“مات وفي جيبه 10 دراهم”.. الكلام هنا للضابط السابق أحمد المرزوقي، الذي فضّل نعي الطّيار المفضل المغوتي، صديقه في السّلاح والاعتقال والنّضال الذي توفي السبت الماضي، بأقسى أشكال التّعبير الممكنة. ممزوجة بقساوة السّجن وضراوة المحن، هي محنة طويلة وصادمة رافقت المعتقل السّابق في سجن تازمامارت إلى أن ارتقت روحه إلى دار البقاء.

ارتبط اسمه بالعملية الانقلابية الفاشلة لعام 1972، كان واحدا من الضباط الذين أقلعوا بطائراتهم الحربية ليقوموا بدورة استكشافية فوق مطار الرباط سلا، كان مخطط إسقاط الطائرة الملكية قد فشل. ولما نجحت “البوينغ” في النزول على مطار سلا، اتصل الكولونيل محمد أمقران، المسؤول عن الانقلاب، مباشرة بالمفضل المغوتي، ليذهب إلى الرباط ويستطلع أمر الطائرة.

لم يكن بمقدوره رفض طلب أمقران، وهكذا توجه بطائرته الحربية غير المسلحة إلى مطار سلا الرباط، وقام بجولات استكشافية فوق القصر الملكي، بحيث ظل ينسق مع برج مراقبة قاعدة القنيطرة ويمد الضباط المداومين هناك بالمعلومات، حيث أكد لهم أن الطائرة الملكية حطت بسلام في المدرج. هكذا، شارك المفضل المغوتي في انقلاب “أوفقير” وزجّ به في السّجن لأكثر من عشرين سنة.

الرسالة الملغومة

الطّيار المفضل المغوتي هو ابن مدشر ماغو القرب من مدينة شفشاون، ولد سنة 1940، والتحق بالطيران سنة 1961، ومن ثم رحل إلى قاعدة وليامز الأمريكية سنة 1965، إلى حين عودته إلى القاعدة الجوية في القنيطرة سنة 1967، حيث اشتغل هناك لما يزيد عن 5 سنوات، قبل أن تنقلب حياته رأسا على عقب يوم 16 غشت 1972، تاريخ الهجوم على الطائرة الملكية.

وعلى الرّغم من أن اسمه لم يروج كثيرا على مستوى الاعلام، فإنه ظلّ يرتبط بالمحاولة الانقلابية التي لم يكن على علم بها، حيث وجد نفسه مرغما تحت ذريعة الأوامر العسكرية، حيث يحكي المغوتي مسترجعا ذكريات يوم الانقلاب: “نادى علي رئيس برج المراقبة وقال لي بأن رسالة جاءته بالإسبانية وطلب مني أن أترجم له المضمون، لم يكن يعرف الإسبانية في القاعدة الجوية إلا ثلاثة أشخاص: أمقران والكويرة والمفضل المغوتي. الثلاثي الشمالي المعروف. كانت الرسالة جد قصيرة تقول :”الملك الحسن الثاني ستقلع طائرته من مطار برشلونة على الساعة الثالثة مساء، وسيصل إلى الحدود المغربية على الساعة الثالثة والأربعين دقيقة أو الخمسين وأربعين دقيقة”.

ولم يكن الراحل المفضل المغوتي من بين الطيارين الذين هاجموا الطائرة الملكية؛ بل إن مشاركته في الانقلاب لم تكن إلا بعد نزول الطائرة الملكية بسلام في مدرج مطار سلا الرباط، يحكي الراحل في حوار سابق مع “هسبريس”: “قبل أن تنزل الطائرة، نودي علينا من برج المراقبة وجاءتنا أوامر بضرورة إقلاع ثلاث طائرات لمهمة تحية الملك قرب القاعدة الجوية بسلا، حيث ستنزل طائرة الملك”.

وأضاف: “حلقنا فوق مطار سلا ثم رجعنا إلى القاعدة الجوية بالقنيطرة، تماما كما طلب منا. ولم نكن نعرف أن الملك تعرض لمحاولة إسقاط بطائرته، ولم نعلم أن طائرته ضربت في جناحها؛ لكني وأنا أحلق لأداء التحية لاحظت أن طائرة الملك كانت خارجة عن المدرج، ولم أكترث للأمر. فبرج المراقبة بسلا يراقب كل شيء، ولو كان الأمر يستدعي التدخل لقامت القاعدة الجوية بسلا بما يلزم”.

مصيدة المطار

ويحكي أحمد المرزوقي، الضابط السابق وأحد المعتقلين في سجن تازمامارت، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الرجل لم يكن على علم بالانقلاب؛ بل إنه مباشرة بعد نزول الطائرة الملكية، اتصل أمقران بالمغوتي، وطلب منه بشكل صارم أن يطير إلى مطار سلا”، مبرزا أنه “لا يمكن رفض الأمر العسكري.. هذا معروف في الأوساط العسكرية”.

وفي مذكراته “ويعلو صوت الأذان من جحيم تازمامارت”، يحكي المفضل المغوتي عن معاناته في السجن الرهيب: “أعطوني دلوا من ماء، وغطاء لينا، وحذاء مصنوعا من العجلات المطاطية للسيارات، وأدخلوني إلى زنزانة تحمل رقم 18، وأقفلوا علي الباب الحديدي، وسط ظلام دامس لا أكاد أرى فيه حتى جسدي. لم نكن نعلم أن هذا المكان الذي اقتادونا إليه هو تازمامارت؛ لكن ما إن قضينا فيه ليلة واحدة حتى أيقنا ألا جحيم فوق هذا الذي أتوا بنا إليه إلا أن تكون النار التي أعدها الله للكافرين”.

ويحكي المفضل المغوتي: “القرآن الكريم كان أملنا الوحيد، فلم يمر أسبوعان حتى أعطاني حارس اسمه العربي اللوبز مصحفا، تسلمت المصحف، تسلمت ما كنت أعتقد دائما أنه العلاج لكل داء نفسي الذي يحل بنفس بالإنسان، في فترات تماسكها واضطرابها في ثباتها وحيرتها وبأسها وتفاؤلها في لحظات قوتها وضعفها. كان المعنى الذي أعطى لنا بصيص الأمل وجعلنا نستصغر الطغاة الظلمة، وننظر إلى حكمة الله البعيدة”.

ويضيف: “أذكر أني اقترحت على الإخوان أن نبدأ حصص حفظ القرآن الكريم.. استقبل المعتقلون الاقتراح بفرح كبير، فلم يكونوا ليتصوروا أن تتيسر لهم فرصة حفظ القرآن والعيش في ظلاله في جحيم هذا المعتقل. أبلغتهم أني سألتزم قراءة ثمن من القرآن كل يوم، وسأعيده أكثر من مرة حتى يترسخ في أذهانهم، وكلما انتهينا من ثمن انتقلنا إلى الذي يليه حتى نختم حفظ القرآن بأكمله”.

ويحكي الطيار الراحل نفسه: “لم نحصل على تعويضات إلا بعد مرور أربع سنوات. سنة 1994 وصلتنا رسالة من وزارة حقوق الإنسان، وكان على رأسها وقتئذ الوزير عمر عزيمان، تستدعينا للحضور إلى مقر الوزارة. تسلمنا غلافا ماليا بمبلغ خمسة آلاف درهم بقينا نتقاضى هذا المبلغ إلى حدود سنة 2001. وفي هذه السنة، استدعانا السيد إدريس الضحاك إلى مقر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، فتسلمنا شيكات بعضها يحمل مبلغا ماليا قدره مائتي ألف درهم وبعضها يحمل ثلاثمائة وخمسين ألف درهم. وما إن تسلمنا التعويض حتى سحبت الأعمال الاجتماعية دعمها الشهري لنا”.

ويقول المعتقل السابق أحمد المرزوقي في شهادته عن الطيار الراحل: “لقد كان رجلا صادقا ومهذبا، كنا ولاد منطقة وحدة. هو جبلي وأنا جبلي مثله”، مبرزا أن “المغوتي كان طيارا ماهرا، وكان من ميزاته أنه متدين إلى أقصى حد ومسالم وطبعه هادئ”.

وتابع المرزوقي شهادته: “أثناء المحاكمة العسكرية، أدانته المحكمة بثلاث سنوات نافذة؛ لكن هذا الحكم تحول إلى 20 سنة، قضى منها 18 سنة في سجن تازمامارت الرهيب”، موردا أنه “بعد خروجه من السجن، حاول أن يعيش حياة كريمة، بحيث كان يدير مخدعا هاتفيا؛ لكن مشروعه سرعان ما تعرض للإفلاس”.

hespress.com