قال لها: عشاء لذيذ.
أجابته: لا أريد أن يكون كل مُنجَزي في الحياة هو تحضير العشاء. (فيلم “المصورة” 2020 إخراج ستيلا ماغي 1980).
هذا هو المطلوب من النساء في مجتمع بطرياركي، بينما تريد الشابة كريستينا إيميس (أداء شانت آدامز 1994) التحرر من هذا، لذلك هجرت حبيبها الريفي ورحلت للمدينة الكبيرة، هناك ناضلت لتحقيق حلمها…صُدمت من رد فعل حبيبها، تحمّلت وتابعت المغامرة في مدينة كوسموبوليتية متحررة.
هناك في المدينة الكبيرة عشّ العلاقات العابرة. كيف هي العلاقة بين رجل وامرأة التقيا توا؟.
بعد تفريغ النزوة نرى غريبين في سرير واحد، رأسا لرأس..تتلصص الشابة على الرجل نائما كأنه هبط من الفضاء.
تظهر دقة المشهد وغرابة إضاءته أن من كتبه عاشه.
في المدينة العمل والاستقلال الاقتصادي مخطط له على مدى طويل، بينما العلاقات العاطفية “ابنة ساعتها”، ينطبقُ عليها قول ابن حزم في طوق الحمامة “أسرع الأشياء نموا أسرعها فناء!”.
نزوة عمرها “إحدى عشرة دقيقة”، علاقة تُشبه لحظة التقاط صورة، تسمع صوتا وتطلق برقا ثم تهمد.
لقد تمكنت المخرجة ستيلا ماغي من أن تجعلنا نرى هذا المأزق الذي يصيرُ فيه الحب ضحية للطموح الجارف. مع ذلك تُصوّر المخرجة شخصياتها قريبة من الكاميرا، تلتقطها بحب ولا تُدينها…يساعد الجانب الدلالي للتقطيع في بناء المعنى. الكاميرا الفوتوغرافية سابقة للكاميرا السينماتوغرافية ومؤسّسة لجمالياتها. إن التأطير لغة بصرية، وينتظر أن تعرض للعين فكرة المشهد مجسمة.
يعرض الفيلم صورا تبني السيرة الشخصية للمصورة، فيه صور ورقية بالأبيض والأسود؛ وقد هيمن عليه لون بني رمادي يُقرّبه من الصورة الفوتوغرافية.
بعد نصف ساعة من المشاهدة خمنتُ أن هذا فيلم أخرجته امرأة تعرف صعوبات بناء علاقة حميمة في ظل السرعة التي يعرفها إيقاع العلاقات الاجتماعية في المدن، حيث العمل أهم من الحب.
يعرض الفيلم مأزق الفرد بين تحقيق طموحه وعيش حياة طبيعية يتهددها الروتين. تمكن الصّورُ القويةُ المشاهدَ من بناء علاقة حسية مع ما يشاهده. يتضح أن بناء علاقة حميمية حقيقية بين شخصين يحتاج زمنا، والزمن سلعة نادرة، لذلك فالحميمية السطحية التي تتشكل في المساء تتبدد في الصباح؛ ثم تعاد الكرّة في نهاية الأسبوع الموالي.
هذا فيلم لا يطرح قضية كبرى تصلح للتنظير، بل يتناول العالم الداخلي الحميمي للفرد في مجتمع مفتوح لا رقيب ولا واشي فيه. فيلم عن الزمن الرومانسي المسروق من زمن العمل والجري الدائم في المدينة المتاهة. وعلى هذا المستوى تشبه عوالم المخرجة عوالم الروائية الأمريكية توني موريسون في روايتها “أكثر العيون زرقة”، خاصة على مستوى ملاحظة التفاصيل الحميمية التي يصعب على الرجال الانتباه إليها في ظل هوسهم بالعالم الخارجي.
يعرض الفيلم اختلاف مكانيْن، نيويورك ونيو أورليونز، مركز وهامش، هذا هو الكادر الذي وضعته المخرجة لعرض حكايتها بصريا، ومع ذلك يبدو أن الغيتو يمتد في المكانين، فللبطلة صديقة سمراء وصديق أسود وجيران سود… يتحركون في فضاء
اجتماعي لا يظهر فيه إلا السود، وهذا أيضا يذكر بروايات موريسون.
أية شجاعة أن تنتج إينفرسال فيلما كهذا، دون مطاردات ورصاص ودم؟.
نعود للسؤال الرئيسي: وماذا غدا صباحا؟ ماذا بعد نزوة؟
إلى مقر العمل سرِ.
في انتظار فرصة تسلية وحب وأمسية جديدة. وغالبا حتى نهاية الأسبوع بعد ساعات طويلة في مقر العمل، تحين لحظة التخلص من الاحتجاز والضغط حين يغادر الموظف المقر الزجاجي الخانق ويدخلُ مقهى أو سينما أو معرض… يبحث عن ونيس.
في بداية اللقاء يعلن كل فرد قناص أنه انفصل عن حبيبه السابق. وهكذا يفتح الباب على المستقبل…مع امرأة استثنائية، امرأة اللحظة الأخيرة التي حلم بها.
حين تكون هناك عاصفة شديدة وبرد قارس يستحسن ألا يكون الفرد وحده في بيته، يخلو بنفسه ويسترجع شريط حياته ويقلق… لذلك يحتاج حبيبا.
بعدها يبدأ الامتحان: ماذا بعد تفريغ النزوة؟.
تبدأ محاولات التعارف شرط إظهار الجدية والاهتمام، وهذا صعب لأنه يتطلب زمنا، بينما كل الاهتمام والزمن مخصص للعمل، ولا يبقى إلا زمن مسروق للرومانسية. أحيانا قد تنجح المحاولة، حينها يدعمها مشترك بين الأصدقاء مثل حب الفن، حب التصوير والأفلام.
يفترضُ في الفن، في الحكايات، أن تصحح فوضى حياتنا. توفر السينما للأزواج مشتركا للحديث عنه في ساعات البيت الطويلة. تقول إحدى شخصيات الفيلم:
“لوْلا بث الأفلام على المنصات لصار الطلاق وشيكا”.
حلتْ فرجةُ السينما على المنصات محلّ تسلية لعب الورق بين الأزواج.
يُنقذ الفن البشر من الضجر الماحق.
[embedded content]