في خضم الأحداث المتوالية التي تعيشها مدينة القدس في هذه الأيام، يأبى الكاتب والناقد نجيب العوفي إلا أن يستحضر قدساً أخرى.. قدسا تسكن روح المبدع العربي المسلم أينما حل وارتحل.
وفي نص مقالته هذا يستحضر العوفي “قدس المجاطي”، أحمد المجاطي، الذي يعد من الرّواد الذين تفاعلوا مع القدس شعريا والتحموا بها إبداعيا، من خلال قصيدته “القدس”.
هي قدس تتجاوز الزمان والمكان لدى المجاطي، الذي تعامل بنوع من الاختلاف معها، بعيدا عن صوت الانكسار والأنين، وقريبا من صوت الهمّ الأدبي واللغوي بامتياز.
وهذا نص مقال العوفي:
ليست القدس اسما عابرا وعاديا في اللسان، ولا مجرد علامة على مكان، بل هي اسم جليل واستثنائي، جارح وجريح، يغور عميقا في الوجدان ويلتمع رمزا ساطعا في الذاكرة.
إنها مدينة ساكنة في قلب كل عربي وكل مسلم وكل ضمير حي تستفزّه شريعة الغاب.
وقد شكّلت إلى هذا، مكانا إبداعيا متميزا وهاجسا شعريا ساخنا وراعِفا لدى الشعراء العرب، من مختلف الأمصار والأجيال والمشارب، تقليديين وحداثيين، عموديين وتفعيليين ونثريين.
وكان الشعراء المغاربة في مقدمة هؤلاء الشعراء، الذين عزفوا على وتر القدس وقبسوا من نارها ونورها منذ نكبة فلسطين 1948 وهزيمة يونيو 1967 إلى يوم القدس هذا، في زمن التطبيع الكالح – الفاضح.
ويُعدّ الشاعر الكبير أحمد المجاطي في الطبقة الأولى من هؤلاء الشعراء المغاربة، ومن الرّواد الذين تفاعلوا مع القدس شعريا والتحموا بها إبداعيا، من خلال قصيدته الرائعة الرائدة “القدس”، إلى جانب قصيدته التاريخية الباذخة “أكزوديس في الدار البيضاء”، التي رصد فيها بزخم شعري وإيقاع درامي هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل.
وقصيدة “القدس” كتبها الفقيد أحمد المجاطي عقب هزيمة 1967، حيث اكتمل حِداد القدس وأطبق عليها ليل الأسر الصهيوني.. وهي واحدة من روائع وجِياد قصائد المجاطي.
وقصائده برمّتها، كما هو معلوم، رائعة وجيدة، لأنها صادرة عن شاعر كبير ومتمرّس، تخْرُج الكلمة من سويدائه بعد امتلاء واصْطِلاء، فتنفذ كالطلقة من الأذن إلى الوجدان، بلا استئذان.
وخلافا لكثير من الشعراء الذين غنّوا للقدس بصوت جهير أو كسير رثاء وبكاء، أو غضبا ساطعا وهجاء، فإن المجاطي تعامل مع القدس بطريقة إبداعية خالصة وخاصة، رهيفة وشفيفة.
لقد جعلها موضوعا شعريا وهمّا لغويا وأدبيا بامتياز. ومن هنا خلود وصمود هذه القصيدة الاستثنائية الرائعة.
يقول الشاعر في فاتحة هذه القصيدة:
رأيتكِ تدفنين الريح..
تحت عرائش العتمة
وتلتحفين صمتكِ
خلف أعمدة الشبابيك
تصُبّين القُبور وتشربين
فتظمأ الأحقاب
ويظمأ كل ما عتّقتِ
من سحُب ومن أكواب
ظمئنا والرّدى فيك
فأين نموت يا عمّة؟
(الفروسية – ص: 55).
تصير القدس هنا، عبر حروف المجاطي وكلماته الشجيّة البهيّة وبوْحه الغنائي الحميم، أيْقونة شعرية تكثّف فجيعتها وغربتها ويُتْمها في محيط عربي ودولي مُتواطئ على الإثم والعدوان.
تصير مُتعة شعرية وإبداعية، إلى جانب كونها هاجسا نضاليا وإنسانيا، يهمّ كل المدن المقرورة والمأسورة في هذا العالم.
تصير القدس/ عمّة تصبّ القبور وتشرب وتظمأ .
ويصير الشاعر/ طفلا يشرب معها ويظمأ، ويتساءل بالتياع ولهفة وعلى امتداد القصيدة كلازمة – غُصّة: فأين نموت يا عمّة؟
وإذا كانت القدس/ نار قِرَى شعرية، يلتمّ حولها الجميع.. ومتاعا رمزيا مشاعا بين الشعراء العرب، فإن القدس التي نقرؤها هنا، هي قدس المجاطي تحديدا وتخصيصا، تحمل بصْمته ونبرته وحُرقته.. لقد أنشأ قدّاسا شعريا للقدس.. بلا جلبة أو زعيق. وبلُحُونٍ وشجُون، هي أقرب ما تكون إلى تراتيل القُدّاس وصلواته.
فسلاما على روح الشاعر المجاطي.
وسلاما على عمّته وعمّتنا الجليلة الأسيرة، القدس، حتى انْجلاء ليل الأسر.
حتى مطلع الفجر.. مهما طال ليل هذا الفجر وتمادى هذا الأسر.
وليتفرّج المُهرْولون إلى التطبيع مع قراصنة القدس على ليل القدس الحزين.