أواسط سبعينيات القرن الماضي، مع انطلاق الحركة النوعية لاسترجاع أقاليمنا الصحراوية التي كانت تحتلها اسبانيا، ومع مفعول المسيرة الخضراء السلمية، انفتح ما أسمينا حينها “المسلسل الديمقراطي”… ليبدأ المغرب في التخلص من إسار و”قساوة” سنوات الجمر والرصاص… اشتراك الشعب والقوى السياسية المعبرة عنه في رفع التحدي الوطني مثل نقلة نوعية في علاقات الدولة بالمعارضة أساسا… تطلب الأمر حوالي عشرون سنة من “العراك” ومن “الكر والفر”، بمآسي وجروح عميقة أو حتى أضرار جانبية أصابت قوى التطلع الديمقراطي، غير أن التفاعل بين الوطني والديمقراطي كان قد قطع مسافات داخل بنيات الوطن، واندمج في الطاقة المحركة للمغرب، وفتح أمامه “مسار المستقبل” وحال وبينه وبين التقهقر والذهاب إلى التدهور.
وصل الملك محمد السادس إلى الحكم، في انتقال سلس، تاريخي وحتى دال على العافية السياسية للمغرب. انتقال حمله، صانه وخفره إجماع الشعب المغربي، سنة 1999. حل الملك محمد السادس ربانا لسفينة المغرب… وهي تمخر عباب التاريخ وشراعها موجه برياح التناوب التوافقي.
تلك النقلة الديمقراطية التي أملتها حكمة وبصيرة القائد الملك الراحل الحسن الثاني لتجنب المغرب خطر “السكتة القلبية”، في تفاعل مع الحس التاريخي الوطني للقوى الحزبية الديمقراطية والوطنية ورمزها الفقيد عبد الرحمن اليوسفي.
كسب المغرب ملكا بمقومات القائد التاريخي… لا حساب له مع الماضي وكله حماس. ملك لقيادة المغرب نحو طموحه، ملك للذهاب بالديمقراطية إلى أبعد من أوليات حقوقها وآلياتها… الذهاب بها إلى الأعماق السياسية المجتمعية. بعض عناوين من مشروع مجتمعي طموح… المفهوم الجديد للسلطة… إخراج الثقافة واللغة الأمازيغية من عتمة التهميش والتبخيس… إحداث هيئات حكامة جيدة لقطاعات مفصلية… مدونة أسرة جديدة أخرجها من بين زوبعة تدافع اجتماعي… تكليف هيئة الإنصاف والمصالحة بالعودة إلى آلام مغربنا، لجبرها وتضميدها بأنفاس آمالنا… إصلاح وتأطير وتحديث الحقل الديني بما يجعله رافعة للوطنية وللتقدم… والقائمة طويلة…
أكثر بقليل من عشر سنوات… سنة 2011… بعض شرارات “الربيع العربي” أشعلت في المغرب حماس شباب “20 فبراير”… في أقل من عشرين يوما من هتاف شبابي أسبوعي في شوارع بعض المدن… اقترح الملك، القائد لمشروع تاريخي، على الاستفتاء الشعبي دستورا مفعما بالنفس الديمقراطي، موسعا صلاحيات البرلمان والحكومة المنبثقة منه، ومحددا مجالات تدخل الملك السيادية والتدبيرية… ومتضمنا جملة من التجديدات في حكامة الدولة وفي حقوق المجتمع المدني والمرأة… كان المغرب في حاجة إلى الضغط على دواسة السرعة القصوى في انتقاله الديمقراطي… وكان جاهزا لذلك… بإرادة الملك والشعب.
وبما تراكم في تلك العشرية الأولى… أمكن التقدم في المسار الديمقراطي والانكباب على تفعليل التطور الاجتماعي والاقتصادي، بانجازات هامة لتوفير الحاضنة الاجتماعية لحقوق المواطنة… إصلاحات هامة طالت مرافق عمومية مركزية في مقدمتها القضاء، بتقوية سلطته وتحقيق استقلالية النيابة العامة… الدفع بإقرار قوانين تنظيمية هيكلية تهم مجالات وهيئات حكامة لقطاعات اقتصادية، إعلامية واجتماعية في تحول نوعي لهندسة الدولة، وتجسر علاقاتها بالمجتمع بإصلاحات ديمقراطية وتنظيمية وإدارية. الإصلاح والتجديد طال الحكامة الأمنية بكل أجهزتها، بحيث انخرطت بفعالية في المسار النهضوي، الوطني والديمقراطي متراسا منيعا ضد الإرهاب ورافعة قوية للاستقرار ولصون المكتسبات… بل بما راكمته من خبرة اندرجت علامة بارزة في التفاعل الديبلوماسي المغربي مع العالم.
الديناميكية الاقتصادية، في هذه العشرية، ستقتحم مجالات جديدة مثل صناعة الطيران وصناعة السيارات، وقد كانت رافعة لها إنشاء ميناء طنجة المتوسط وتأهيله للمنافسة الدولية، والتطوير المبهر لشبكة السكك الحديدية وتوسيع الطرق السيارة. المدن الكبرى هي الأخرى طالها التطوير والتجديد بتوجيهات ملكية. إصلاحات سياسية اجتماعية واقتصادية سمح تفاعلها من أن يكون المغرب قادرا على العودة إلى إفريقيا، دولا منفردة ثم إتحادا، بقوة رائد في التعاون جنوب-جنوب على قاعدة رابح-رابح، عودة وسعت آفاق التطور أمام المغرب وأمام الأصدقاء الأفارقة مادتها العشرات من اتفاقيات التعاون الاقتصادي، التجاري، الصناعي والبيئي.
بعد أقل من عشر سنوات، سنة 2020، هذه التي نودع، سينفتح أمام المغرب تحول نوعي في مساره التنموي التاريخي… عبر بوابة القضية الوطنية، مرة أخرى… الاعتراف الأمريكي بمغربية الأقاليم الصحراوية الجنوبية، يمثل فيه دفعة نوعية ببعديها الديبلوماسي والاقتصادي… وقد سبق الحس التاريخي الملكي أن فتح أفق تطوير المسار التنموي… قبل أقل من سنة من الآن، وجه جلالة الملك بإحداث لجنة خبراء لإدارة نقاش وطني-مجتمعي حول تجديد نموذجنا التنموي. وقفة تقويم كيف نسير؟ وإلى أين؟ تقويم أفضت إليه، وهو تجميع ملاحظات ملكية وتنبيهات وحتى غضبات على اختلالات أو تلكؤ أو تباطؤ في تدبير مرافق عمومية أو قطاعات اجتماعية وإنتاجية. وسيقدم الملك مقترحات عملية في خطاب العرش لهذه السنة. تهم فتح أوراش تجديد الحكامة الاقتصادية والاجتماعية، وابتكار آليات لتجاوز مخلفات الجائحة وتنشيط دورة الإنتاج في المغرب… آليات، من صناديق ووكالات تهم تدبير الاستثمار وإصلاح المرفق العام، وتلعب فيها الدولة دور الضامن والمحفز والمدبر.
الاعتراف الأمريكي بمغربية الأقاليم الصحراوية، وبكل روافده ومتعلقاته، فتحا طريقا سيارا لحل أزمة المنازعة الجزائرية لنا في الصحراء… في اتجاه تحول تاريخي سيؤثر على المنطقة عامة وعلى المغرب… مرة أخرى سنجد أنفسنا أمام تدخل مباشر لقضيتنا الوطنية في تحريك وتنشيط الديناميكية المغربية التي يقودها جلالة الملك بمشروعه التاريخي لحقن المنجز التنموي بالنفس الديمقراطي ولتوسيع الحاضنة الاجتماعية للنسيج الديمقراطي.
لقد دخلنا العشرية الثالثة للمشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك، رصيدنا فيها تراكمات العشرين السنة الماضية. حقبة ثالثة نوعية على نفس الخط، خط النهوض بالمغرب. في التاريخ وفي الإنزال الاجتماعي للمشاريع والتصورات، لا يذهب خط الانجاز مستقيما ودائما… تقطعات الخط وانعراجاته وحتى انحرافاته واردة، بسبب نتوءات ومثبطات وحواجز إما من ميراث التأخر أو من تضارب وتنافر المصالح الفئوية أو حتى من مقاومة الإصلاح والتحديث… مع كل ذلك، ووعيا بكل ذلك… المغرب يواصل مساره النهضوي… قوته في ذلك إصرار الملك وحماس الشعب على التخصيب الأمثل لتفاعل الوطني والديمقراطي في هذا الوطن… التفاعل المفتوح دائما على التاريخ.