تعيش القراءة في المغرب انحسارا تؤكده الإحصائيات الرسمية التي تبين أن الزمن الذي يخصصه المواطن المغربي للقراءة لا يتعدى دقيقتين فقط في اليوم، كما أظهرت ذلك دراسة سابقة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط؛ وهو المُعطى نفسه الذي أكده تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، صدر سنة 2020، وجاء فيه أن المغاربة لا يقرؤون سوى 14 دقيقة في الأسبوع، أي بمعدل دقيقتين في اليوم.

وإذا كان فعل القراءة مرتبطا، على نحو وثيق، بالتنشئة التي ينشأ عليها الفرد في صغره، فإنّ عزوف “الكبار” عن القراءة يطرح سؤال علاقة الصغار بالقراءة في المغرب؛ ذلك أن عدم تربيتهم عليها يعني، بصفة تلقائية، نشوء جيل “غير قارئ”. فهل يقرأ أطفال المغرب؟ وكيف هو حال أدب الطفل في المملكة؟ هذان السؤالان وأسئلة أخرى يجيب عنها في هذا الحوار محمد النبغة، مهتم بأدب الطفل.

ما تقييمك لواقع أدب الطفل في المغرب؟ وهل ترى أن المنتوج الأدبي الحالي كفيل بتطوير ثقافة الطفل المغربي؟

دعني أتحدث، عن واقع الطفل بشكل عام، فأقول بأنه ليس على ما يرام، في ظل الأحداث المتسارعة والعوالم الجديدة التي أصبح يلجها هذا الطفل؛ حيث لم يعد كما كان ملْكا لأهله ولأسرة التعليم.

هذا الطفل كنا في ما مضى ندعمه ونأخذ بيده ليصل إلى بر الأمان ونحيطه بالرعاية والتوجيه، ثم طلعت علينا جهات هي من توجهه وتشحن أفكاره بما تراه وتتبناه، فصار يفكر بطريقة غريبة وجفّت أحاسيسه، ولم يعد يتواصل بشكل جيد مع محيطه ولا حتى أقرب الناس إليه، فصرنا نشاهد العنف مع الأصول وجرائم ضد المعلمين والأساتذة الذين كنا في ما مضى نحترمهم ونجلهم وأحيانا نشعر بالرهبة منهم.

إن واقع الطفل وأدبه أصبح مهددا؛ لهذا ينبغي على كل الفاعلين والمهتمين بالشأن التربوي وكذا الكتّاب المختصين بأدب الأطفال مواكبة طموحات هذا الجيل الذي لم يعد يرضى بمضامين المنتوجات الخاصة به، وطريقة إعدادها وعدم فهم تطلعاتهم وأحلامهم ورغباتهم وما يهمهم، فصار الطفل بالآليات التي توفرت قد جعلته معزولا عن محيطه، هو في واد والحياة الأسرية في واد آخر.

هذا الوضع الجديد جعل الطفل يفكر بشكل سلبي ويعيش هموما وخيالات تلبَّس بها، فصار همه الوحيد هو كيف يقضي يومه في اللعب؛ فمرة وحده وأخرى داخل مجموعة افتراضية قد تختلف توجهاتهم ومعتقداتهم. لقد صار عالم اليوم فضاء بلا خرائط، حيث انتفت الحدود واختلطت الأعراف والتقاليد التي كانت تقيد الأطفال وترسم لهم الطريق.. وهذه الظواهر خطيرة، إذ بتْنا نسمع عن الانتحارات الجماعية والاضطرابات النفسية والسلوكية والاكتئاب الحاد.

إن الطفل صار في قلعة معزولة عنا وتربطه خيوط بمن هم أقدر على فهمه وإبهاره، وهذا إما عن طريق المعلوميات بإيجاد أفكار وخيالات وقصص من الأساطير التي كنا في زمن نرفضها أو نحذر منها، فصارت بين عشية وضحاها قَناعات وحظيت باهتمام متزايد.. والأخطر من ذلك هو أنه، في ظل العولمة الثقافية الكاسرة للحدود، لم يعد هناك ما هو مرفوض أو مستحيل أو منهي عنه.. ولهذا، وجب على المهتمين بشأن الطفل إيجاد السبل والوسائل المتطورة والمواكبة حتى نستطيع جلب اهتمام الفئات العمرية من الأطفال بشكل يؤثر عليهم ويبعدهم عن الخطر الذي يحدق بهم، وأهم شيء هو الإنصات إليهم ومعرفة رغباتهم وفهم ميولاتهم، لكي نبني جسرا ونمرر ما يخدم مصالحهم لتوجيههم ورعايتهم والحفاظ على هويتهم ونفسيتهم.

هل كان هذا هو الدافع وراء إصدارك، بمعية الكاتبة خديجة الفشتالي سلسلة من المجموعات القصصية الموجهة إلى الأطفال؟

أصدرنا ثلاث مجموعات قصصية، حاولنا بها سد الفراغ الحاصل في مجالاتها. وأخص بالذكر سلسلة الأناشيد التي تتكون من ستة كتب كل واحد منها له محور، حاولنا التطرق فيها لمواضيع كثيرة لمساعدة أسرة التعليم في التوصل إلى ما تراه مناسبا وتمرر عبرها مجموعة من القيم والأهداف والرصيد اللغوي كي نرتقي بمستوى التلاميذ.

كما أخرجنا سلسلتين قصصيتين، كل سلسلة تتكون من خمس قصص في كتيبات، وتهدف إلى تغيير سلوكيات شاذة وحالات نفسية نسعى إلى إصلاحها بطريقة الحكْي وداخل عوالم من الخيال وبشخوص من الطبيعة، إما بالأشجار والنباتات أو الورود والحشرات والحيوانات، وهذا حتى نُخرج الأطفال من المشاعر السلبية والتربية الخاطئة وإعدادهم لخوض الحياة بشخصية سوية وقيادية ليصبحوا رجال الغد وحاملي مشعل المستقبل الزاهر.

يلاحَظ أن هناك شبه غياب للرواية الموجهة إلى اليافعين باللغة العربية. ما تفسيرك لعدم اهتمام الكتاب بهذا الجنس الأدبي؟

هذه ملاحظة في محلها. قد يكون سبب غياب جنس الرواية راجعا إلى مزاجية المتلقي/اليافع، وتقلباته النفسية التي تتميز بها هذه المرحلة العمرية التي يصبح فيها منعزلا ومزاجيا، مما لا يترك له المجال لزيارة المكتبات والإحاطة بهمومه وفهمها، وإشباع رغباته بالطريقة الصحيحة والمفيدة.

الطفل في هذه الفترة يصبح انطوائيا ويهرب إلى خارج البيت، فلا يتواصل مع أفراد العائلة، وقد يربط علاقات بعيدة ويكوّن صداقات قد تكون مؤذية له، ينحرف معها سلوكه بسبب وضع ثقته في الغريب أكثر من القريب.

وبفعل هذه الأمور والأحداث المتسارعة والوسائل المتطورة شغلت الحيز الأكبر من وقته وأخذت بعقل هذه الفئة، والتي وجدت في هذا الجديد والمغري له إشباعا لأقواله وأزاحت عنه الرتابة كما يعتقد.

وهذا أثّر بشكل كبير على اقتناء الكتب، ومن ثم تراجع الكتّاب والمؤلفون عن الكتابة لمثل هذه الفئة وإيجاد الجديد وإبراز المهم والجيد لغياب الشريحة المستهلكة لمنتجاتها.

إن الأعمال الموجهة إلى البالغين يصعب الكتابة فيها؛ لأن مضامينهم تتغير وأحلامهم تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا ما لا يمكن قبوله من الكتاب، فمثلا ما يكون سلبيا ويجلب الضرر لأبنائنا لا ينبغي قبوله على أساس أن الموجة الجديدة تقبله وربما تفتخر به وتتبناه. كيف سيكون مصير الإنتاجات التي كان عامل الزمن سببا في رواجها؟ فالمنطق يتغير بوتيرة سريعة والرغبات تبرد وتشتعل لأخرى كانت في نظر اليافعين غير مجدية ولا تروق.

إن هذا الجنس الأدبي مصيره من مصير حياة هذه الفئة، فما كان بالأمس قناعات وقرارات أصبح على خلاف ذلك، والأدهى والأمر هو أننا نشدد الرأي والعزم على تغييرها. هذه كلها أسباب تجعل من الكتاب لا يهتمون بهذه الشريحة. وما دامت النفسية غير مستقرة وسريعة التحول يضطر معها المهتمون إلى التريث وعدم المجازفة، لأنه في الأخير الكتابة رأي وقناعات؛ فلا يمكن الترويج للأقوال المتضاربة والهدامة، وإلا لا معنى لإخراج إنتاجات مرهونة بتواريخ الصلاحية، كأنما صارت وجبات يصل إليها التلف ويتجاوزها المهتمون بدعوى أنها صارت مرفوضة ومستهلكة.

في ظل العزوف عن القراءة، وتنامي استعمال الأنترنت، كيف يمكن كسب رهان إبقاء العلاقة وطيدة بين الطفل والكتاب؟

ربْح رهان إبقاء العلاقة وطيدة بين الطفل والكتاب ليس بالأمر السهل، لكون الغزو الذي طال عالمه قد تمكن وتجذر حتى لم يعد هناك مجال آخر ينافس الأنترنيت في طريقة شد انتباه الطفل، ولكثرة وتنوع المشاهد والإثارة التي تترك فضول الطفل لا حدود لها، وبالتالي التهمت معظم إن لم أقل كل وقته، مما جعل ولوج الكتاب ضمن اهتماماته.

هناك أيضا إشكال آخر يتعلق بمضامين الكتب الموجهة إلى الطفل، إذ بقيت على نفس الشاكلة التي عرفها هذا المجال ولم تشهد مواكبة لاهتمامات الطفل، ما جعله يصاب بالفتور والعزوف التام.

ألا ترى أن الأنترنيت يمكن أن يكون بديلا للكتاب الورقي؟

العزوف عن الكتاب الورقي يحتّم علينا أن نجد وسيلة متطورة تواكب المستوى الذي يتلقى به الطفل حاجياته عبر الأنترنيت؛ فالظرفية التي نعيشها تقتضي أن نشتغل بالوسائل الحديثة والتي ترُوق للأطفال، وهذا لا يعني أبدا أن نتخلى عن الكتاب، بل أن نجعل من الأنترنيت دعامة للكتاب وليس منافسا له، وذلك بإتمام المنهجية التعليمية والدعاية داخل هذا العالم الافتراضي.

كتب الأطفال والقصص والحكايات تبقى تقليدية ومتجاوزة في ظل الزخم الذي يتلقاه الطفل عبر الشبكة العنكبوتية والتخمة التي تصيبه بكثرة المواضيع في وقت وجيز وبدون ملل، وحتى لو أصاب جسمه العياء، فإن تركيزه يظل مشدودا بسبب الطريقة التي تقدم له بها تلك الاهتمامات والمضامين الخاصة به.

لهذا، يمكن خلق جسر مشترك بين الكتاب والعالم الرقمي، يكمل الواحد عبره الآخر؛ وذلك بالقيام بمسابقات عبر الحاسوب تكون الأجوبة فيها اختبارا لما قرأه الطفل في الكتب، على أن تتم مراجعة الأجوبة وتصحيحها، ثم تقديم حوافز تشجيعا له.

بالإضافة لذلك، يمكن تخصيص فترة أو حصة معينة يكرّس زمنها كله للقراءة، ليتربى هذا الجيل على أهمية القراءة وتخصيص الوقت لها بفعل تلك الحصص التي اجتاز فيها الامتحان بالإدلاء بمعلوماته التي كوّنها كدليل على المطالعة، وبالتالي تكون هناك نقطة على هذا التركيز والاهتمام، لنحيي بهذا العمل جيلا تجمدت أحاسيسه وجف خياله ولم تعد له القدرة على التفكير.

ينبغي أن تتدخل الجهات التي يهمها الأمر، من قريب أو من بعيد، من أجل إيجاد الحلول لأزمة القراءة؛ وذلك عبر الاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى والتي ما زال الكتاب فيها السيد الذي لا يشيخ ولا يمرض، بسبب اهتمام جل المجتمع بهذا الصديق الوفي والكائن الذي سيبقى بيننا ما دمنا واعين بأهميته.

لا بد أيضا من محاولة فهم أذواق الأطفال، وكيف يفكرون وما هي اهتماماتهم؛ فمن خلال معرفتنا بهذه الجوانب سنتمكن من إنجاح وإرجاع القصص إلى مكانتها في قلوب الأطفال، وسيظلون متمسكين بالكتاب مهما بلغ تطور تكنولوجيا المعلوميات.

hespress.com