منذ ثلاث سنوات تأسيسه وحدة سادسة في الجيش الأمريكي هي القوة الفضائية، وإلحاقه هذه القوة بالجيش أوضح دليل على أن أمريكا تعتبر الفضاء ساحة من ساحات الحرب والصراع العسكري المستقبلية.

ووسط صراع الجبابرة هذا وتطلعهم إلى حل مشكلات الأرض في الفضاء، نبقى نحن منتظرين أين ومتى سيسقط أحد الصواريخ الطائشة للمارد الصيني ونجتر تطيرنا وتفرجنا وترجيحنا النهايات التراجيدية.

hespress.com