ضُغِط على جرس الباب الرئيسي لمرات متعددة! لم يكن يفصل بين الرنة والأخرى أي حاجز زمني. وكأنها ضغطة واحدة مستمرة.

“مساء الخير! من الطارق؟”

كان هذا هو الرد العادي الذي يتلو دائما هذه الحركة.

حاول الحارس التمعن في الصورة التي تظهر على جهاز الهاتف للمؤسسة قبل الضغط على الزر لفتح الباب. أعاد السؤال من جديد للتأكد، بعدما تعذر عليه معرفة الطارق. فكان الجواب سريعا وواضحا.

” البوليس!”

شرطيان بالزي الرسمي، سيدة شقراء بلباس رياضي تحمل معها حقيبة جلدية صغيرة ورجل يرتدي سترة زرقاء داكنة وسروال “جينز”.

اقتحم الجمع مدخل المؤسسة بمجرد فتح الباب الرئيسي ثم اقتيد إلى مكتب الإدارة في الطابق الأول. إنها زيارة غير عادية، لم تكن مبرمجة من قبل. علامات الارتباك كانت بادية على محيا الحارس وهو يرافق الزوار في الممر المؤدي للمكتب.

إن هذه المدرسة التي تتموقع في قلب مدينة أمستردام تتميز باستقبالها لأطفال من مختلف الفئات، الأجناس والبلدان. مؤسسة تعكس بصدق الصورة الواقعية التي تعيشها هذه الحارة العتيقة التي تجمع بين أزقتها متاجر ومقاه من مختلف الثقافات. أحيانا يتخيل للمتنزه وكأنه يتجول وسط بازار إسطنبول الشهير يحتسي شايا تركيا أو يمشي في أحياء المدينة القديمة لتطوان يقتني مقومات الطاجين من الجزار المغربي، أو يسير في قلب شوارع حلب يلتهم صحن كباب في إحدى المطاعم السورية الشعبية. وهنا وهناك يستوقفك مقهى هولندي عصري تقصده نخبة خاصة. ليس لانتشاء القهوة فقط والاستمتاع بمرور الراجلين في الشارع الرئيسي للحي، وإنما قصد العمل. فترى الأعناق منحنية والأعين مركزة حول شاشة الحاسوب.

تفاوت اجتماعي، ثقافي واقتصادي كبير وملموس للعيان. سكن اقتصادي تؤمه في الغالب الطبقة الهشة التي تتشكل في مجملها من الأجانب. مبان قديمة، متآكلة، ضيقة. تأوي أسرا كبيرة العدد، ذات دخل ضعيف وتعتمد في الغالب على المساعدة المادية التي تخصص للعاطلين عن العمل أو طلبة مضطرين للعيش مؤقتا في هذه المساكن لبخس ثمنها. في المقابل تتواجد دور سكنية من المستوى الرفيع داخل هذا الزخم السكاني. تقطنها الفئة الميسورة ذات الدخل العالي. غالبا لا يتعدى عدد أفراد أسرها ثلاثة أو أربعة أفراد. وتتميز طبعا هذه الدور بجودة بناياتها وشساعتها.

الأهم من كل هذا وذاك، ورغم كل هذه الفوارق، هو تعايش كل هذه الفئات المختلفة مع بعضها البعض في هذا الحي العتيق. وهذا ما يعكسه تواجد غالبية أبناء هذه الفئات في هذه المؤسسة التعليمية العمومية. هو في الحقيقة اختيار صعب، ولكنه ممكن.

ترى ما هو سر هذه الزيارة المباغتة في عشية هذه الجمعة؟

بالإضافة الى عنصري الشرطة الاثنين، قدم الشخصان الآخران نفسيهما كموظفين في قسم الرعاية الخاصة لأطفال اللاجئين. ثم أضاف أحدهم:

“أين هي أقسام “آية” و”منار”؟

استقر المطاف بالطفلتين السوريتي الأصل صحبة أمهما أخيرا في هولندا. بعد نجاتهن من المخاطر المتعددة التي واكبت رحلاتهن الطويلة. بداية بويلات الحرب المندلعة في بلدهم التي أتت على كل ممتلكاتهم وتسببت في موت الأب، إلى المغامرة بالهروب من سوريا عبر جبال ومناطق في غاية الخطورة بأسماء منتحلة. ثم العيش الاضطراري في الهواء الطلق تحت خيم صنعت من أقمشة بالية وأعواد أشجار هشة، وسط حشود من اللاجئين من كل جهة وصوب. كل هذا في ظروف كارثية بالمعنى الشامل للكلمة، برد، جوع، مرض، خوف ومستقبل مجهول.

استبشرت الأم خيرا عندما حصلت على إقامة مؤقتة وسكنى وسط هذا الحي المتعدد الثقافات. وبادرت في الحين بتسجيل “آية” و”منار” بالمدرسة. وكانت حريصة كل الحرص على أن توفر الراحة والاستقرار لابنتيها حتى تتابعان دراستهما بكل نجاح. واستطاعت أن تكسب بسرعة عطف العديد من الأمهات داخل وخارج المؤسسة. كما نجحت في ظرف وجيز التمكن من النطق ببعض الكلمات الهولندية محاولة قدر الإمكان التواصل مع المدرسة.

“لقد تقرر وضع أم الطفلتين تحت الحراسة في انتظار تعميق البحث معها”

وتابع أحد الوافدين قائلا: “لذا يجب أخذ “آية” و”منار” الآن للإقامة عند إحدى الأسر التي ستتكلف برعايتهما”

نزل الخبر كالصاعقة! لم يكن أحد يتوقع أن معاناة هذه الأسرة ما زالت لم تنته بعد. لم يكن أحد يتوقع أن تُفصل الطفلتان ذوتا الست والسبع سنوات عن أمهما بهذا الشكل؟

ترى كيف سيكون رد فعلهما؟

بعد أخذ ورد ومشاورات من هنا وهناك، تقرر إخبار الطفلتين بالأمر بعد انتهاء الحصة الدراسية. وامتنع الأساتذة المعنيون حضور مراسم هذه المأساة.

لم تتمالك أستاذة “منار” نفسها وأجهشت بالبكاء ثم انصرفت إلى قسمها. تبعتها إحدى زميلاتها. ثم التحق بهما الباقي. جو مكهرب خيم على المكان، امتزج فيه البكاء والسخط على الوضع.

شتان ما بين الوهلة الأولى التي اقتحمت فيها “منار” باب المدرسة والآن. لم تكن في الأسابيع الأولى تستطيع أن تزيل معطفها داخل الفصل رغم الحرارة المرتفعة. لم تكن أيضا تستطيع التخلي عن حقيبة الظهر التي كانت تلازمها طيلة اليوم، داخل القسم، في الساحة أو في قاعة الرياضة. هازج الخوف والارتباك كان مخيما على “آية ” و”منار” عند قدومهما في البداية إلى المدرسة.

والآن الكل يعلم مدى السعادة الكبيرة التي تغمر الأم صحبة الطفلتين كلما اقتحمتا باب المدرسة. الكل يشاهد الابتسامة الجميلة التي لا تفارق المحيا. الكل يلمس الثقة الكبيرة في النفس التي اكتسبتها “آية ” و”منار” في وقت وجيز. الكل يشاهد المجهود الكبير الذي تبذله الأم من أجل توفير كل الظروف المواتية لإسعاد طفلتيها. ومع ذلك يظل السؤال المطروح: ماذا حدث؟

عندما قررت الأم الانصياع للأمر الواقع وخوض غمار الفرار من سوريا بمعية الطفلتين، أحست بثقل المسؤولية التي ستتحملها. وقبلت أيضا الاسم والوضع الجديد كلاجئة. ورغم هول المغامرات التي اعترضت سبيلها ظلت متفائلة ومصدقة بأنها ستنجو وتستعيد حياتها من جديد رفقة “آية” و”منار”. الشيء الذي لم يخطر على بالها بالمرة هو الآثار النفسية الكبيرة التي ستلازمها، والتي ستكون سببا في تعاستها.

فهي لم تسلم من الكوابيس المفزعة التي تعكر عليها صفوة النوم. مما يجعلها تستيقظ باستمرار في عز الليل منزعجة ونبضات قلبها لا تتوقف عن الضرب. تارة تبكي في صمت وتارة أخرى يسمع الجيران صراخها المدوي.

وإذا كانت الطفلتان قد “تعودتا” على هذه الحالة، فالأمر مختلف تماما بالنسبة للجيران.

فبمجرد توصل الشرطة بالشكاية السرية، بدأت متاعب اللأم من جديد.

“آية” و”منار” ترحلان إلى وجهة جديدة. ويبقى مصير اللاجئة مجهولا.

hespress.com