الجائحة.

يشكل ما بعد جائحة كوفيد 19 تحديا حقيقيا لكل دول وتجمعات العالم ومؤسساته الدولية. أدت الجائحة التي لازالت تجثم بقوة على الأوضاع العامة العالمية، في كل أبعادها، إلى حالة من الركود العام غير المنتظر وبخسائر جسيمة ضربت أقوى الاقتصادات العالمية. نتج عن ذلك تغييرات كبيرة لم تمس الوضع العالمي جيو-سياسيا وأمنيا واقتصاديا وماليا وتجاريا وثقافيا فقط، بل مسَّت مفاهيم كبرى بُنِيَ عليها المجتمع الحديث الحر أساسا. أهم هذه المفاهيم: الحرية والتضامن والأسرة والسعادة والأمن والدولة الحاضنة والدولة الحامية والسلم والاستقرار والبحث العلمي والصناعات الدوائية والتكنولوجيات التواصلية ودورها الجوهري في التدبير والتسيير اليومي للدولة ولخدماتها العمومية وكذا في الإنتاج والتوزيع والتموين وسلاسله … إلخ

لكل نقمة نعمة.

تتعدد أبعاد أي ظاهرة بين الإيجابي والسلبي حسب السياق ووفقا لزاوية النظر. فالجائحة التي سببت مشاكل ضخمة في الاقتصاد العالمي وفي اقتصادات الدول وبنياتها المالية والتجارية والإنتاجية والثقافية والاجتماعية والصحية، لم تخلو من جوانب إيجابية تمثلت، على سبيل المثال لا الحصر، في تقوية بنيات البحث العلمي وإعادة النظر في التضامن العالمي، وفي الموقف من بؤر ومناطق توتر طال دوامها، وفي مفهوم العمل والإنتاج والتغطية الصحية الشاملة، والخدمات العمومية في تعددها ومستوياتها المتنوعة كالصحة والإعلام والتعليم والنقل والأمن إلخ.

لقد طرحت الجائحة بقوة عند ضغطها على المجتمعات المعاصرة، قضايا خدمات وقيم، لم تكن الحكومات ولا الشعوب تمنحها اهتمام استراتيجيا. من هذه القضايا: الوقاية الصحية والنظافة العمومية والجماعية واحترام الاختلاف والتعدد والتسامح والتعايش والالتزام الطوعي بالواجب العمومي منه والخصوصي والصحة النفسية وتعميم تكنولوجيات التواصل والعمل عن بعد إلخ.

الوعي الجمعي والنقاش العمومي.

اتسعت نتيجة لوقع الجائحة أيضا قوة الوعي الجمعي، كما اتسعت رقعة النقاش العمومي للقضايا المجتمعية والسياسية على حد سواء. هكذا أصبح النقاش العمومي يتجه أكثر نحو معايير السلامة والصحة والوعي والتآزر والتقاسم والتضامن. كما انصب اهتمام المواطنين في العالم أجمع، ومن خلال كل وسائل التواصل الإعلام والتواصل العمومي، (شبكات التلفزيونات الفضائية الموضوعاتية وغيرها، شبكات التواصل الاجتماعي وصناعة المحتوى …)، على قضايا الحرية والتنمية والتضامن والتدبير والتسيير العمومي للمجتمع ولحاجياته في الخدمات الصحية والاجتماعية والثقافية وغيرها. أدى ما سبق إلى الرفع من نسبة الوعي بالحريات وبأهميتها بالنظر لما عرفته من تضييق بل وخنق تحت طائلة العقاب غداة الهلع الذي عمَّ العالم، وذلك بهدف وقف العدوى والسيطرة عليها. لجأت كل دول العالم إذا إلى إقفال تامٍّ لشهور، بسبب صدمة جهل مخيفٍ بطبيعة الخطر الفيروسي الذي داهم عالمها الآمن، وبدأ يقتل بأعداد لم تكن في حد ذاتها مخيفة، بقدر ما كان انتشار العدوى بعشرات الألاف بل مآت الآلاف، يهدد البنيات الصحية في أكثر دول العالم تقدما بالانهيار.

من الخوف إلى الإقفال التام.

يمكن القول بمعنى ما، أن سبب الإقفال التام رغم تكاليفه الباهظة، كان سياسيا أساسا، أي خوف على الاستقرار السياسي والاجتماعي للدول ولأنظمتها السياسية. فانهيار الاقتصاد والأمن والثقة شكل خطرا حقيقيا.

كانت سهولة التنقل عالميا وتحول العالم إلى قرية صغيرة من أسباب انتشار الفيروس قبل التمكُّنِ حتى من التَّعرُّف عليه. كان الإقفال التام كرد فعل أول الإجراءات لمحاصرة انتشار كوفيد 19. كل هذا الخوف وهذا الهلع والاضطراب والتربص “بالعدو-العدوى” العالمية، أفرز مسارا هائلا من إعادة التفكير فيما كان يعتبر مكاسب وبنيات مستقرة في أوضاع العالم من جهة، وتسريعًا، من جهة ثانية، لما كان يُخطَّطُ له من تطوير وصيانة لقوة سيطرةٍ، تخدُم أوضاعا استراتيجية قائمة تحت ظل العولمة. كانت التخطيطات لإعادة رسم خرائط العالم ومناطق النفوذ والتوتر فيها تسير بتؤدة، مستهدفة عشاريات مستقبلية. كان ذلك يحدث تحت قيادة دول كبرى متنافسة – الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا أساسا – وأخرى صاعدة طامحة للعب أدوار إقليمية قوية حسب المنطقة التي هي فيها، والتكتل الداعم لها، والتحالفات التي عقدتها مع القوى الكبرى -تركيا وإيران والمغرب …

تلك بعضٌ من أكبر “نِعَمِ” الجائحة التي هزّت العالم وغيّرت مساراته منذ أكثر من سنة ونصف حتى الآن.

المغرب والجائحة.

استطاعت الدولة المغربية في أعلى مستوياتها الإمساك بزمام الأمور عند حلول الجائحة بحنكة وتمرسٍ وبعد نظر. كان تأسيس وأجرأة صندوق الجائحة أقواها. هكذا كانت المملكة المغربية من الدول التي توفقت بتميز في التدبير المحكم للجائحة وطنيا وعالميا، حيث لازالت من بين الدول الأكثر قدرة على التخطيط والتنفيذ في مواجهة الجائحة ثم في حملة وطنية جيدة الإحكام للتلقيح، أمام وضع وطني وعالمي غير مسبوق ولا مألوف أو مُجربٍ من قبل.

من المهم في هذا السياق أن نشير إلى كون المملكة المغربية لم تنجح في مواجهة الجائحة صدفة أو بعبقرية لحظية ألهمتها إياها السماء، بل إن هذا التفوق يرتبط بقوة باستراتيجيات تنموية شمولية مندمجة ومُفكَّر فيها بحنكة وأصالة وحداثةٍ، انخرطت فيها المملكة منذ بداية عهد جلالة الملك محمد السادس.

إن كان ممكن الحديث عن تأثير للجائحة على الاستراتيجية التنموية الملكية في العهد الملكي الحاضر، فسيكون هو تسريع الربط الشمولي بين أوصال استراتيجية تنموية ملائمة، والمرور إلى سرعة قصوى في حسم ملفات جوهرية لإقلاع منتظر ومصيري، منها المسألة الوحدة الترابية والامتداد الافريقي وصيانة الحدود القارية بثرواتها وتحصين الوحدة الداخلية بالتركيز على تجويد الخدمة العمومية… ذلك ما بلوره بوضوح النموذج التنموي المتقدم والجديد الذي تم تقديمه لجلالة الملك منذ بضعة أيام.

وضع جيو-استراتيجي سياسي غير مسبوق.

يعيش المغرب وضعا غير مسبوق جيو-سياسيا في وجوده كدولة. يتسم هذا الوضع بسياقات وطنية وإقليمية ودولية تصُب جميعها في وضع استراتيجي يمكن المملكة اليوم، من الإمساك بخيوط مصيرها المستقبلي، وتحديد مساراته على المستويات المذكورة، مستفيدة من عمل بنيوي استراتيجي ذكي، شمل تحديثا طال البنيات التشريعية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والدبلوماسية والسياسية والتجارية.

استفادت المملكة أيضا من التحولات الكبرى في رقعة التوترات والصراعات والمنافسات العالمية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وإيران خاصة، وما أفرزه ذلك من كشف لتبعية وعجز الاتحاد الأوروبي عن أن يكون قوة مستقلة منسجمة ومنافسة في هذا الصراع، كما أن تطورات الصراع العربي الإسرائيلي في اتجاه حلحلة جديدة لجموده الطويل من جهة، وتكريس إدارة البيت الأبيض للاعتراف بمغربية الصحراء من جهة ثانية ودون ضجيج، أنتج في تساوقه مع ما سبق وطنيا وإقليميًا ، كون المملكةاليوم قادرة على إحداث ثورة حقيقية سياسية ودبلوماسية، مسنودة بماحققته في ظل بعد النظر الملكي، وطنيا من تحديث الجيش والأمن والمخابرات، وعصرنة لطبيعة الفعل والخطاب الديني. المؤسسي وكذا استراتيجية التعاون الدولي المالي والزراعي والاقتصادي والطاقي، إفريقيا على الخصوص، بفعالية ذكية وملائمة براغماتيا ومن حيث الجدوى، كل ما سبق إذا جعل المملكة تستطيع، وبجدارة وبُعد نظر ونفَسٍ كاف، الدخول في مسلسل ديبلوماسي بنيوي لرفع عوائق مغرب ما بعد كوفيد-19، الذي لا يشك أحد في أن غير الدول القوية لن تحصل على قيمة دولية سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية تنافسية لنفسها، دون تهييء ملائم وصلب وبنيوي، لتواجدها في خضم رقعة سياسية عالمية، تتغير جذريا لأسباب معقدة ومتعددة جاءت جائحة كوفيد-19 لتسرِّع ضغطها وايقاعها.

الصيد البحري والهجرة وتدفق المعلومات المتقاطعة والتحكم مع حلفاء أقوياء في سلاسل الإنتاج الزراعي ومداخل الطرق التجارية البحرية والبرية نحو إفريقيا، إضافة إلى فتح خزائن ثروات معدنية وبيولوجية وطاقية جديدة، تلك هي قوة المملكة الجديدة التي تكمن اليوم وراء قوة وحكمة وصلابة وذكاءالدبلوماسية المغربية تجاه أوروبا وغيرها من القوى الأخرى وإن ظهر الأمر يعني دولتان تظهران اليومقصرا في النظر الاستراتيجي، ورُكوناً بمعنى ما لبقايا نظرة نرجسية استعمارية عفا عليها الزمن. يتعلق الأمر طبعا بكل من إسبانيا. وألمانيا، وهما دولتان لا ثقل سياسي عالمي لهما مطلقا.

القافلة تسير ولا تأثير للمقاومات.

كان المغرب دائما، وبسبب شخصيته الجمعية وموقعه الاستراتيجي وثرواته المستدامة البحرية والبرية والبشرية، محط أطماع وقوى إقليمية لن ترفع يدها إلا بقهرها بذكاء وتصميم وقوة متكاملة الأدوات، وبقوة اقتراح حقيقية لتقاسم عادل للمنافع. ذلك هو حال القوى الاستعمارية التقليدية أساسا، من احتل أراضي المغرب فعلا، ومن لم يفلح في ذلك لكن عينه على المغرب اليوم في ظل التحولات العالمية الكبرى، وتحولات قوة المغرب الهامة كبوابة لإفريقيا خاصة، طلت مفتوحة وطامعة بمنظور عفا عليه الزمن.

يتعلق الأمر بإسبانيا خاصة، وفرنسا كُمُونًا، وبألمانيا بدرجة ثانوية.

ستعود هذه الدول إلى منطق التحولات الاستراتيجية التي يعرفها المغرب كما تعرفها المنطقة إقليميا بل والعالم بأسره فيما بعد كوفيد 19 وينتبهون أن “مغرب اليوم فعلا ليس هو مغرب الأمس.

النموذج التنموي الجديد عُصب ما بعد كوفيد 19.

لكن، ماذا عن النموذج التنموي الجديد والمُتقدم؟ ألا يُعتبر حجر الزاوية في بناء مستقبل المملكة لما بعد كوفيد 19، مستقبل بكل تحدياته وفي ظل الوضع الاستراتيجي الشمولي الذي سُقنا بعضًا من مُعطياته وليس كلها؟

لنتأمل المشروع كما تم تقديمه لصاحب الجلالة مؤخرا، والذي سيعمم على المجتمع كخطوة ضمن استراتيجية الإشراك والتشارك بهدف إنجاحه وترجمته على الأرض، تلافيا لما حدث للتعديل الدستوري منذ عقد من الزمن ولإصلاحات تشريعية أخرى سابقة، حيث لم يبلغ الوعي بأهميتها وبالتالي الانخراط في دعمها وتنزيلها درجة نخبوية حزبية وشعبية وطنية جماهيرية ديناميكية حاسمة في التطبيق والتفعيل والأجرأة.

“دولة مُتمكنة” و”دولة تضع الاستراتيجيات” و”دولة ضابطة” و”دولة حامية” و”مجتمع قوي” … هي مفاهيم-مفاتيح، ضِمن أُخرى، يعتمدها النموذج التنموي الجديد لتحقيق “وطنٍ قوي” موعود لا شيء يمكنه التحقق على الأرض بدونه. هل تفتح هذه المفاهيم عمليا على أدوات إجرائية لاستكمال انتهاء العمل بأوراق امتيازات مؤسسات تحتضر بالفعل. إن التحديث، تحديث الدولة ومُؤسسات اشتغالها وتدبيرها وتوجيهها للسياسات العمومية من خلال “إجماع” سيتم، كما تمَّ من قبل، إنشاؤه مسبقًا وإضفاء الشرعية عليه من خلال عملية الاستماع، استماع تم انتقائيا وبالضرورة حيث تحدث التقرير عما يزيد على 20.000 تم الاستماع إليهم:

من قراءة مضامين التقرير نتساءل: والحرية، الحريات في كل ذلك، إذا لم نقنع “بالإشارات” و”التضمينات”، الصريح منها الذي يمكن استنتاجه عن كل غائب عن لائحة الاهتمامات الجوهرية: الحريات والثقافة والفنون والإعلام والتربية باعتبارها في روافع جوهرية واختيارات استراتيجية في البناء التنموي القيمي والتوجيهي ذو اليد العليا في صيانة الحقوق: حقوق المواطن المغربي عِمَادُ مغرب ما بعد كوفيد 19 القوي؟

سيقول المُلاحظ الحصِيف أن كل ما سبق لايشكل بنية حقيقية ثورية في مملكة تدخل عقدها الثالث من التغيير الجاد والمُفكر فيه استراتيجيا بذكاء ومقدرة، وذلك لغياب عناصر ثلاثة أساسية وهي:

التربية والتعليم كأساس للبحث العلمي،

الصحة كعمود فقري لسلامة مجتمعٍ ومواطنٍ هو رأس مال أي قوة تمتلكها الدولة،

والثقافة والإعلام وهما الذراعان التواصليان والبصريان لبناء صرحِ الخطاب السياسي القوي المؤثر والمرافق، بل والداعِم استراتيجيا لأي بناء تحديثي استراتيجي.
الكلمة والصورة والسياسة.

نعيش اليوم في عالم تغمره قوة التواصل الجماهيري وتكنولوجياته المتقدمة والمأثرة، (من خلال دمقرطتها للمعلومات وللوعي بالحقوق وانتشارها بشكل مفارقي، يختلط فيه الكثير من المزيف بالقليل من الصحيح)، تغمره بظلالها وبأبعادها الشاملة، التي ربطت اليوم كل شيء: الإنسان والأشياء والفضاءات التي أصبحت”ناطقة وشاهدة” كما لم تكُن من قبل، عن تمازج واختلاط وتهجين لما يسمى في دراسات الثقافة البصرية “ابن البلد” في علاقته ب”الغريب” ، وعن العلاقة غير المتكافئة التي خلقها المد الاستعماري وتاريخ العبودية، بين الثقافات المحلية والثقافات العابرة العابرة التي غدت مُستوطِنة وغازِيَّة شُمولية، بفضل عولمة نيو-ليبرالية متجددة لا تكل ولا تمل من الإخلاص لمبادئها الأصلية في التعلُّق العضوي بقيمتي “الربح” و”السيطرة”.

في وضع مُعقَّد كهذا، تُطرَحُ على المملكة الشريفة بتجربتها وبخبرتها العميقة في السياسة وفي استثمار موقعها جيو-استراتيجي “المُحاصر”، تحديات كُبرى. يحدث ذلك والمملكة على أبواب بناء مغرب قوي ومُغاير، في منطقة جعلتها الطبيعة والتاريخ فيها مُحاصرة جيو-سياسيا وجيو-استراتيجيا وأمنيا. إنها تحديات لا يمكن فهم جوانبها الثقافية والإعلامية والتربوية التي تهم بناء مواطن هذا “المغرب القوي”، إلا في ظل استيعاب عميق لما سبقت إثارته بإيجاز من سياقات كبرى، تدفع في اتجاه ضرورة بناء الوطن ببناء المواطن، في تفاعل مع بناء المواطن ببناء الوطن، فمن يبني من أولا سؤال يكمن حله في توازن ممكن عند لقاءه والمصالح العليا للبلاد فيما بعد جائحة تركت أثارا لن تمحى على عالم يتحول ويستدعي تحولنا بجرأة وإرادة وتبصر وشمولية نظر، أكثر من أي وقت مضى؟

hespress.com