أثناء زيارته لمدينة نيويورك، وجد المفكر الإيطالي أُمبيرتو أيكو نفسه منخرطاً في محادثةٍ مثيرةٍ مع سائق سيارة أجرة أمريكي، من أصول باكستانية، سأله حينها من أين أنت؟، فأجابه بأنه من إيطاليا، بدا السائق، حينها، متفاجئاً لأن تعداد سكان إيطاليا قليلٌ ولا يتحدثون الإنجليزية، بعدها باغته بسؤال مُدهش ومُفاجئ في آن: من هو عدوكم؟ ونظراً لعلامات الاستغراب التي ارتسمت على وجه إيكو فقد راح السائق يشرح سؤاله بصبرٍ  ليؤكد لأُمبيرتو أنه يود معرفة العدو الذي يقف الإيطاليون ضده ويُقاتلونه على مر العصور سواءً للمطالبة بأراضٍ تاريخية، أم بدافع صراع عرقي أم بهدف ترسيم الحدود أو أيُّ أسبابٍ أخرى، أخبره أُمبيرتو أيكو أن الإيطاليين ليسوا في حالة حرب مع أحد، لم يرق له الجواب فبدأ يستفسر  بهدف معرفة أعداء إيطاليا التاريخيين، أولئك الذين يريدون قتلهم فيما يريد الإيطاليون قتالهم، أكَّد له أُمبيرتو أيكو  بأن إيطاليا لا تملك أعداءً وأن آخر حربٍ شاركت فيها كانت الحرب العالمية الثانية. لم يبد السائق راضياً عن إجابة إيكو؛ إذ كيف لبلدٍ ما ألا يملك عدواً؟..

يقول أُمبيرتو أيكو  “إن وجود عدوٍ ليس مهماً من أجل تعريف هويتنا فقط، بل لوضع عوائق يتم من خلالها تحليل منظومة قيمنا والتغلب عليها، وكذلك استعراض هذه القيم، لذا ففي حال غياب العدو يجب علينا أن نوجده، وجديرٌ بالذكر أن عملية ابتكار العدو هذه مرنةٌ بشكلٍ لا يُضاهى، (…) يكفي أي شخصٍ أن يقول بأنه لا ينتمي لهم حتى يكون عدوهم، غير أننا لا نهتم كثيراً بالظاهرة التي تكاد تكون طبيعيةً في تعريف العدو، إنما في العملية التي يتم من خلال ابتكار هذا العدو وشيطنته.”

فهل من حسن حظ الجزائر أن يكون لها عدو خارجي اسمه المغرب؟ وهل من سوء حظ المغرب أن تُوجِد له الجغرافيا عدواً مُزيّفاً لا زائفاً اسمه الجزائر؟

من حسن حظ الولايات المتحدة الأمريكية أنها أوجدت، وبسرعة مذهلة، عدوا جديداً سَمّته العدو الأخضر، مباشرة بعد دحرها العدو الأحمر/الإتحاد السوفييتي الذي ظل ينازعها في زعامة العالم لسنوات. لم تألُ أمريكا جُهدا يُذكر في سعيها إلى إيجاد عدو جديد، فقد ساعدها مكر  سياسييها ودهاء مفكريها على الاحتيال على أذهان الأفغان العرب الذين كانوا، حتى وقت قريب، حلفاءً ورفقاءً لها في حربٍ ضروس دارت رَحى معاركها الشرسة فوق الأراضي الأفغانيةضد الاتحاد السوفييتي ومطامعه التوسعية.

فكان لهذا النجاح الباهر  تداعياته وآثاره على عموم العالم، حيث التقطت العديد من الأنظمة الديكتاتورية العربية وغير العربية جوهر نظرية “صراع الحضارات” لمؤسسها صامويل هنتنجتون لتبني عليها مشروعاً تدميرياً عملت بحنكة وشراسة على تنزيله في شكل حربٍ قذرةٍ، بدت في ظاهرها حرباً على الإرهاب، بينما كان باطنها يحبل بالنوايا المستهدفة للقوى المعارضة التي تنازع الأنظمة في السلطة.

والجزائر  واحدة من الدول العربية التي استثمرت شعار الحرب على الإرهاب للانقضاض على المعارضة واستئصالها من المشهد السياسي الذي اعتاد على الحزب الوحيد المستفرد بالسلطة والثروة من جهة، والانقلاب على اللعبة الديمقراطية التي كادت تتشكل بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد الانفراج السياسي الذي سعى إلى تكريسه الشاذلي بنجديد من خلال السماح بالتعددية السياسية وتوسيع هامش الحريات من جهة ثانية.

غير أن من جاؤوا بالشاذلي بنجديد إلى الحكم بعد استبعاد بوتفليقة، الرجل الثاني في نظام بومدين  آنذاك، لم يستسيغوا فوز جبهة الإنقاذ الإسلامي بغالبية مقاعد البرلمان، فقرروا بذلك إغراق الجزائر في جحيم حرب أهلية سميت فيما بعد بالعشرية السوداء، التي حصدت أرواح آلاف الجزائريين.

ولأن النظام العسكري قد وجد نفسه اليوم أمام خطر جديد يهدد وجوده واستمراره في حكم الجزائر بقبضة من حديد، بعد تفجر الوضع الاجتماعي والسياسي مجدّداً وانطلاق الحراك الشعبي الذي زلزل عرش العسكر جراء مطالبته الصريحة بدولة مدنية لا عسكرية، قبل أن يضطر هذا الحراك إلى التوقف مؤقتاً بسبب تفشي وباء كورونا؛ ولأن نظام العصابة وجد نفسه في وجه عاصفة الحراك قرر أن يستحدث شروط وأدوات لعبته القذرة من جديد.

فاليوم، وبعد استئناف الحراك لنشاطه، وتيقُّن النظام العسكري من لا جدوى التدابير والإجراءات البهلوانية التي اتخذها لاحتواء الحراك والإجهاز عليه، بعد كل هذا الفشل الذريع الذي كُلّلت به المساعي الشيطانية للجنرالات، تفتقت قريحة سعيد شنقريحة عن مخطط لعين تجلّى في ظاهره وباطنه الحنين إلى العشرية السوداء والرغبة في الزج بالجزائريين في أتون  حرب قذرة جديدة تضمن للعسكر الاحتفاظ بالحكم وحماية مصالحه المرتبطة بالنفط، وبقية الثروات الأخرى التي تزخر بها الجزائر ويُحرَمُ ملايين الجزائريين من الانتفاع بها، بل ويُتركون فريسة لأزمات اجتماعية واقتصادية، كان آخرها كيس الحليب المدعّم.

لقد اقتنع السعيد شنقريحة بعد التخلص من أحمد القايد صالح وجناحه العسكري بضرورة تجاوز عصابة الجيش الحاكمة لصراعاتها الداخلية والتفاتها إلى الخطر الذي بات يتهدد وجودها، فبادر إلى إرغام القضاء الجزائري غير المستقل على إصدار حكم بالعفو عن الجنرال خالد نزار (وزير الدفاع الأسبق) الذي كان قد صدر ضده حكم غيابي يقضي بعشرين سنة سجنا نافذاً، وبتزامن مع عودة هذا الجنرال الدموي، صدرت أحكام قضائية بتبرئة كل من محمد الأمين مدين المعروف باسم الجنرال توفيق، رئيس المخابرات الجزائرية منذ نوفمبر 1990 وإلى غاية 13 سبتمبر 2015، والجنرال بشير طرطاق المعروف أيضا بعثمان طرطاق الرجل الثاني في جهاز المخابرات سابقاً، والسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المخلوع ولويزة حنون زعيمة حزب العمال.

جرى كل ذلك في لمح البصر ،التأم على إثره جَمْعُ هؤلاء القتلة في بيت أحدهم من أجل وضع مخطط شيطاني ناجع بمقدوره إجهاض توق الحراك الشعبي إلى جزائر مدنية تعيد العسكر إلى ثكناته وتلزمه بعدم تجاوز دوره المحدد في الذوذ عن حوزة الوطن وحماية ترابه.

فقد بدا جلياً لدى هذه الطُّغمة المستوحذة على مقاليد الحكم بالجزائر  أنهم لا يستطيعون البقاء على قيد الحكم والاستبداد به دون إيجاد عدو للجزائر ، فصورة العدو لا يمكن بالمطلق محوها من عملية تشكل  الجبهة الداخلية، إنها باتت في نظرهم الحاجة الطبيعية والملحة حتى وهم يُصدرون للعالم الخارجي صورة الجزائر المحبة للسلام والمساندة لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها باستثناءالكاتالانيين في إسبانيا والإيغور في الصين وغيرهم  من الشعوب التي شكل حق تقرير مصيرهم تهديدا لمصالح العصابة الخارجية المرهونة لتحالفات باتت من مخلفات الحرب الباردة البائدة.

فصور اكتشاف الأمن الجزائري لتشكيل إرهابي والقبض على بعض عناصره، وصور الأسلحة والمعدات العسكرية والإلكترونية التي قيل أنها كانت بحوزة الإرهابيين يُعيد إلى الأذهان صور ة ما قبل اشتعال فتيل الحرب الأهلية خلال العشرية الشوداء الدامية.

بل إن مسرحية أبو الدحداح، التي بُثّت على التلفزيون الجزائري الرسمي، وهو  يُدلي من خلال اعترافات مفبركة ومصنوعة بدور جماعته الإرهابية في الحراك الشعبي ونيتها في جَرِّ الحراك إلى دائرة العنف، أعاد إلى الأذهان الأسلوب نفسه الذي اعتمده العسكر في الالتفاف على العملية الديمقراطية وإقصاء جبهة الإنقاذ الإسلامية ومنعها من مُباشرة الحكم طبقا لنتائج الانتخابات.

إن رؤية جنرالات الجزائر القائمة اليوم على فكرة اختراع وابتكار عدو داخلي أو خارجي هو ما كشف عنه أُمبيرتو أيكو  في كتابه “صناعة العدو” الذي يؤكد من خلاله هذا المفكر الإيطالي أن الغرض من صناعة العدو هو  استثماره في تعزيز التماسك الاجتماعي بين الأفراد داخل المجموعة/الأمة الواحدة، لأن البحث عن عدو خارجي، في نظر إيكو، يعزز اللُّحمة الوطنية ويُقوّي الشعور بالانتماء للجماعة/الأمة المهددة بالخطر ويعزز سعيها إلى تجاوز الخلافات البينية التي تعصف بها ويُقوِّي وعيها المزيّف بحتمية البدء بالشعور  بنفسها ككتلة واحدة صلبة وموحدة أمام الخطر الماحق.

وحتى يتسنى للجنرالات النجاح في تضخيم صورة العدو  الذي يهدد أمن الجزائر واستقرارها ويُعطيهم حق التدخل بالقوة ضد الحراك ويُجيز لهم استخذام العنف ضد قادة الحراك وأنصاره، فقد لجأوا إلى استحداث عدوين اثنين لاعدو اً واحداً، الأول داخلي والثاني خارجي. أما العدو الداخلي فسمَّوه الجماعات الإرهابية، ويعتقد العسكر أن هذا العدو المصطنع بمقدوره تذكير الجزائريين بجحيم العشرية السوداء، وأما العدو الخارجي فسمَّوه المغرب، مع أن كل الدلائل التاريخية والجغرافية على الأرض تؤكد أن المغرب بلد جارٌ  شقيقٌ ليس له مع الشعب الجزائر ي صراعٌ يُذكر، بل إن  المغرب ما فتئ يُؤكد أن خلافه السياسي مع نظام الحكم بالجزائر الذي كانت له اليد الطولى في صناعة كيانٍ وهميٍّ  كان الهدف منه استهداف وحدة المغرب وتُرابه، هذا النظام الأخرق الغبي الذي نصّبَ نفسه محامياً فاشلاً للترافع عن حفنة من الانفصاليين في المحافل الدولية والإقليمية تحت يافطة “حق تقرير المصير” في الوقت الذي يُؤكد هذا النظام العسكري الاستبدادي يوماُ بعد يوم استعداده لأخذ الجزائر إلى مستنقع حرب أهلية جديدة حتى يمنع الشعب الجزائري من حقه في تقرير مصير الجزائر  المغتصبة.

في روايته الصادرة عام 1984، وأثناء وصفه لمشهد فريد ومُدهش يقدم جورج أورويل مثالاً جيداً عن الحالة التي تعيشها الجزائر اليوم: “في اللحظة التالية تم بث خطابٍ مُرعبٍ ومُخيفٍ من التلفاز المركون في آخر القاعة، وكصوت آلة جف زيتها، كان الصوت وحشياً بحيث يجعل الأسنان تصطك رعباً، ويقف له شعر الرأس… لقد بدأت حفلة الكراهية، ظهر على الشاشة وجه عدو الشعب إيمانويل غولدشتاين، وبدأت صرخات الاستهجان تعلو في القاعة، صرخت الفتاة ذات الشعر الذهبي بصوتٍ ممزوجٍ بالخوف والقرف، فغولدشتاين أحد القياديين السابقين للحزب صار المرتد والمنحرف والخائن الأول للحزب، وكذلك الملوث لطهارته، كانت تعاليمه مصدر كل الخيانات والانحرافات التي عصفت بالحزب مؤخراً، والآن هو قابعٌ في مكانٍ ما يحيك المؤامرات”.

hespress.com