يعد الاحتجاج السلمي في المجتمعات الديمقراطية ظاهرة صحية للتعبير عن مطالب المجتمع وفئاته المتضررة. كما يعتبر هذا السلوك الاجتماعي تعبيرا يفترض من الفاعل السياسي الديمقراطي الإنصات لنبض الفضاء العمومي وفتح حوار وتفاوض للتوصل إلى حلول وبدائل تنصف المواطن وتحميه من التهميش وتداعيات كورونا والظلم والفقر. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بمقاربة ديمقراطية منفتحة على المجتمع بمكوناته المختلفة.
وإذا كان المجتمع المعاصر ينتج الفوارق الطبقية وينتج الثروة بطريقة غير عادلة وقائمة على الاستغلال والربح السريع، فإن المقاربة الديمقراطية تشكل إلى حدود الآن التصور والآلية المناسبة والملائمة لمعالجة اختلالات المجتمع المعاصر في تدبير الشأن العام في مختلف المجالات، لتصحيح أعطاب المجتمع وإنصاف الفئات الهشة والفقيرة واسترجاع التوازن الاجتماعي. وهذا يفترض تفعيلا دائما للمؤسسات الدستورية واشتغالها بروح من المسؤولية في اتجاه التأويل الديمقراطي للفصول الدستورية والقانونية، بهدف إرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات وتعتبر المواطنين سواسية أمام هذا الأخير بدون تمييز في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة لتأهيل الدولة والمجتمع لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والوبائية.
وقد تعرض الملف الاجتماعي بالمغرب للحيف والتهميش فاقم من تدهور الأوضاع الاجتماعية لمختلف الفئات الاجتماعية. دفعها لخوض نضالات واحتجاجات سواء في الإطارات النقابية، تنسيقيات، جمعيات، حركة 20 فبراير أو حراكات مجالية كحراك الريف وجرادة… في ظل حكومات متعاقبة أعطت كثيرا من الوعود للنهوض بالوضع الاجتماعي. فجاءت ممارستها وقراراتها وقوانينها عكس توقعات المواطنين وانتظاراتهم الطويلة وخصوصا في ظل حكومة العدالة والتنمية الأولى والثانية. أفضت إلى تدهور حاد في المعيشة اليومية للطبقة الشعبية والطبقة المتوسطة على السواء. الشيء الذي أدى إلى التوتر الاجتماعي والاحتجاجات.
وإذا كان المغرب قد عرف نجاحا في قضية الصحراء على المستوى الخارجي، عبر حصد التأييد لمبادرة الحكم الذاتي، فإن الاهتمام بالبعد الداخلي والتحديات الاقتصادية والاجتماعية أصبحت يلقي بثقله على الجميع. وهذا ما جعل الدولة تقوم بتنزيل قانون الحماية الاجتماعية للتدخل وإنصاف الفئات الاجتماعية في وضعية الهشاشة والفقر لتوفير الرعاية من منظور مؤسساتي للحد من التدهور الخطير في المجال الاجتماعي.
في هذا السياق، فإن الدولة مطالبة بتطوير حماية اجتماعية فاعلة وناجعة توفر للمواطنين شروط العيش الكريم وتحميهم من ظروف العطالة وفقدان الشغل في سياق محلي وعالمي تهيمن عليه الليبرالية المتوحشة ووباء كورونا. أدى إلى فقدان مناصب الشغل وعمق واقع الفقر في صفوف المواطنين. كما يتطلب منها العمل على مراقبة ومحاسبة الباطرونا من أجل توفير وتحسين شروط العمل للعمال بمختلف فئاتهم، وفق ما ينص عليه القانون وضمان حقوقهم في الأجور والضمان الاجتماعي وساعات العمل القانونية.
أيضا تتطلب المقاربة الديمقراطية محاربة الفساد والحفاظ على المال العام من التبذير، الذي يؤدي إلى إنهاك الميزانية العامة في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة لاسترجاع ثقة المواطن في المؤسسات الدستورية التي تفترض تمثيله تمثيلا نزيها، خدمة للمصلحة العامة والنهوض بالمرفق العمومي من تعليم وصحة وسكن وتشغيل من أجل التخفيف عن المواطن تكاليف المعيشة والذي أنهكته الخوصصة بفواتيرها الباهظة.
إن القطاع العام وكما نقول دائما هو قطاع استراتيجي وركيزة التنمية يساهم في بناء المجتمع اقتصاديا واجتماعيا. ويمكن المواطن من العيش بكرامة عبر تسهيل إمكانية الولوج إلى الخدمات الاجتماعية والاستفادة منها باعتباره دافعا للضرائب يساهم ماديا في تمويلها. وبذلك يعتبر مواطنا صالحا يساهم في بناء المرافق العمومية ويؤدي من جيبه خدماتها الموجة له.
لكن المفارقة أن الخوصصة تتم في دول نامية هي في أمس الحاجة إلى مرافقها العمومية وقطاعها العام من أجل تحقيق التنمية والتقدم واللحاق بالدول المتقدمة ولو بعد حين. هذا في الوقت الذي نجد فيه أن الدول المتقدمة تعطي كل اهتماماتها لقطاعها العام وتعتبره قطاعا استراتيجيا وتعمل على تطويره بالتخطيط لتحقيق الجودة بأعلى المؤشرات. إنها مفارقة تستدعى التأمل وإعادة النظر لرد الاعتبار للمرافق العمومية والقطاع العام الذي قام بواجبه البطولي بالتصدي لجائحة كورونا في جميع المجالات من صحة وتعليم وأجهزة وإدارات عمومية.
أيضا تتطلب المقاربة الديمقراطية أحزابا ومجتمعا مدنيا قويا يعتمد الديمقراطية تصورا ومنهجا في تسييرها وتأطيرها للمواطنين. يؤهلها للمساهمة في تسيير المؤسسات الدستورية بكل نزاهة وشفافية وبثقافة ديمقراطية، يفترض توفرها في هذه الإطارات الجماهيرية حتى تساهم في تأطير المواطنين بثقافة المواطنة خدمة للشأن العام المحلي والوطني، بعيدا عن الخطاب الشعبوي والديماغوجي الذي يسوق المزايدات والحقائق المغلوطة مستغلا المواطنين وبساطتهم.
إن الديمقراطية الحقيقية تتأسس على تصور وبرنامج ديمقراطي للدولة والمجتمع. يهدف خدمة مصلحة المواطنين بكل نزاهة وشفافية وبدون تمييز في اللون والعرق والانتماء الاجتماعي. ويحتكم لدولة الحق والقانون والدستور لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لجميع الفئات الاجتماعية.
لقد أصبحنا في حاجة إلى دينامية سياسية وثقافية جديدة تكون أكثر انفتاحا على الفعل الديمقراطي. يكون مدخلها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفتح حوار شامل حول الملفات المطلبية مع الفاعلين الاجتماعيين. وترسيخ حرية التعبير كحق من الحقوق العادلة والكونية للمواطن تعبر في العمق عن قوة الدولة والمجتمع ومناعتهما في التدبير الديمقراطي وبناء مؤسسات قوية تحتكم للتأويل الديمقراطي للدستور الحالي قابل للتطوير والإغناء وفق الإرادة الجماعية.
وعليه، فإن المقاربة الديمقراطية تشكل تصورا ومنهجا لمعالجة المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتحقيق التنمية وضمان الحماية الاجتماعية للفئات الهشة والفقيرة في سياق وطني ودولي، أصبح فيه المواطن منهكا بتبعات كورونا ومخلفاتها الكارثية. كما ستساهم هذه المقاربة في تجويد الممارسة السياسية التي تتطلب المراجعة والنقد، لتصحيح الأعطاب وإرجاع ثقة المواطن في المؤسسات والثقافة الديمقراطية التي ستمكن من معالجة مشاكل المغاربة ومواجهة التحديات بكل ثقة وأمل في مستقبل أفضل.