غير خاف ما لبيت المقدس من رمزية لدى البشرية جمعاء، ولا جدال في ما للمكان من بعد روحي بقدسية خاصة لدى المسلمين حيث الأقصى أولى القبلتين ومسرى النبي محمد (ص). ومن هنا، ما هناك من تعلق بالمكان وشعور به وبأهمية حمايته مما يتعرض له من طمس لمعالم وآثار ومن ثمة لذاكرة، علما أن للمكان أهمية خاصة كأرض سلام وحوار ثقافة وحضارة وملتقى ايمان. وغير خاف ما أحيطت به المدينة من دراسات على أكثر من مستوى بين شرق وغرب، وكان المغاربة بدورهم، ومن خلالهم الغرب الإسلامي، بإسهامات حول المكان منذ اعتناقهم الإسلام وعبر ما كانوا عليه من مرور بالقدس صوب الحج وثالث الحرمين.
ويسجل أن عددا هاما من أعلام بلاد المغرب عرجوا على بيت المقدس منذ القدم، منهم عن العصر الوسيط نذكر القاضي عبد الله بن العرب، الذي عاش خلال فترة دولة المرابطين، وكان قد توجه إليها نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في سفارة لدى الخليفة المستنصر العباسي من قِبل السلطان يوسف ابن تاشفين، وفق ما جاء عند ابن خلدون.
ولم يقتصر عبد الله بن العرب على وصف المسجد الأقصى، بل ما كان هناك من نقاش فكري بين أطياف الفترة من معتزلة وكرامية ومشبهة ويهود.
ونجد عن زمن دولة الموحدين بالمغرب والغرب الإسلامي “الشريف الادريسي السبتي” خلال القرن الثاني عشر الميلادي، وهو شاهد عيان وصاحب موسوعة “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، الذي قارن فيه بين المسجد الأقصى ومسجد قرطبة مقدما وصفاً دقيقا لبيت المقدس كمكان، متحدثا عن الكنيسة العظمى “كنيسة القيامة” محج بلاد الروم في مشارق الأرض ومغاربها، وعن البيت المقدس الذي بناه سليمان بن داود عليه السلام، ما تم تعظيمه بدخول المكان للإسلام والمسمى بالمسجد الأقصى عند المسلمين، الذي تتوسطه قبة عظيمة هي قبة الصخرة المرصعة بالفص المذهب والأعمال الحسنة من بناء خلفاء المسلمين.
وممن استحضر بيت المقدس من المغاربة خلال القرن الثالث عشر الميلادي، نذكر أبا اسحاق ابراهيم المكناسي من خلال مخطوطة له، وكذا أبا عبد الله محمد المكناسي الذي رحل إلى القدس وتوفي بها خلال أواسط القرن سالف الذكر.
أما ابن بطوطة الذي عاش زمن دولة بني مرين بالمغرب، وهو صاحب أول رحلة في تاريخ البشرية، فقد وصل إلى بيت المقدس نهاية الربع الأول من القرن الرابع عشر الميلادي. يقول: “(…) ثم سرنا حتى وصنا إلى مدينة غزة وهي أول بلاد الشام.. كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة.. ثم سافرت إلى القدس.. ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ومصعد رسول الله (ص) ومعرجه إلى السماء والبلدة كبيرة مبنية بالصخر المنحوت، وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب لما فتح هذه المدينة هدم بعض أسوارها، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفاً أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها”.
وعن المسجد الأقصى يقول: “هو من المساجد العجيبة فائقة الحسن يقال إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه .. والمسجد كله فضاء وغير مسقف إلا المسجد الأقصى، فهو مسقف في النهاية من إحكام الفعل وإتقان الصنعة ممون بالذهب والأصبغة الرائقة”.
أما عن قبة الصخرة فقد أورد: “هي أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلاً، قد توفر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف وهي قائمة على نشر في وسط المسجد يصعد إليها في درج رخام ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة ورائق الصنعة ما يعجز الواصف وأكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ أنوارا.. يحار بصر متأملها في محاسنها”.
ومن مغاربة الفترة الذين سمحت رحلاتهم ببلوغ القدس، نجد العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي رحل من المغرب إلى مصر ومنها سمحت له ظروفه بزيارة بيت المقدس.
ونذكر أيضا أبا عبد الله محمد بن الأزرق الغرناطي المالقي، وكان قد تولى القضاء بالقدس وتوفي بها أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
وقد ظلت الرحلات المغربية قائمة صوب القدس الشريف كما يتبين من خلال مذكرات العلامة عبد الله المقري التي تتحدث عما كان له من علاقات بأعلام بيت المقدس، ومن خلال المقري الحفيد صاحب “نفح الطيب” الذي زار بيت المقدس نهاية العقد الثاني من القرن السابع عشر، حيث يقول: “لما دخلت المسجد الأقصى وأبصرت بدائعه التي تستقصى بهرني جماله.. وسألت عن محل المعراج الشريف.. وشاهدت محلا أمَّ فيه (ص) الرسل الكرام”.
ومن الرحلات المغربية التي خصصت حيزاً هاما لبيت المقدس تلك التي قام بها أبو سالم عبد الله بن محمد العياشي، وكان قد قصدها عن طريق غزة بداية ستينات القرن السابع عشر حيث وصف المسجد الأقصى وصفاً دقيقا.
وعن الفترة الوسطى من زمن دولة العلويين أيام السلطان محمد بن عبد الله، نجد رحلة محمد بن عثمان المكناسي، السفير والوزير، الموسومة بـ”احراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب”.
ولعل مما تحدث عنه هذا الأخير في رحلته، أوقاف المغاربة بالقدس الشريف التي منها ما يعود إلى بداية القرن الرابع عشر الميلادي، مثل وقف الشيخ عمر بن عبد النبي المغربي المصمودي في شأن تعمير زاوية المغاربة بالقدس الشريف، ويتعلق الأمر بثلاث دور تقع بحارة المغاربة، وكان ما تم تحبيسه من قبل المصمودي لفائدة المحتاجين المغاربة، سواء المقيمين بالقدس أو العابرين.
وهناك عشرات الأوقاف التي تطوع بها محسنون مغاربة لفائدة القدس الشريف، مثلما يذكر أبو مدين شعيب بن أبي عبد الله محمد ابن أبي مدين شعيب المغربي دفين تلمسان المتوفى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وهو تلميذ سيدي حرازم.
وكان ابن عثمان المكناسي في حديثه عن طوائف القدس الدينية قد تحدث عن حضور مسيحي وإسلامي دون ذكر أي شيء عن اليهود اللهم مقبرتهم، علما أن الإمبراطور الروماني فسباسيانوس وبسبب مشاكل بينه وبين اليهود، قرر القضاء عليهم بإرسال ابنه تيتوس على رأس جيش كبير، ليتم تخريب أورشليم سنة سبعين ميلادية وإجلاء جميع اليهود منها، ولتظل القدس محرمة عليهم منذ هذا التاريخ إلى غاية ظهور الإسلام واستيلاء عمر بن الخطاب عليها سنة ستمائة وسبعة وثلاثين ميلادية.
يبقى كون المسجد الأقصى، ومن خلاله القدس الشريف وفلسطين، كان دوما بعناية مغربية خاصة ولا تزال، وفضلاً عن وكالة بيت مال القدس ورمزيتها، نستحضر رسالة كان قد توجه بها الراحل الملك الحسن الثاني إلى البابا بولس السادس في فاتح يوليوز من سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، رسالة تاريخية استهدف بها لفت انتباهه إلى بيت القدس وما أقدم عليه الإسرائيليون من عمل خطير به لمَّا قاموا بإلحاق المدينة المقدسة بما سيطروا عليه في أرض فلسطين، ولمَّا انتهكوا حرماتها وداسوا مقدساتها واعتدوا على أهلها وحكامها الشرعيين.
رسالة تضمنت ما حصل من مس بالوضع الديني لبقاع مقدسة، مع التذكير بما كان للمسلمين منذ قرون من رعاية لحرمة مواقع هي مهد سيدنا عيسى بن مريم ومسرى سيدنا محمد (ص)، رسالة بعد عدوان إسرائيلي آنذاك التمست أيضاً من البابا توظيف قداسته ونفوذه الروحي والنظر في وضع القدس السياسي والديني خدمة ليس فقط لأمن وأمان وقدسية مدينة، وإنما أساساً لخدمة وحفظ سلم الإنسانية وسلامها.