بقدر ما هي عليه من علاقة بمتغيراتِ ذات صلة بداخل البلاد وخارجها فضلا عن ماض وإرث سياسي وتطلعات وطبيعة مجتمعٍ، بقدر ما هناك من هواجس وسبل تدبير وسلوك وأدوار وعلائق وخيارات وقراءات وقانون ومؤسسات.. تحكم العملية الانتخابية بالمغرب، وغير خاف عن مهتم وفاعل ما يكتنف مكون السياسة بالبلاد من صعابِ فهمٍ، ومن ثمة طبيعة نسق لا شك أن الانتخابات من قضاياه الأكثر جدلا. ولعل ما أثارته استحقاقات المغرب التشريعية والجماعية من أسئلة عدة ومتداخلة قبل حوالي العقد من الزمن وما طبعها من ضعف نسبة مشاركة، أبان عن تراجع يعود لبداية تسعينات القرن الماضي متى عرفت البلاد مساحة حرية على مستوى هامش ديمقراطية وتعبير وكذا إجراء انتخابات اعتبرت الأهم آنذاك.
غير بعيد عن محطة انتخابية قادمة وفي علاقة بهذا وذاك من السؤال، ومن ذخيرة خزانة البلاد العلمية القانونية، ارتأينا بعض الضوء حول مؤلف موسوم بـ”العزوف الانتخابي والأحزاب السياسية بالمغرب”، مؤلف رصين صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط ضمن طبعة أولى بأزيد من أربعمائة صفحة، في الأصل هو أطروحة جامعية باللغة الفرنسية تقدم بها الباحث غسان الأمراني، أستاذ بجامعة محمد الخامس، لنيل شهادة دكتوراه في القانون تحت إشراف الأستاذ عبد الله ساعف الاسم والنهج الغني عن كل تعريف في الوسط البحثي الاجتماعي والسياسي بالمغرب.
إن ما سُجل من خيار عدم تدخل السلطة في أول محطة انتخابية خلال الألفية الثالثة، خلافا لِما طبع سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، لم يمنع من عزوف أبان عن عدم رضى حول شأن البلاد الانتخابي. وإذا كانت الظاهرة تتحدد أولا بعدم التسجيل في لوائح انتخابية ترى مساحة هامة من المواطنين أنها دون أهمية وفائدة كعملية، وثانيا بما يرتبط بمن هم مسجلون لكنهم لا يحضرون لمكاتب التصويت. فإن ما هي عليه العملية الانتخابية بالمغرب من ضعف مشاركة وما هو مسجل حولها من نسب وأرقام، يدعو للسؤال حول كون الكائن أمر غير عادٍ ولا عابرٍ بل ظاهرة قائمة تزداد خطورة من محطة لأخرى.
بهذه الإشارات العميقة استهل الأستاذ غسان الأمراني تقديما لمؤلفه “العزوف الانتخابي والأحزاب السياسية في المغرب”، مشيرا إلى ضعف مشاركة المغاربة في الانتخابات كإشكالية يمكن تحديدها من خلال جملة مؤشرات. أولا: ما يتعلق بتطور نسبة هذه المشاركة منذ بداية ستينات القرن الماضي حتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي، مع أهمية الإشارة إلى أن ما سجل من نسب تخصها في المحطات الأخيرة تعد الأضعف في تاريخ الانتخابات المغربية. ثانيا: ما يهم نسب المشاركة المسجلة خلال نفس الفترة الزمنية بدول أخرى كما الحال مثلاً بالنسبة لتونس عربيا وفرنسا أوروبيا، الوضع الذي تبينت معه فروقات على مستوى ما هو مسجل من أرقام وبالتالي ضعف إقبال خلال هذه المحطات من الاستحقاقات. ثالثا: ما يتصل بطبيعة أرقام معلن عنها حول مشاركة المواطنين في محطات البلاد الانتخابية الأخيرة والتي لم تتجاوز الخمسين بالمائة، وهنا يطرح سؤال المعدل الانتخابي ثم إشكال ضعف المشاركة في العملية، كذا سبب غياب المنتخبين على نطاق معبر خلال الاستحقاقات السياسية الانتخابية الأخيرة سواء التشريعية أو الجماعية.
في هذا الاطار وبقراءة نتائج بحث ميداني يخص الشأن في علاقة بالأحزاب السياسية أيضا -يضيف الباحث-، يتبين أن هناك شعورا بعدم رضى من قبل المواطنين تجاه العملية الانتخابية والأحزاب السياسية عموما، ومن ثمة اتساع خطاب عام يقول بأنانية مكونات وأعضاء هذه الأحزاب فضلا عما هناك من محسوبية، ناهيك عما بات متداولا حول كون هؤلاء مجرد (لصوص) مدافعين عن مصالح خاصة لا غير، وبالتالي قناعة المواطنين وقولهم بعدم الفائدة من الانتخابات والتصويت لا على هذا ولا ذاك ما دام أنهم متشابهون.
وحول وواقع عزوف المغاربة الانتخابي ما بات جليا تزايده مع كل محطة استحقاقية، يتساءل الأستاذ غسان الأمراني الباحث في القانون بجامعة محمد الخامس بالرباط، هل المسألة في حد ذاتها ترجمة لمعارضة سلبية من قِبل طبقة واسعة من المنتخبين للعمل السياسي بكل تكويناته دولة وأحزاب سياسية وانتخابات، وهل الواقع أمرا عاديا لا يحتوي سخطاً سياسياً ولا يعكس عدم مبالاة تجاه ما هو سياسي؟ إن ما حصل في انتخابات البلاد الأخيرة من حيث نتائجها ونسب مشاركة المواطنين فيها كذا ما طبعها من أصوات ملغاة وبطائق فارغة، يسمح بالقول- يضيف- أن هناك وضع أزمة تهم درجة الإقبال وتهم الدولة والأحزاب السياسية معا.
واقع سلبية تناوله الباحث من خلال جوانب عدة مستحضرا جملة معطيات سياسية واعتبارات تنظيمية ومؤسساتية، معرجاً عما عرف بـ”الربيع العربي” الذي كان نتاج غياب حياة ديمقراطية حقيقية وحرية وتنافسية مؤسسة على انتخابات باعتبارها آلية تنظيم المجتمع. وعليه، فالبحث في مسألة العزوف الانتخابي مساحة على قدر عالٍ من الأهمية الاجتماعية والسياسية لطرح تساؤلات، فضلاً عن مزيد من تفكير ورأي ومقترح وتحليل وتنوير من أجل مستقبل البلاد، علما أن الشك الذي بات يتقوى لدى شريحة واسعة من المواطنين، يعكس أزمة ثقة ومسؤولية ومشروعية لا يمكن أن يترتب عنها سوى أزمات اجتماعية وسياسية على مدى بعيد، يقول غسان الأمراني في “العزوف الانتخابي والأحزاب السياسية بالمغرب”.
وبناء على فرضية كون تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات تشريعية وجماعية، هي تعبير عن استياء وشك على قدر من الاتساع في المجتمع، فإن هناك موقفا سلبيا تجاه السياسة والدولة والأحزاب السياسية ومعها العملية الانتخابية أيضا. وهنا أهمية السؤال حول أسباب السلوك والموقف الواقعية، ولماذا فقد المواطن المغربي كل ثقة في السياسة والانتخابات، ولماذا هذا الرفض تجاه الأحزاب السياسية، وما سر فقدان هذه الأخيرة لمصداقيتها ومنخرطيها وجماهيرها -يضيف الباحث- بخلاف ما كان عليه الأمر في الماضي.
لقد توجه مؤلف” العزوف الانتخابي والأحزاب السياسية في المغرب” بالعناية لدراسة الظاهرة في أبعادها السياسية، باعتبارها موقفا سلبيا صوب واقع سياسي في أفق إيجاد أجوبة كافية وشافية حول الإشكال. وعليه، ارتكز هذا العمل العلمي على نتائج دقيقة خصت مختلف محطات البلاد الانتخابية سواء التشريعية أو الجماعية منذ الاستقلال حتى الآن. رغم ما يسجل في هذا الإطار من نقص معبر في مراجع ووثائق، علما أن نتائج عدد من المحطات الانتخابية لم يتم نشرها فضلا عما هناك من بياضات في ما نشر منها.
وبقدر ما تأسس هذا العمل على ما توفر من مراجع ووثائق منذ ظهور أول حزب سياسي بالمغرب بداية ثلاثينات القرن الماضي، بقدر ما تعزز بوجهات نظر ورؤى أحزاب سياسية مغربية عدة حول فعل البلاد الانتخابي، وما هناك من أحداث هامة طبعت تاريخها السياسي الحديث سواء تعلق الأمر بما هو يسار أو يمين. لمعرفة ورصد ما شهده المجال السياسي الانتخابي من تطورات وتنافس بين مختلف التيارات، فضلاً عما يحكم العملية من اتجاهات تصويت ودرجة أصالة وواقع قوى سياسية وأساليب وغيرها. وعليه، فإن ما اعتمده الباحث من نهج مقابلات حول ظاهرة العزوف السياسي والأحزاب السياسية بالمغرب، كان بأثر معبر في إغناء هذا العمل بقراءات وإشارات واستنتاجات وتحليلات على قدر عال من الأهمية. وهو ما شمل مساحة واسعة من سياسيين وفاعلين ومسؤولين حزبيين مغاربة، منهم محمد بوستة ومحمد المساري وسعيد السعدي ومحمد أوجار ومحمد الكًحص وعبد الهادي خيرات، كذا عبد الكريم بن عتيق ومحمد الساسي ونبيلة منيب وعبد الله الحريف.. فضلا عما تم التفاعل معهم من مهتمين وباحثين أكاديميين وسياسيين ونشطاء ومناضلين ومواطنين، هذا ضمن بحث ميداني رغم ما يحيط به من صعاب على أكثر من جانب.
يذكر أن مؤلف” العزوف الانتخابي والأحزاب السياسية بالمغرب”، توزع على ثلاثة فصول كبرى خُصص أولها لتطور المشاركة السياسية الانتخابية بالمغرب، بحيث تم طرح من خلال مبحثين ما حصل من تطور في وثيرة الظاهرة منذ بداية ستينات القرن الماضي إلى غاية نهاية العقد الأول من القرن الحالي، وما اتصل بسوسيولوجيتها في علاقتها بالمجال الحضري والمدن الكبرى والمتوسطة كذا القروي والمراكز الصغرى. وفي فصل ثان تمحور حول ما تراكم من معطيات وحقائق تخص المسألة، تمت مقاربة ما حصل من عبث بإرادة شعب تماشياً مع حركة وطنية من جهة ومعارضة من جهة ثانية فضلا عما تم إحداثه من أحزاب سياسية إدارية، هذا إلى جانب مناقشة ما طبع خط الحركة الوطنية من فشل وتداعيات وغياب أفق، دون قفز عما عرفه الخط الاشتراكي من إفلاس ونهاية تعبئة إيديولوجية، ومن تمدن وترييف للمدن وثقافة هوامش وسكن هش وشباب لا مبال وتطرف.
وفي علاقة بالأحزاب السياسية وقضية العزوف الانتخابي، تم في فصل ثالث تناول الإشكال من خلال ما نعت بالتقليد السطحي وما هناك من تأثير أجنبي ونموذج استعماري وتشكيل وتكوين متناقض والتباس إيديولوجي. مع توجيه العناية لخاصية نشاط هذه الأحزاب من خلال ما هو تنظيمي ومقرات ومنخرطين وانشقاقات وقرب من السلطة، كذا لما نعته الباحث بـ”تجدير التشارك” عبر ما حصل من تعاطف ظرفي (المقاومة من أجل الاستقلال) وما هناك من مؤشرات هشاشة، ومن ثمة انتهاء عمل الباحث إلى أن أحزاب المغرب السياسية مجرد آلات انتخابية لا غير، فضلاً عن أزمة ثقافةِ نضالٍ وظاهرة أعيان واستثناء لحزب عدالةٍ وتنمية.
يبقى ختاما بعض من أسئلة رأي عام ذي صلة من قبيل، أي حديث عن حداثة وتحول صوب ديمقراطية وشفافية ومصداقية وحكامة جيدة وإنسان مناسب في مكان مناسب وربط مسؤولية بمحاسبة وغيرها من نبل رهانات دون إشراكٍ وتشارك ومشاركة سياسية؟ وهل يمكن بلوغ هذا وذاك دون فهم طبيعة العلاقة بين أفراد ومؤسسات وأحزاب سياسية من جهة، ومن ثمة بين هؤلاء والدولة في إطار الدستور من جهة ثانية دون قاعدة ووقع مشاركة انتخابية لفرز ما ينبغي من وعي؟ وأي حديث عن شأن سياسي انتخابي وما يرافقه من آليات تدبير وظواهر دون عمل علمي بحثي بقدر شاف، لفرز خلاصات من شأنها بلوغ فهم أهم لِما هو واقع ومؤمل لفائدة بلادٍ وعباد؟