حدثنا من نثِق في رِوايته، ونَعْلَق بلطائِفه قال:
كنت بالرباط، عِقد المُلك والمَناطِ، ولؤلؤ التاجِ ومَقصَد المحتاج، وركْحِ الاحتجاج.
كنت منها بباب الأحد، ومنه بسوقِ السبَّاط، أقيسُ القدم باستِحياءٍ، وأقيس النِّعالَ باسترخاءٍ؛ وحَولي رهطٌ مِمن أعْجِب، ولا أدري أمِن أقدامٍ فاضت وأظافر طالتْ، أم من نِعال بارَت حتى أتيتُها فاحتارَتْ.
طال القِياس ولا نعالَ على المقاس حتى فارَ التَّنورُ، وانبرى التاجِر كثورٍ يخُور:
يا هذا هلْ هذه أظافِرُ أم حوافرُ؟
ليس عندي صفائحُ؛ ثم التفَتَ إلى الجَمع الضاحِك وقد كبُرَ وكبَّر: هل من ناصِح؟ من يقودُ أبا الأظافِرِ إلى إخْوتِه بسوق الصفائح والحوافر؟
ضَجَّ الضحكُ وعلا، وعادَ من كان جَلا، وأنا لا أبالي أخارَ الثورُ أم نهقَ الحِمار؟
يا هذا، شافاكَ الله من السُّعال، العيبُ في النعال، وإن كثُرَ القيلُ والقال؛ ألا تعرف أن الأظافرَ زينةٌ ومفاخرُ؛ إن طالتْ سلاحٌ وكواسِرُ، وإن قَصُرت جَمالٌ وبشائرُ؟
ألا ترى أنِّي مِن دُكَّالة الصِّيدِ، كجُلمودٍ في طودٍ؛ فأيُّ الأظافرِ أصلحُ يا رَقيق الأنْف، بائرَ النعَال؟
تعالى الضحكُ، وتقاطرَ كلُّ عابرٍ سَبَهْللٍ، لهذا الكلامِ الذي يُهَلْهَل؛ وتطاولَتِ الأعناقُ لترى الطِّوالَ والنعال، وتحْكُمَ للطود أو العُنقود.
وبينما نحن في هذا، بينَ مُشترٍ حائرٍ وبائع ثائرٍ، وضاحكٍ مِلءَ خاطرٍ، إذا بالأرضِ كأنها تَمِيد، من كثرة النازِلِ جرْيا، مِن صعيد الرباط إلى سوق السَّباط؛ ومِن وَطءِ الهرَجِ والمَرَج، وتدافعٍ بالأكتافِ والأردافِ؛ كلَّما اقتربَ تأجَّجَ، وعَلا وضَجَّ؛ بين قائلٍ صَهْ ومُجيبٍ مَهْ.
خِلتُه الكرَّ والفرَّ، وقلتُ لا هو النَّشرُ والحَشرُ؛ التفَتُّ إلى صاحب النعال، والجمعُ حولي قد تبَدَّد وزالَ، فألفَيتُه نَسِي الحوافر والأظافر، ومال حيثُ التدافُع والتنافُر.
لحقْتُ بالسيلِ العارِم أتقَصَّى الخطبَ القادِم، وأنا على سوقِ السباط والرباط نادمٌ بنُ نادِم؛ والأظافرُ سِنانٌ ومَخارِمُ، تتوقَّعُ المُهاجمَ والنِّزالَ الحاسِمَ.
أمْسك بي مِن رقبتي مَن ظلَّ يرْقُبني وأرقُبه، في المَقاسِ، ويَسمع جِدِّي هزْلي مع التاجِر الخَنَّاس؛ تفرَّستُ فيه مَلِيا فإذا هُو من أعرِف؛ ولا خيرً في من لا يعرف أبا الفتح الإسْكندراني؛ ولا عِلم لمنْ يجهل مقامات: المَضِيريةَ، الشَّمَقْمَقِية، الطِّبية والشامِية، وأخواتُهن..
بادرني أنْ صَهْ، فأنا هُوَ فلا تُفْصِح ولا تفْضَحْ؛ جِئت الساعةَ من الشامِ، مبعوثا من عِيسى بنِ هِشام، وفي عزْمِه أن يَرْوي المقامة القنبية للخليفة والرَّعية.
وقبلَ أن ألَمْلِم لِساني، وأضْبِط أوتارَ بيانِي، قال:
أنتً يا أبا الأظافر مِن العَصْرِ ولا تفهم لا في النعال ولا في المَقال والمآلِ؛ أتدري ما وقعَ في صَعيد الرباط، الساعةَ؟
قلتُ أبو الفتحِ أعلمُ، وكيف لا يعلم من خرجَ من مقاماته، وجالَ في العُصور حتى حازَ العلامَة الزَّعامة، وأتَى الرباطَ على ظهر نعامةٍ أسرع من بُراق السَّلامة؟
أطالَ عُنقَ زرافةٍ وقال: أما الرَّعدُ القادِم برَّا مِن عَلٍ، المُزَمجرُ خلفَ كلِّ فارٍّ مُبتَلَى، من وزراء العُصبة النجباء؛ فهو شيخُهم بن كيران وفي ركابِه شبابُ القوم الشِّداد النُّبهاء.
قلتُ يا أبا الفتح دعْنا من هؤلاء، فهُم أدْرى بما بينهُم وبين شيخِهم، كالنَّحلِ أدْرى بِما عَسَّل ومنْ لَسَع؛ إن تغاضبوا فلِكي يتصالَحوا ويُغضِبوا ويَفتِنوا ويَشغَلوا؛ حدِّثنا عن بغداد ومَضيرياتها، وعن شيخك وهَمَذانياته. حدثنا عن الرَّيحان وعزْف الكمان، وساعات الأنْس الخفِيفة، في بلاطات الخلِيفة؛ حدثنا عن الشِّعر والشعراء، والصَّهباء وما قيل فيها.. دعْنا من أحزان الساحة والسَّاسة.
وقبل أن أسْترسلَ، راحِلا إلى عصْرِ الأنوار والرشيدِ، تعالت منهُ صَه صَه، أنت في نُزهة وأنا في مُهِمة؛ ها قد اقتربوا، اسْمع.
نظرتُ فإذا الشيخ وقد أدركَ الفارِّين؛ أحاط بهم الفتية الشداد الغلاظ، بالتكبير والصَّهيل، وكلُّهم غضبٌ وعويلٌ؛ وحولهم ساكِنةُ رباط الفتحِ، وكلُّ من رام النُّصحَ والصلحَ؛ كلُّهم أعناقٌ تشرَئبُّ، وآذان تتسمَّع وترى ما يقع.
اسْمعوا وعوا، يقول الشيخُ الهائج، هذا يومُ من سادوا وضيَّعوا، لأضْرِبنَّ الأكتافَ والأرْداف، وكلَّ من قال بالاختِلاف، واخْتلاق الدَّواء من الدَّاءِ.
تركْتُم على المَحجَّةِ البيضاء، فإذا بِكم تُصبحون على الخَضْراء؛ زَيتُها كرَحيقها، وكيفُها وساوسُ خرقاءُ في جبالٍ جرداءَ.
كيفَ لم تعْقلوا أنَّها خَضراءُ الدِّمَنِ، من منْبِت الفقْر والمِحن؛ لا تنزلُ المكارمُ ساحتَها، ولا تفارِق المغارمُ أسواقَها وحارتَها؟
كُفُّوا يقولُ للفِتية الشِّداد، أريدُهم أصِحّاءَ يعونَ ويعقِلون، قبلَ سَمْلِ العيونِ وخرْم الآذان، جزاءُ كلِّ مُتهوِّر فتانٍ.
أنتَ يا عِلماني، وأنتَ يا صِنديد، وأنتَ يا سبَّاح وأنت يا تاوِدي، وأنتَ وأنت؛ كيفَ فتحتُم باب الكِيف والتِّبغِ والتَّلفيفِ؛ ونحن نُعِد العُدَّة لأمِّ المعارِك، وليسَ بعدها غيرُ الصَّدرِ أو القبرِ؟
كيف سنُعول على شباب مُرتخي الفِكر، تالِف يلُفُّ ولا يَرِفُّ؛ يفِرُّ ولا يَكُرُّ؟
كيف بنا والمصباحُ ينطفئُ خَدَرًا، وهوَ أبعدُ ما يكونُ عن الصَّباح؟
كيف انتصرتُم لِكْتامَة، وما فكرتُم في المَلامة والنَّدامة، وثرثرَة الحشاشين والنَّدامَى؟
أكملَ أبو الفتح الإسكندراني في أذُني: ذكَّرني صاحبكم بالمَضيرة، التي توهَّمت أكلَها ضَيفا، فإذا بِصبية بغداد يأكُلونني صُياحا وأحْجارا، حتى كرهتُ حروفَها وساعتَها، وحامِلها والمحمولةَ اليه.
عاجلته ضاحكا بِصهْ صه ومَهْ مه؛ سجِّل يا أبا الفتح ما ترى وتسْمع؛ فليس في كلِّ يومٍ يطارِدُ الشيخُ القارُّ، كالوقارِ وزراءَه الأبْرار.
تعالتْ من جهة الوزراء المحاصَرين صيحاتٌ لا هي بالحِجاج ولا هي باللَّجاج؛ لا هِي بالرُّدود ولا هي بالصُّمود؛ وكأنَّ الخَضراء الهيفاء شوَّشت الفكرَ والنظرَ، وكأنّ الشيخَ لهيبٌ قدِ اسْتعر، ولا يدرونَ إلى أين الرُّكون والى أين المَفر؟
إلى أن أبانَ الصِّنديد وأفصحَ عمّا يحسمُ بين الشيخِ والمُريد:
اسمعْ يا شيخَنا، ونورَنا وشُوَّاظنا، يا من تقاعَد واستكانَ، وتركَ ما جرى وما كانَ.
إن خيرَ الخضراء عميمٌ، تنعْنعتْ أو أغْبرت؛ فهي وارفةُ العودِ من قديم العُهود؛ سَيَّان صَحت السماءُ أو أمْطرتْ، فهي في الحَوافي القِمم من أفضلِ النِّعم، وأجود الدَّواء للسَّقم؛ إذا قُصِّصت فاحَت، وإذا أغْبِرت جادَت، وإذا زُيِّتتْ انتهَى إليها الكلامُ، في كلِّ شِعر وبيانٍ، وفلسفةٍ ورَزانٍ.
يتشجّعُ العَلماني ويُسكِت الصنديدَ، والشيخُ بينهما حائرٌ لا يَسمعُ ما يُريد:
وفيها مِن باقي النعم والأسرار ما لا يعلمُه إلا الواحدُ القهار. اسمع يا شيخنا، وإن رَقَّ صوتي وهزُلتْ قامتي:
سَترْنا خَضراءَ الدِّمن، حتى أحاطَت بنا الأمَمُ والمِحن. يريدون حظَّهم منها، مِما نعرف وما لا نعرف، فكيفَ لا نهْتَبِلُها فرصة لقَتل الفقرِ وعلاج القرحة وإشاعة الفَرحة؟ وما أدراكَ يا مُتقاعد يا كَسلان، ويا من صارَ في خبرٍ كان، ما يوجد في القشور والجُذور، والحَب والزُّهور؟
ينتفضُ السباحُ، وقد استعاد الجَناح، ليطير خطِيبا صَوب الخضراء في الجبال الجَرداء.
إنها من فَخر كْتامة، لا مَلاَمة ولا نَدامة؛ وإنها نعناعٌ أينعَ، وللفَقر أقطَعُ، ولأنْفِ الحُساد في الشرق أجدَعُ.
مالك يا شيخُ تنَزَّلُ في النِّعال كحَصاة لا تَحيدُ ولا تَميلُ؟ وفِي الحَلق تسْكن كالسُّعال؟
يلْكُزُني أبو الفتح، حتى لا تفُوتني لا النعال ولا السُّعال.
يواصل السباح: يا أهلَ كتامة، الفُقراء بكرامَة، دعوا الخَضراءَ والسمراء، وانزِلوا إلى رِحاب شيخِنا في حيِّنا ودارنا وحِزبنا، وكُلوا من الليْمون والسَّمن، وامرَحوا في الصالون، فهو جديدٌ مَصون.
يا شمسُ ازَّاوَرِي عنِ القمم الجرْداء والخضراء، ويا مِياهُ غورِي ويا سماءُ أقْلِعي.
أهذا ما تريد؟ أم في الجِراب بقيةُ نُفاضةٍ، ليس لنا فِيها نباهةٌ، يا شيخ الحِكمة والكرامَة؟
يلتفتُ الخطيبُ إلى التاودي: قل شيئا للشَّيخ النافرِ من الرِّزق الوافر؛ أنت الذي لا تجِد للشِّعر فائدة.
يتنحنح الرجلُ وكأنه استفاقَ من سُبات خارج المِيقات:
كنت نبذتُ الشِّعر بحْثا عن أمِّه؛ فإذا بِها هذه الخضراءُ، التي لا تَردُّ على الشيخِ صَلاته ولا أنْفاله؛ ولا صِيامه ولا حتى حُكومته.
اتركوه يا سادتي الوزراء يستريح ليُفكر ويُريح؛ فما أظنُّه يعود لهذه الغزوة أبدا؛ وعسَاه ينتهي، صوفيا بركوة، بكل فخر ونخوة. وأنصحه أن يختار لسياحته قممَ جبالة، ذات العِز والشهامة، ليَعرف أنها والخضراء كالإناءِ والغطاء.
خيران لا ينفصلان، تاريخا وجغرافية، شِعرا وحسابا.
تعاود الشيخَ شراستُه فيجيب: ها قد أشهدتم رِباط الفتح طرَّة، أنكم والغفلة في صُرَّة واحدةٍ. ألا تدرون أنِّي أعلم منكم بحِساب الخضراء، دواءً كان أم نعماءَ؟ هل فكرتم في سائِق الجرار، وما سيفعل بكم في القِمم والحواشي والقِفار؟
هل تتوهمون الخضراء راقصةً في أعْراسكم؟ من أنتم في الرِّيف الورِيف؟ يا من لا يُميزون بين الثقيل من الخفيف.
تريدون الرقصَ مع الخضراء في شمسِ الظهيرة، والحالُ أن للعرس صاحبه الذي عقدَ وتزوجَ ووعدَ وروجَ.
طيب، أمَا وقد عزمتم وقرَّرتم، واخترتم لي السِّياحة في قِمم الجرار، فأعِدكم أنني سأفعل حتى لا أكونَ معكم في السفح والمَهاوي، يوم تُحرثون حرثا، جِهارا نهارا.
انحت الهاماتُ، وهي تسمع نشيجَ الشيخ، وحشرجَة كلامه، وهو يُفرق الفِتية عن الوُزراء؛ ويدا في يدٍ عاودوا الصُّعود صوب صعيدِ الرباط، حيث رئاسة العلماني، وهي تَستعِد لمعركة الحُكومة والبرلمان، بدون الشيخ بَنكيران.
نظر أليَّ أبو الفتح الإسكندراني مُستنكرا مستهجنا: سُحقا سحقا كيف تخلَّفتم إلى هذا الحد؛ وقد كنا نَمرح في المغاني والمعاني، نتغنى بالخُصور والأرداف وعِشق الغواني؛ ونكْرعُها غَبوقا وصَبوحا وفينا القُضاة النبهاء، والأئمة الزُّعماء.
وحيثما أمطرتْ تصلنا الأرزاقُ، ولا نسأل أمِن بنت الكرمِ، أم من هذه الخضراء التي سيَّلتم لَها لُعابي، وأقسمت أن أزفها للرشيد يافعة يانعة، طبيبة مُعافية.
ثم التفتَ شرقا وصرخ: وابغداداه أقبِلي لِترَي سيْر القَهقرى، بسرعة الشَّنفرى.
وهو يودِّعني، ويوصيني بالنعال والأظافر خيرا وحِرصا، أقسم أنه لن يُعرج في عودته الغاضِبة اليائسة إلا على كْتامة، ليتزود للقنبية بما تيَسر حتى تَلينَ عريكة ابنِ هشام، ويأتي بالجيد والتَّمام؛ ويحْكي للخليفة الهُمام أن القرون اللاحقة ليست أفضلَ من قُرون بغداد وحدائقها الوارفة.
ثم اختفى، ولولا ألمُ لَكْزته فِي جنبي، مُودعا بطريقته، ما صدَّقتُ أنه كان بِجانبي.
والفضل كل الفضل، في لقاء الإسكندراني واختبار بياني، لبنكيران وفتية العلماني.
وإن تشابهت الأسماء وأوحت المعاني، فهي صدفة من متأدب غير عدواني.