بينما يسود تهافت محموم من قبل القوى العالمية الكبرى لتكريس هيمنتها، وتنافس القوى الصاعدة من أجل إيجاد موطئ قدم لها في الساحة، توجد أغلب بلدان المنطقة “خارج زمن العالم”، بسبب عوائق عملية التحديث الفكري والثقافي والسياسي، وابتزاز الدول الكبرى، وبسبب حركة العولمة الاقتصادية والتواصلية.
ويرى المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية، في هذا المقال الذي خص به هسبريس، أنه لا يبدو أن هناك مجالا للخروج من “وجودنا المعلق باستمرار”، في الحالة المغربية، إلا بالوعي بالأسباب التي تنتج هذا الوضع، موضحا أن هذه الأسباب أصبحت معروفة ومُشخَصَّة، وتم عرضها على المناقشة والتداول بمناسبة تقرير الخمسينية، والثروة الإجمالية والرأسمال اللامادي، واليوم مع لجنة النموذج التنموي.
وفي ما يلي نص المقال
كيف يمكن فَهْم زمنية مُنفلتة دوما ووجود مُعلَّق نتصور أننا نفعل فيه لكننا، تاريخيًا وواقعيًا، مسوقون إليه في هيئات مختلفة؟ وإلى أي حد يمكن ادعاء تملُّك زمنية نحن لا نتحكم في مقوماتها وأسبابها إلا بنسب هامشية جدًّا؟
سبق لمفكرين طرح هذين السؤالين في سياقات مختلفة، لكن بصياغات تربط بين الزمن والوعي التاريخي؛ وتساءلوا هل حقا نمتلك وعيًا تاريخيًا، أو وعيًا بالتاريخ واعتبار هذا الوعي عنصرًا تفسيريًا للوجود. وقد واجه المفكرون العرب هذا السؤال، ومنهم عبد الله العروي منذ ستينات القرن الماضي، وهشام جعيط وغيره بعد ذلك، من زاوية أن التاريخانية فهمٌ عصري للزمن وللعالم، وأن الغرب الذي بلورها، نظريًا وحضاريًا، أدخلها في قلب تاريخه الخاص وعمل على تعميمها على الآخرين، وما يزال يعمل على فرضها بكل الوسائل؛ في حين إن ما تبقى من العالم العربي يصنع الآخرون زمنيته في كل مرة، وتجد دوله نفسها في حاجة مستدامة إلى آخر لكي تكون وتستمر، كيفما كان هذا الآخر. وها نحن نشهد على بروز قوى عالمية جديدة تقتحمنا بنماذجها وسياساتها بطرق ناعمة تارة، وبأساليب قسرية أحيانا أخرى، وجدتنا ما زلنا قابعين في نفس وضعية الاستتباع، اللهم إلا في حالات استثنائية.
قد يقال إن الزمن لا يُعطىَ بشكل تلقائي والانتماء إليه ليس مجرد رجاء. وهذا صحيح، أما عندنا فإنه يبدو، في كل مرة، وكأنه مرتهَنٌ لتصورات سحرية ومذهبية كان الناس، منذ منتصف القرن الماضي، يتصورون أنهم تحرروا منها بفضل الاحتكاك بالمعرفة العلمية والفلسفية؛ وإذا بها تعود بشكل مدوٍّ، بل واجتياحي حتى. ولا يعني تسجيل هذه المعاينة البتة غياب أنماط متنوعة من النظر العقلاني، من حسن الحظ، لها مكانة وتأثير متفاوت تمارسها بعض أوساط النخبة في العديد من مستويات الدولة والمقاولة المجتمع.
غير أن صعوبات متعددة داخلية وخارجية جعلت أغلب بلداننا خارج زمن العالم، وذلك بسبب العوائق المختلفة التي تشهدها عمليات التحديث الفكري والثقافي والسياسي، وابتزاز الدول الكبرى التي لا تتورع في كشف وجهها الشرس لفرض مصالحها، وبسبب حركات العولمة الاقتصادية والتواصلية التي مهما شهدت من تعثرات بين الفينة والأخرى (الأزمة المالية في خريف 2008 وتداعياتها المستمرة إلى الآن، والانعكاسات الهيكلية لجائحة كورونا)، فإن الدول عموما وفي طليعتها البلدان العربية، تجد صعوبات في التحكم في القرار السياسي، أو في احتكار “العنف الشرعي”، أو في التدبير المحكم للآليات الإنتاجية، والمالية، والصحية بشكل كامل.
ترتب عن هذه العوامل المتضافرة بروز أوجه مختلفة للضحية، الفردية والجماعية؛ وتؤكد المعطيات كافة أن جائحة كورونا ستنتج أوجها جديدة للضحية؛ حيث أصبح الكل يتقدم في هيئة ضحية إلى المجال العام، الذي أصبح حاضرا بقوة في مواقع التواصل الاجتماعي، يطالب فيه الناس بالاعتراف بما تعرضوا له من اعتداء أو استبعاد أو خسارة. ويستدعي الحضور الكبير والمتنامي لصور الضحية، اليوم، تفكيرًا جديدًا في ظاهرتي العنف والفقدان، أو بالأحرى في الآليات الجديدة التي يُعبر بها العنف عن مضمونه الثقافي؛ لا سيما وأن وسائط الاتصال، وفي طليعتها التلفزيون الذي يلعب أدوارا استراتيجية، أصبح سلاحا يوفر لمن يتحكم في سياساته التحريرية إمكانيات التموقع والتأثير، وتحول إلى أداة أضحت التجليات الجديدة للسلطة تعبر عن ذاتها بواسطة الصور والأصوات، بشكل سافر.
وتقوم وسائط التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الرقمية بنفس الوظائف لكن بطرق مغايرة وأكثر وقْعًا؛ لها من دون شك مزايا لا محدودة، لكن تأثيرها الواسع سمح لها بزحزحة المنظومة الإعلامية والقيمية برمتها نظرا لقدرتها على إنتاج الشك في الوقائع، وعلى نشر الضلال والخداع بأشكال أسرع من قدرات الحقيقة على إثبات ذاتها؛ لأن زمن الخطأ والتشويه في هذه المواقع له وتيرة متسارعة لا يضاهيه زمن الحقيقة.
من جهة أخرى، يستلزم التفكير في الزمن مساءلة تداعيات الاهتزازات، ومختلف أشكال التحولات التي تمخضت عن الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العربية، التي انطلقت منذ 2011 وما تزال، ضد الاستبداد وسياسات الإذلال، وما تمخّض عنها من انتقالات مُستعصية في بعض الحالات، ومن حروب أهلية مسلحة في حالات أخرى، زاد في تأجيجها تورّط قوى إقليمية (إسرائيل، إيران، وتركيا) تستعمل وسائل في منتهى الوحشية في الجغرافيا العربية، يحركها في ذلك مُتخيل انتقامي ضد العروبة، حيث أعطت لهذه الحروب أبعادا بالغة المأساوية، ترتبت عنها مظاهر احتلال وخراب غير مسبوقين.
وقد زاد هذا الارتكاس استفحالا مع فيروس كورونا، كما يبدو، باعتباره يشكل حدثًا كبيرا بهَوْله ومخاطره، وقام وما يزال بزعزعة كلية للاعتيادي ولليومي، وبتغيير في العلاقات بالذات، والزمن، والمكان، والآخر، والأوطان، والحدود. والظاهر أنه سيفاقم حالات التدهور والتراجع في العديد من البلدان العربية، سيما على صعيد الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية؛ وأما على مستوى المنظومة التعليمية، كما هو الشأن عندنا؛ وبسبب اختلالاتها البنيوية ستولد، لا محالة، مظاهر ضياع لفئات واسعة لم تكن قادرة على مواصلة التمدرس في الظروف العادية، وأَحْرى أن تنجح وتتعلم عن بُعد.
ويبدو لي أن سؤال الزمنية عندنا، فضلا عن ذلك يندرج، في العمق، ضمن إشكالية سياسية بقدر ما هي فكرية وثقافية، بل ويفترض النظر إليه بكثير من الحذر والتواضع بسبب التباس الخطابات وتشويه الأفكار الذي نشهد عليه في إعلامنا وكتاباتنا. أما الحديث عن الوجود الحالي أو الآتي فهو حديث إشكالي يترجم حالات مختلفة من القلق، ويتطلب انتباها خاصا في مواجهة مختلف أشكال اللايقين التي تعرفها مجتمعاتنا، كما أنه يخلق حالات من الخوف من جراء مختلف أسباب العنف والاقتلاع، والصعوبات التي تعترض النخب السياسية والفكرية في فهم التحولات الجارفة للواقع، وبالأخص صعوبات فهم الحاضر وتدبيره، وتوقع المستقبل أو تخيُّله.
ليست الزمنية وحدها محط التباس بل إن لفظة الثقافة برمتها، عندنا، تعاني من كثير من التشويه، ومن التمييع غالبا، وتستعمل في كل وقت وحين؛ حتى وإن عمل مستعملوها على القيام بأدوار تناقض، تمامًا، ما يدعونه. وتغيب، في الواقع، حينما يتطلب السياق النهوض والتفكير، والتفاهم، والإبداع، وإنتاج مقومات التقدم.
وفي مناخ من ضحالة التفكير، سيما في زمن الثورة الرقمية وتنوع أشكال ضجيج وسائل الاتصال والتواصل بين الناس، وفي سياق من الارتهان الدوغمائي للماضي، أو الارتهان لمناقشات وجدالات تجعل من هذا الماضي قضيتها ورهانها الرئيسيين، تتراجع فرص التفكير أمام اجتياح نزوعات الهيمنة، ومظاهر الإملاء المختلفة، إما باسم السلطة العارية، أو الأصولية الدينية، أو أحيانا باسم شرعية انتخابية عددية تزرع الوهم لدى من ينطق باسمها أنه مَلك الحقيقة، وبلغ مُطلق السياسة. والحال أن السياسة لا تعرف المُطلقات، وأما إذا ألصقها البعض بالمُطلقات فإنها تنتج كوارث ومحنا تؤجج عوامل النزاع والمواجهة أكثر ممّا تفرز قواعد التفاهم والتعايش.
اعتبارات عدة تجعلنا نواجه زمنًا مُنفلتًا منَّا دومًا ووجودًا مُعلقًا باستمرار؛ ولا يبدو أن هناك مجالا للخروج منه في حالتنا المغربية، مرة أخرى، إلا بالوعي بالأسباب التي تنتجه. وهي أسباب أصبحت معروفة ومُشخَصَّة، وتم عرضها على المناقشة والتداول بمناسبة تقرير الخمسينية، والثروة الإجمالية والرأسمال اللامادي، واليوم مع لجنة النموذج التنموي.
وأما شروط تجاوز اختلالات وارتباكات الحاضر، فالكل يُجمع على أنها تبدأ من الإيمان الفعلي بالحاجة الحيوية إلى توسيع مجالات حرية التفكير والقول بدل التضييق عليها، وهي من مرتكزات أي نموذج تنموي جديد، وتطوير مجال عمومي مبادر، والتوجه نحو سياسة اقتصادية تضامنية حقَّة تحدُّ من الفوارق، واحترام القانون وانتظامية اشتغال المؤسسات، بما فيها الحرص على استقلالية هيئات الضبط والحكامة، والوعي السياسي الفعلي بأن تكوين كفاءات المستقبل لا يمكن التعويل فيه على خوصصة التعليم الذي كشفت كورونا تهافته واختلالاته، وإنما بالتطبيق الكامل للرؤية الاستراتيجية بإعادة هيكلة منظومة تعليم عمومي يُربي الناشئة كيف تتعلم وتفكر وتبادر وتحل المشكلات وتشارك وتختلف، في إطار من تكافؤ فعلي للفرص، ومن عدالة اجتماعية ومجالية حقة. ومن دون ذلك، سنبقى نردد ما قاله محمود درويش: “لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضِرِنا.. ولكن الشَّقاء الكامل أن يكون حاضرنا أفضل من غَدِنا.. يا لهَاوِيتَنا كَمْ هي واسعة”.