يتناول الكتاب الجماعي “الطبقة الحاكمة في أمريكا: تأثير الأثرياء والنافذين في دولة ديمقراطية” النخبة الأمريكية من حيث أساليب حياتها في تنظيم الأسرة والسلوك الديني والعلاقات الاجتماعية والخبرة في مجال الأعمال ونماذج التضامن الإثني والسياسي.

تتنازع النخب الثروة والسلطة. ويكره الكتاب الأمريكيون الحديث عن النخبة لأن الديمقراطية تمنع جمود الحكم. ويحكي محررا الكتاب ستيف فرايزر وغاري غرستل (ترجمة حسان البستاني الدار العربية للعلوم ناشرون 2006) أن كل رئيس أمريكي يتمتع بشهرة حيوية ارتبط اسمه بحملة عنيفة ضد نخبة مغتصبة (ص: 11). لكن هناك خبرا سيئا: أمر غريب أن يؤثر الأثرياء في بلاد الحرية، ثم يمحوه خبر سار: أيا تكون عيوب الديمقراطية فهي لن تسمح باحتكار السلطة بشكل مستمر من قبل عصبة.

الاستقلال عن التاج البريطاني.. إقرار واقع:

كراهية الشيء لا يضمن زواله أو تعطيل تأثيره. فالنخب موجودة. ويفتخر الكاتب بالنخبة، التي وضعت مشروع مارشال وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي النخبة التي صممت إعادة بناء أوروبا الممزقة بطريقة ديمقراطية مناهضة للشيوعية (ص: 18). تأكيدا على مثل هذا الدور، يقدم المحرران توصيفا للنخبة الأمريكية بأقلام مختلفة في ثمانية فصول، هذا عرض لها:

في الفصل الأول وعنوانه “مأزق النخب الحاكمة في أمريكا الثورية” يعرض الكاتب صراع توجهين: توجه نخبة استعمارية، وتوجه نخبة مساواتية منبثقة من الطبقة الوسطى، وهي نخبة من الشمال الشرقي، تتحدث عن الحرية، وصارت تطالب بالحقوق في وجه التاج البريطاني.

تتشكل النخبة الأولى من مزارعين يقتنون العبيد ولهم وزن في السياسة الوطنية. نخبة تحمل طابعا إنجليزيا، تريد أن تحاكي مجلس العموم، وتحلم بالنسب الكريم والشهرة الاجتماعية والوظيفة الحكومية، وبالانضمام إلى الأرستقراطية، وقد كان الأكثر غنى ينتخبون ليمثلوا المستعمرات في البرلمان البريطاني.

بعد 1760 زادت السلع الاستهلاكية، وتحسن التعليم ووسائل الاتصال، وتشكلت نخبة ميسورة غير زراعية، ووصل كتاب جون لوك “البحث الثاني للحكومة” إلى أمريكا الشمالية، فبدأت المستعمرات تغدو أكثر وعيا بذاتها، وبأنها ليست بريطانيا، بل أمريكا…

كان رفض الملكية الإنجليزية يحرم الرافضين من الرعاية الملكية، وكان القبول بها يثير غضب الجماهير. وحين جاءت أزمة فرض الحكومة البريطانية ضرائب على المستعمرات رفض السكان أداءها وألغي “قانون الختم”.

وهنا بدأت المستعمرات تنظر إلى نفسها ككتلة واحدة. وقد انهارت السلطة البريطانية في 1774، وتم التصديق على الدستور الفيدرالي سنة 1788. هكذا ولدت أمريكا وفيها نخبتان متصارعتان: نخبة فيها ضباط ومزارعون كبار وتجار أثرياء ومحامون ووزراء وفنانون مدينيون يملكون الثروة ويريدون منح تعويضات وأجور كبيرة للقضاء والمسؤولين التنفيذيين، ومنح المشرعين (في مجلس النواب) أجورا منخفضة، بحيث يكون الأغنياء فقط مؤهلين لشغل هذه المناصب لمدة طويلة لأن لديهم وقت فراغ للتفكير وممارسة الحكم.

وعلى الجانب المضاد تقف نخبة تمثل المزارعين العاديين والجنود السابقين وحرفيي البلدات الصغيرة، وهؤلاء يريدون أن يكون للشعب دور أكبر. وتريد هذه النخبة منح أجور عالية للمشرعين لتتمكن الطبقة الوسطى من شغل هذه المناصب. نخبة واثقة بأنه لا يمكن لأي حكومة أن تستمر طويلا دون ثقة الشعب.

للإشارة، فقد استقلت الولايات المتحدة عن التاج البريطاني سنة 1776، وصدر الدستور سنة 1787، واندلعت الحرب الأهلية بسبب العبودية سنة 1861 وانتهت سنة 1865 بانتصار الشماليين بقيادة أبراهام لنكولن.

عرق العبيد يصنع ثراء أمريكا

يتناول الفصل الثاني النخبة الجنوبية، وعنوانه “سلطة الرقيق في الولايات المتحدة 1783-1865”. ويفتتح الكاتب الفصل بهذه الحقيقة المروعة: كان مالكو الرقيق يشغلون غالبية المناصب العليا في الدوائر الحكومية، والأخطر ثلاثة أرباع المناصب في الجيش والأسطول البحري. وتتجلى هذه السيطرة، رغم كون مالكي العبيد أقلية بين الناخبين، إذ لا يزيد عددهم عن مائة ألف ناخب ضمن ثلاثة ملايين مقترع أمريكي.

وقد تعزز هذا النفوذ السياسي بنفوذ اقتصادي. كمثال ارتفع إنتاج القطن من 50 مليون باوند سنة 1800 إلى 650 مليون باوند عام 1840. وكان العبيد ثروة لمالكيهم، وقد حولت طاقتهم العضلية ولايات كثيرة إلى مناجم للتبغ والأرز والقطن. وكلما زاد الإنتاج زاد ثمن العبيد. وقد بنى مالكو العبيد قصورا تعكس ثراءهم. وكان أحدهم يملك 1834 عبدا، ويعتبر نفسه من النبلاء ويتعاطى السياسة. وكان سبعة رؤساء أمريكيين، ضمن الرؤساء الأحد عشر الأوائل، يملكون العبيد.

كان المفكرون الجنوبيون يدافعون عن العبودية بحجة أن الاسترقاق رحيم بالناس غير القادرين فكريا وأخلاقيا على العناية بأنفسهم. وكان مالكو العبيد أكثر ثقافة ولديهم وقت للحركة في الحياة العامة بسهولة. كان العبيد يقاومون بالهروب والتخريب والقتل (انظر فيلم “12 سنة عبودية” من إخراج ستيف ماكوين)، وكانت محاولات التمرد تقمع بشدة في المهد كما في 1811.

لكن منذ عشرينيات القرن التاسع عشر ظهرت مواقف مناهضة للعبودية لأن الاسترقاق يهدد حقوق الشعب الحر ويفسد الجمهورية. انتشرت أفكار التنوير المتعلقة بالحقوق الطبيعية للبشر حتى في الجنوب رغم القمع. وعند انتخاب أبراهام لنكولن سنة 1860 أدرك مالكو الرقيق أنهم لن يدافعوا عن مصالحهم إلا بإنشاء دولتهم الخاصة. وقد أعلنت إحدى عشرة ولاية جنوبية الانسحاب من الاتحاد، فاندلعت حرب الانفصال التي عكست الصراع بين توجهين. وقد حققت الحرب الحرية للشعب الأسود، وبعثرت الطبقة التي شكلها مالكو العبيد.

تحرر السود، لكن الطريق طويل أمامهم ليحصلوا على حق التصويت والمساواة.

يتناول الفصل الثالث النخبة الشمالية، وعنوانه “تجار وصناعيو الشمال قبل الحرب”. إنهم التجار والمصرفيون الكبار، وهم الشريحة الأكثر خبرة في النخبة الشمالية. وقد سيطروا على الاقتصاد حتى سنة 1830. كانوا يسكنون في مدن الساحل الشرقي (نيويورك وبوسطن..)، فكيف سيطروا؟

سيطروا بتشغيل عمال غير مسترقين، بالتركيز على الصناعة، وهي أكثر ربحية من الزراعة، بإقامة مرافئ تستقبل وتوزع السلع المصنعة في أوروبا، بإقامة شركات التأمين التي تلتهم رؤوس الأموال، وكذا تمويل وشحن السلع الزراعية من أمريكا الشمالية… والنتيجة أن أقل من 2 بالمائة من سكان نيويورك يملكون 71 بالمائة من الثروة في المدينة. ولتعزيز تمركز الثروة والوجاهة كانت الزيجات تعزز تحالفات الثروة، وساهم الأصهار والأقارب في إدارة هذه الثروات، ومرروا الخبرة إلى الجيل الموالي. وقد اشتغل أبناء التجار بالسياسة بحثا عن الاعتبار الاجتماعي.

تطلب هذا الازدهار يدا عاملة كثيرة، وهو ما فتح الباب للعمال للتأثير في السياسة، وقد أنشؤوا نقابات، وتوفرت لهم خبرة في استخدام الإضراب، وطالبوا بأجور أعلى وظروف عمل أفضل… وهكذا دخلت الطبقة العاملة الانتخابات لتزاحم أصحاب الثراء والمقام الرفيع، الذين تراجع نفوذهم وصارت طريقة عيشهم الباذخة في خطر. وقد زاد هذا التحول من رفض العبودية السائدة في الجنوب الأمريكي.

أقل فائدة للديمقراطية هي تجديد النخب

في الفصل الرابع “تعاليم عصر الثراء وحقائقه” يتتبع الكاتب بنود بناء الثروات في أمريكا. البند الأول في هذه التعاليم هو “دعه يعمل دعه يسير”، أي فتح المجال للتنظيم الذاتي ورفض تدخل الحكومة في الاقتصاد، وسمي ذلك التدخل “تطفلا تشريعيا”. البند الثاني هو تقديس قوانين العرض والطلب والإنتاج والاستهلاك. البند الثالث هو استبعاد الحظ والمصادفة والخرافة واعتماد موهبة خاصة في التنظيم والإدارة للتمكن من جمع الثروة. البند الرابع هو القبول بالتوزيع غير العادل للثروة دون خجل، على أساس أن الأغنى هو الأكفأ (كان المفكر أندرو كارنيجي يعتبر ذلك مهينا على الصعيد الأخلاقي وخطيرا على الصعيد السياسي. هذا كلام مثقفين لا كلام رجال أعمال). البند الخامس هو رفض المؤسسات الخيرية التي تدعمها الدولة لأنها تشجع على الكسل، فالإحسان تطفل على قوانين الاقتصاد. البند السادس هو جمع أكبر قدر من المال، فمن كان يعتبر غنيا بمعايير 1842 لم يعد كذلك سنة 1882 لأن حجم الثروات زاد، وظهر لفظ غني جدا. البند السابع هو الخوف من النقابات المتشددة، ومن الجماهير الفقيرة الجاهلة، وتقدير رجال الأعمال والمضاربين، ورفض فكرة أن المضاربين والمقامرين يموتون فقراء. ومن هنا نبع الاتهام ضد رجال الأعمال بأنهم أنانيون يتجاهلون مصالح الطبقة الأكثر عددا. رجل الأعمال تاجر وليس محسنا.

في الفصل الخامس “نفوذ الثروات الطائلة المخفق” يلاحظ الكاتب أنه عشية الأزمة الاقتصادية في 1929 تأكد أن “التقاليد الديمقراطية كانت غير كافية بحد ذاتها لإعاقة حكم الأثرياء”. ويرجع سبب صمود أبناء الأغنياء في المواقع العالية في السلم الاجتماعي إلى أنه “من شأن نشوء البيروقراطية المتحدة خلق هيكليات قيادية شغلت طبقاتها الراقية نخب إدارية ومهنية جديدة”. وكانت التحالفات والمصاهرات تقوي سيطرة الأغنياء على مواقع معينة. ومع تراكم الثروات بدأ أبناء الجيلين الثاني والثالث من الأثرياء يظهرون مفاتن الحياة في السفر وركوب الخيل وامتلاك اليخوت وشراء الأعمال الفنية بهدف زيادة الثقافة إلى رصيدهم، مع التمسك بالشكليات والابتهاج بالجمال الجسدي في وقت الفراغ الكثير الذي يملكونه. وهكذا تعرض النظام الأبوي لهجوم أنثوي. ومع هذا الرفاه والمجد تعرض العمال للعنف، مما لطخ سمعة الأثرياء مثل روكفيلر.

في الفصل السادس “إعادة إحياء الأثرياء إداريا” يعرض الكاتب خطة الأثرياء لتحسين صورتهم. وهكذا عمل الأثرياء على:

التعاون مع صانعي السياسة البارزين.

الفصل بين ملكية الشركات وإدارتها. فالأغنياء ما عادوا قادرين، من فرط وقت الفراغ، على إدارة الشركات العملاقة التي أثرتهم، فاعتمدوا على تقنيين محترفين يملكون مهارات عالية ويحصلون على أجور مرتفعة.

هكذا ولدت طبقة من الجديرين المؤهلين للترقي الاجتماعي بفضل كفاءتهم.

تشكلت نوادٍ للتعرف على الأثرياء، ويعتبر الانخراط فيها امتيازا حصريا. وهي تستوعب عروض النجاح بمعاييره الجسدية والسيكولوجية. فالأغنياء أنيقون وسيمون واثقون ممتعون، إذن ناجحون.

تعديل سلوك حديثي النعمة للتخلي عن السلوكات الفظة عند انضمامهم إلى النوادي الخاصة ومدارس النخب ليترقوا اجتماعيا.

التركيز على الرياضة التي تشبه ساحة القتال. وهي توفر الجوائز والفخر وكمهنة مكتسبة بالتعلم (لا يقول الرياضي كان أبي).

تمجيد العمل للمصلحة العامة والتطوع في الجيش لاختبار الرجولة (يعتبر التهرب من التجنيد عارا بالنسبة للرجال).

البحث عن مهن بعيدة من وول ستريت.

للتبرؤ من الأرستقراطية الموروثة تم التعبير عن الاستعداد للكدح للحصول على أجور مرتفعة مستحقة. والاستحقاق – وليس الامتيازات- هو الشرط الأساسي لترميم صورة الفرد والطبقة الحاكمة.

ولتأكيد هذه الممارسات عرض الكاتب مجموعة من الروايات التي تشرح صورة الطبقة العليا في المجتمع (توجد أفلام أيضا حول الموضوع).

يتناول الفصل السابع “مؤسسة السياسة الخارجية” التي قادت الدبلوماسية الأمريكية. وهي مؤسسة تعود جذورها إلى المحيطين بالرئيس تيودور روزفلت. وقد أدارها مدة طويلة أصدقاء وأصهار هنري ستيمسون، وبعد ذلك سيطر هنري كيسنجر على الخارجية الأمريكية.

لا تعمل هذه المؤسسة من خلال سياسات انتخابية، بل بعيدا عن أنظار الناس. مؤسسة رأسمالية لكن ليبرالية.. وطنية لكن عالمية. ويشرح الكاتب طبيعة المؤسسة قائلا إنها خضعت لتأثير أشخاص أقوياء بفضل مهنهم ومناصبهم، وليس بفضل ثرواتهم الموروثة. رجال تميزوا بالعزيمة الشديدة، وبتوجه رواقي بالخضوع للضرورة دون تذمر ويؤمنون بالاستقامة والواجب.

عملت هذه المؤسسة في مواجهة السؤال الحاسم: ما موقع الولايات المتحدة الأمريكية في العالم؟

في الجواب انقسمت النخب الأمريكية إلى تيارين: تيار يدعو إلى الانعزالية، وتيار يدفع بالنفوذ والتأثير الأمريكي على العالم إلى حدهما الأقصى.

يدعو التيار الانعزالي إلى سياسة الحياد، ويناهض سياسة التدخل في النزاعات، ويحذر من التورط في شؤون العالم، وأنه يجب على أمريكا أن تركز على حل مشاكلها أولا. بينما يدعو التيار المضاد إلى ريادة أمريكا للعالم أخلاقيا وسياسيا. هزمت ألمانيا النازية وقادت الحرب الباردة عبر الاحتواء، وهو منع انتشار أيديولوجية العدو، ومنع إشعاع الخصم الشيوعي بالمخابرات والإعلام والسلاح. مؤسسة دافعت عن شرف الولايات المتحدة في حرب فيتنام، لكنها تضررت بعد هذه الحرب، فتقوى المحافظون الجدد الذين اهتموا بالشرق الأوسط أكثر من اهتمامهم بأوروبا.

وبالنظر إلى وجود الجيش الأمريكي في عدة بقع في العالم، فإن ذلك تأكيد على انهزام التيار الانعزالي منذ الحربين العالميتين إلى الآن. وما يربك عمل السياسة الخارجية الأمريكية هو أنه لم ينتج أي إجماع جديد عن نهاية الحرب الباردة.

في الفصل الثامن “النخب المحافظة والثورة ضد الصفقة الجديدة” يرصد الكاتب تحولات المشهد السياسي الأمريكي. إذ ضعفت النقابات وضعفت الأحزاب وتفوقت عليها الكنائس. يقول المؤلف: “لقد نتج انبثاق الدعاة الدينيين ليس عن صحوة دينية، بل عن ضعف الأحزاب”. وقد حل الإعلام الإلكتروني مكان الإعلام المكتوب في تبادل الآراء السياسية، وحصل طلاق بين الحكم والسياسة مما أثمر الشعبوية، وهي سيطرة الديماغوجيين الذين يحتكمون إلى الدين والتخويف من الأجانب… ويلاحظ الكاتب أنه بين عامي 1960 و2000 أطاح المحافظون بالليبراليين، وشكل الجمهوريون غالبية رئاسية جمهورية وغالبية في الكونغرس.

ومنذ ذلك الحين واليمين الانعزالي يتقوى… وقد انهزم بصعوبة في 2020.

hespress.com