تتناسل جمعيات وهيئات المجتمع المدني بشكل مطرد مطالبة بالمناصفة وبالمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق… منددة بمجموعة من الممارسات ورافضة لسلوكيات تهدد أمن وتماسك المجتمع مستعملة أدوات النفي: لا للعنف ضد النساء، لا للتحرش، لا للاغتصاب، ما تقيش ولدي….

ولا يسعنا طبعا إلا أن نثمن هذا عاليا ونضم صوتنا لأصواتهم مناصرين لقضاياهم التي هي قضايانا، نشجب كل ما من شأنه أن يمس أمن وسلامة وكرامة المواطن، خاصة أمام تنامي مجموعة من الظواهر التي كانت غريبة على مجتمعنا فباتت شبه اعتيادية يفتتح بها المشهد الإعلامي ويختم بالمآسي التي تخلفها. وهي تفضح أعطاب منظومتنا الاجتماعية التي تسعى تلك الهيئات والجمعيات للتصدي لها من أجل النهوض بالمجتمع ورتق تمزقاته.

لكن المشكل هنا:

هو أن هذه الظواهر هي نتائج لاختلالات أعمق وليست أسبابا، والاهتمام بالنتائج ومعالجتها هو عملية ترقيعية لن تفلح أبدا في استئصال المشكل أو بتر جذوره، لهذا دعا المفكر الألماني “إنجلز” للتفكير في أسباب السرقة بدل قطع يد السارق، الأمر الذي ترجمه عمليا الفاروق رضي الله عنه حين عفا عن السارق أيام المجاعة. والاهتمام مثلا بظاهرة الاغتصاب في حد ذاتها وذلك بأن تنصب الجمعية المعنية بالأمر نفسها طرفا مدنيا تطالب من المحكمة توقيع أقصى عقوبة على الجاني الذي جارت عليه ظروفه وإنصاف الضحية (أحيانا بتزويجها منه وتصور معي حجم الكارثة) لن يقود أبدا للقضاء على هذه الآفة المستعصية التي كدنا نتعود على سماع أخبارها ولا ينتفض المجتمع إلا حين يكون مصاحبا بالقتل.

وهذا الأمر شبيه بمعالجة الحمى دون تشخيص أسبابها، علما بأن الحمى هي نتيجة ورد فعل البدن على اختراقه من قبل جسم آخر غريب (فيروس أو ميكروب….) وطبعا الاستمرار بمعالجة الحمى لن يكون إلا بالاعتماد على المسكنات فقط ويظل المشكل على حاله.

والمؤكد أن الأسباب في مجتمعنا لا يمكن تقصي مكامنها دون الرجوع إلى الحقوق الأساسية للمواطن والحال أنه لا يمكن القضاء على العنف أو التحرش أو الاغتصاب دون معرفة الأسباب ومن الغباء أن نتساءل عن الأسباب عندما يسود الفقر والجوع وتستفحل الأمية والتهميش.

والدليل على ذلك ارتفاع نسبة ممارسة العنف الزوجي خلال فترة الجائحة (كوفيد 19) وطبعا لا داعي لربط أسبابه بارتفاع منسوب القلق، فالقلق بدوره انفعال ونتيجة. وما لا يمكن إنكاره ولا داعي لتجاهله هو التأثير الكارثي للوباء ولمخلفات الحجر الصحي على الوضعية الاقتصادية لأغلبية الأسر المغربية. لهذا كان رد فعل الأزواج هو العنف وكأنه حيلة لاشعورية يسعى بها الزوج للتخلص من عبء الأسرة، فأن تغادر الزوجة شاكية من العنف أكرم له من أن تغادر شاكية من الجوع.

الأولى إذن أن نفكر في الأسباب التي لا أحد يجهلها، أن نشجبها ونرفض أي مؤامرة تعمل على تكريسها والالتفاف على حقيقتها. علينا أن نستعمل أدوات النفي مع ما يهدد الحقوق الأساسية للمواطن وكرامته، علينا أن نقول لا للفقر، لا للأمية، لا للريع، لا للفساد… بعلو صوتنا. هذه العبارات التي باتت تقليدا يتكرر بشكل صوري سنوي كل فاتح ماي، تصدح بها بعض الحناجر كشعارات جوفاء تكاد تخلو من مضامينها “كجعجعة بلا طحين”.

قد يقول قائل: الحقوق الأساسية هي شأن عام والنخب السياسية هي المسؤولة عن تدبيره، في حين أنه من شأن الجمعيات الاهتمام بقضايا بعض الفئات الخاصة. هذا صحيح، ولا أملك ان أدعي غير ذلك، لكن ماذا لو كانت هذه النخب فاسدة؟ ولا هم لها إلا حفظ مصالحها وحماية مداخيلها من الريع في ظل تكريس أوضاع تخدم لوبيات سياسية/اقتصادية أصبحت تهيمن على كل القطاعات.

فأين حق المواطن في العلاج وهذه النخب قد نجحت في تدمير المنظومة الصحية لصالح القطاع الخاص؟

أين حق المواطن في التعليم والنخب السياسية قد تفوقت في نسف المدرسة العمومية لصالح سادة القطاع الخاص.

أين حق الموظف البسيط في تقاعد مناسب مع تمسك الوزراء والبرلمانيين بامتياز الريع والتقاعد المريح جدا دون وجه حق؟

باستعمالنا الروتيني لأدوات النفي بتنا نمارس لعبة در الرماد على الأعين، وبنضالنا هذا نحاكي الدول الديمقراطية و نسير على خطاها في دفاعنا عن حقوق المرأة العازبة وحقوق الطفل وحقوق المسنين…. في غياب الحقوق الأساسية للمواطن كائنا من يكن.

نتجمل بشعارات الديمقراطية في غياب ديمقراطية حقيقية. نتغاضى عن الأساسي لصالح التكميلي.

طبعا هذا لا يعني مطلقا تبخيسا أو مهاجمة لأنشطة ومجهودات هيئات المجتمع المدني، أو التقليل من أهمية أدوارها، فأنا لا أجرؤ على ذلك ولا يحق لي سوى الدعوة لإعادة التفكير في هذا البناء الاجتماعي المتشابكة أطرافه وأطيافه وذلك

من خلال طرح بعض الأسئلة البسيطة جدا:

لماذا تكاد تغيب الجريمة في بعض البلدان مثل السويد؟

لماذا تقفل السجون في أخرى مثل الدنمارك؟

لماذا خلت محلاتهم ومتاجرهم من المراقبين؟

هل هم من سلالة غير سلالة آدم عليه السلام؟

أم أن الأمر يتعلق بطفرة جينية خبيثة عندنا جعلتنا من المتحولين؟

hespress.com