مقدمة
أهدف من خلال هذا المقال أن أبين أن الاعتقاد السائد بين عوام الناس الذي مفاده “أن إكثار الدارجة المغربية من استعمال فعل “ضرب” هو علامة من علامات ميل متكلمي هاته اللغة إلى العنف اللفظي أو الجسدي أو كليهما”، هو اعتقاد غير صحيح مبني على سوء فهم لكيفية اشتغال اللغات الطبيعية، وهو أيضا نوع من جلد الذات بلومها على أمور عادية تشترك فيها اللغات الطبيعية لا علاقة لها بالعنف ولا ينبغي أن تستعمل دليلا على ميل مستعمل الدارجة إلى العنف.
فعل “ضرب” في الدارجة المغربية
كثيرا ما أسمع المغاربة يسخرون من لغتهم الدارجة (المعروفة بـ”الدارجة المغربية”) لأن المتكلمين بها يكثرون من استعمال التعابير المسكوكة التي تحتوي على فعل “ضرب” كقولهم “ضربها بنعسة”، أي “نام”، و”ضربها بجرية”، أي “ركض”، و”ضربني البرد”، أي “أصابني زكام”، و”ضربت التيليفون”، أي “هاتفت”، وغير ذلك. فيستنتجون من كثرة هذه التعابير التي تستعمل فعل “ضرب” أن مستعمل الدارجة المغربية إنسان “عنيف” أو “متساهل مع العنف” أو “ميال في سلوكه إلى العنف”.
سأبين في ما يلي أن استعمال فعل مثل “ضرب” في التعابير المسكوكة (idiomatic expressions) (أي التعابير الجامدة التي لا تكون منتجة سوى في مقولاتها الوظيفية كالزمن، وسمات التفريد والتجميع والجنس) لا تعكس أي خصائص نفسية (كالميل إلى العنف)، لأن لهذا الفعل وظيفتين لغويتين لا علاقة لهما أصلا بمعنى “العنف”، هما وظيفة “تحقيق التمام ” ووظيفة “تحقيق الزمن”. وهذا بيان الدعوى وتفصيلها.
فعل “ضرب” وتحقيق “التمام”
عندما تدرس التعابير المسكوكة التي تستعمل فعل “ضرب” في الدارجة المغربية ستجد أن هذا “الفعل” ليس “فعلا” بدلالة معجمية خاصة، ولكنه تحقيق صرفي لسمة “التمام”. فقولك “ضربتها بتجويجة”، الذي معناه “تزوجت”، يستلزم أن فعل الزواج قد شُرع فيه وتمّ، وقولك “ضربت ليه التيليفون”، الذي معناه “هاتفته”، يستلزم أن فعل المهاتفة قد شُرع فيه وتم، وقولك “ضربت الدنيا بركلة”، معناه “لقد صرت غير مكترث بالدنيا وهمومها”، يفيد تحقق المعنى النفسي وتمامه وما يحف بهذه الدلالة من معاني “الحسم” و”القطع”.
لذلك، يستخدم “ضرب” في التعابير المسكوكة التي تدل على التحقق القطعي للأفعال الشرعية كـ”الزواج” الذي يسمونه بـ”ضريب الصداق”، كناية على التحول الجذري من حالة “العازب” إلى حالة “المتزوج”، فلا تَدَرُّجَ في هذا التحول.
ومن الأدلة على ورود “ضرب” بمعنى “تمام” الحدث، أن استعماله ليس مقصورا على الدارجة المغربية وحدها، بل له ما يقابله في لغات أخرى، حيث يستعمل للتحقيق الصرفي لنفس المقولة الوظيفية (أي “التمام”).
من ذلك مثلا، فعل “strike” في الإنجليزية، صورته في الماضي “struck”، يستخدم بكثرة أيضا بمعنى “ضرب”. الشاهد على ذلك قولك “He struck the horse with a whip”، معناه “ضرب الحصان بالسوط”. لكن هذا الفعل يستعمل أيضا ليحقق سمة “التمام”، كما في قولك “They struck off into the woods”، معناه “ساروا، مجتازين الغابة”، عُبر فيها عن معنى تمام “الاجتياز” بالفعل “struck” ماضي فعل “strike”.
من ذلك أيضا، قولك “We struck a deal”، معناها “عقدنا اتفاقا”، يدل فيها فعل “struck” على اكتمال الفعل القانوني، وقولك “The answer struck me suddenly”، معناها “فاجأني الجواب”، وقولك “Miners struck gold”، معناها “اكتشف عمال المعادن الذهب”، وقولك “it struck that part of [the] contract”، بمعنى “حذف جزءا من العقد”، وقولك “Strike up a tune”، بمعنى “عزف لحنا باستعمال آلة موسيقية”، وقولك “The idea struck me as funny”، بمعنى “ولدت عندي أفكارك انطباعا ممتعا”.
فكل هاته التعابير المسكوكة في الإنجليزية تستعمل فعل “strike” (ضرب) لتحقيق وظيفة “التمام” دون أن تدفع كثرة استعماله متكلمي الإنجليزية إلى اتهام أنفسهم بـ”العنف” أو ما في معناه.
فعل “ضرب” وتحقيق “الزمن”
أما وظيفة “تحقيق سمة الزمن” فمعناها أن فعل “ضرب” ليس فعلا يدل على معنى “الضرب”، بل تحقيق للزمن (كالماضي والحاضر والمستقبل)، لأن الحدث اكتسب الصورة المورفولوجية للاسم ففقد بذلك القدرة على تحقيق الإسمية.
فعندما تقول مثلا: “ضربتها بنعسة”، فالمعنى هو “نعست”، أي “نمت”، تحول فيها فعل “نعس” إلى اسم (“نعسة”) فنتج عن هذا التحول أمران: أولهما أن الاسم أصبح محتاجا لإعراب الجر حتى لا يخرق ما يسميه علماء التركيب بـ”المصفاة الإعرابية” (“كل اسم ينبغي أن يكون له إعراب مورفولوجي ظاهر أو بنيوي يتحقق بحضور العامل”)، لذلك أدخلت عليه الدارجة المغربية الحرف “ب”، هو حرف مزيد وظيفته إسناد الإعراب للاسم. وثانيهما أن الحدث (“نعسة”) فقد قدرته على حمل الزمن بسبب إفراغه من الفعلية، أدى ذلك إلى إدخال “ضرب” ليحمل سمة الزمن.
لذلك، فزمن “النوم” في مثل هاته التعابير متعلق بزمن “ضرب”. فإذا نمت في الماضي قلت “ضربتها بنعسة”، مستعملا “ضرب” في الماضي. وإذا قلت “كنحاول نضربها بنعسة” فأنا أقصد أني أحاول أن أنام حاضرا، مستعملا “نضربها” في الحاضر. وإذا قلت “غادي نضربها بنعسة” فالقصد أن فعل النوم سيتحقق مستقبلا، مستعملا “غادي نضربها” في صيغة المستقبل. فزمن “النوم” هو دائما متعلق بزمن فعل “ضرب”، مما يعني أنه مجرد تحقيق للزمن لا معنى معجميا له.
وهذا ما يفسر إدخال الضمير المبهم “ها” الذي يجمع بين وظيفتين: وظيفة ترخيص إعراب النصب الذي يسنده الفعل “ضرب”، وهو متعدٍّ (وهذا ما يحفز إدخال “ب” لترخيص إعراب “نعسة” التي لا يستطيع الفعل ترخيصها بسبب إفراغ إعرابه في “ها”)، ووظيفة إفراغ فعل “ضرب” من معناه المعجمي الأصلي، يسمي العلماء عملية الإفراغ هاته بالـ “bleaching”.
خلاصة
خلاصة القول إن استعمال فعل “ضرب” في التعابير المسكوكة في الدارجة المغربية لا يعكس ميل متكلم الدارجة إلى العنف كما يعتقد العوام، بل إنه رأس فعلية ذات وظيفتين: وظيفة تحقيق “التمام” ووظيفة تحقيق الزمن.