تعتبر عملية إعادة التدوير “Recyclage ” أو “الرَّسْكلة” تقنية تستعمل في تحويل المتلاشيات المتخلى عنها إلى مواد قابلة للاستعمالات المختلفة في الحياة، ويحسب لهذه التقنية مساهمتها في خلق فرص للشغل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من جهة، وحرصها على حماية البيئة من جهة أخرى، لا سيما وأن نسبة كبيرة من المتلاشيات تكون “بلاستيكية” الصنع مما يجعل تحللها أمرا عسيرا.
إلا أن عملية “الرَّسْكلة” على الرغم من توظيفها في تحويل المتلاشيات من وضع “مقزز” إلى وضع “يسر الناظرين”، فإنها تتسم بالإبداع في التحويل والتجديد في الأشكال و”الديكورات” التي أصبح الإقبال عليها يزداد يوما بعد يوم، لكن نجاح هذا الأسلوب في إحداث التغيير وإضفاء نوع من الأدوار والمهام الجديدة للمصنوعات لا يستقيم في جميع المجالات والميادين، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن شيوع ثقافة “الرَّسْـكلة” في المشهد النخبوي في المغرب ربما لم يفلح إلى يومنا هذا في إحداث التغيير، مما يطرح السؤال: كيف أفلحت “الرَّسْـكلة” صناعيا في تجديد وتغيير ملامح المتلاشيات بينما عجزت سياسيا في تجديد النخب؟
مما لا شك فيه أن التمرين الديمقراطي في الأنظمة السياسية يعترف بالتدافع الفكري حول المشروع المجتمعي بين مختلف القوى والمكونات المجتمعية، وعلى الرغم من تباين المرجعيات والمنطلقات والإيديولوجيات أحيانا حول هذا المشروع، إلا أنها تعكس نوعا من الحركية في صفوف النخب السياسية. وإذ كان الحديث عن النخبة يقتضي قراءة تاريخية قصد استجلاء مفهومها وصيرورتها ومآلها، إلا أننا سنقتصر على قراءة مبسطة لجمود النخبة السياسية وما تقتضي الظرفية من تجديد وتنوع في الأفكار والطروحات الهادفة إلى الرقي بالمجتمع، وذلك بالقطع مع عقلية “هذا ما وجدنا عليه زعماءنا”، خصوصا في الممارسة السياسية. فلا يمكن تصور ممارسة ديمقراطية حقيقية في ظل فكرة “تحنيط النخب”!
وباعتبار الديمقراطية غاية منشودة ونظرا لكون الانتخابات هي الطريقة المثلى لبلوغها في ظل غياب قنوات أخرى، فإن النقاش العمومي، بما فيه النقاش الحزبي، لا محالة سيستيقظ من سباته العميق استعدادا للمحطة الانتخابية المقبلة (التشريعية، الجماعية). لكن السؤال المطروح: هل حان الوقت للرقي بالنقاش من طابعه التقليدي “الملاسنات والمشاحنات” إلى نقاش موزون وعقلاني وبأفكار مستوحاة من خلاصات واستنتاجات “الجائحة”؟
لكن المتأمل في تباشير الاستعدادات الأولية للانتخابات المقبلة ربما سيعتقد أن دار لقمان على حالها، لا سيما ونحن نعيش على إيقاع “أنصاف استقالات”، كوصلات إشهارية مجهولة المعنى ومحبوكة المبنى! وسابقة لأوانها.
ربما لا أحد أصبح يجادل في وجود “أزمة النخب السياسية”، وإنما الجدل والنقاش حول عمقها وماهيتها وأسبابها وتجدرها في تاريخ الظاهرة الحزبية مند تأسيس أول حزب سياسي سنة 1934 (كتلة العمل الوطني).
ويجدر القول إن طغيان ثقافة “الرسكلة السياسية” تحول دون تجديد النخب السياسية القادرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، وفتح باب الأمل والفرص لباقي نخب المغرب بغض النظر عن حسبها ونسبها وأصولها؛ قروية كانت أو حضرية، عكس ما هو سائد الآن حيث يتم الإبقاء على شعار أفضلية نخب المركز والمقربين. ولا محالة أن هذه الممارسات قد أوصلت المشهد السياسي في المغرب إلى تلك المرحلة التي يصفها البعض بـ “الاحتباس الديمقراطي”.
والقول بجمود حركية النخب السياسية مقابل حيوية “الرسكلة” التي تدور حول نفسها وتفرز نفس الأشخاص ونفس النتائج منذ الاستقلال إلى اليوم، وبصفة مستمرة، يدفع إلى التساؤل: هل التعددية الحزبية في المغرب كانت جزءا من تصور متكامل للانتقال إلى الديمقراطية أم جاءت لإنقاذ النظام من أزمته والتسويق للديمقراطية الصورية أمام الغرب؟
وعلى اعتبار التحولات الإقليمية والقارية والدولية التي تلقي بظلالها على المغرب، لا سيما في سياق الهرولة قصد التموقع في مرحلة ما بعد “جائحة كورونا”، فإن النخبة السياسية المنشودة والمطلوبة هي التي تكون على وعي وقدرة على التفرقة بين القضايا الوطنية والدولية التي تحتاج إلى تضامن ووحدة صف الجميع، وبين القضايا المحلية التي تقتضي مناقشة جادة بعيدا عن الهتافات والمزايدات السياسوية، وبين المصالح الحزبية والمصالح الفئوية الضيقة.
ودرءا للمبالغة في القول بأن معظم الأحزاب في المغرب هي في الواقع أحزاب شعارات فحسب، فمن الملاحظ أن أغلب هذه الأحزاب اتخذت مجموعة من المصطلحات السياسية شعارا لها، مثل (الديمقراطية والعدل والحرية والتنمية). لكن على مستوى التدبير، نجد نتائجها حصيلة “صِفْرية”، مما يجعلها تتكالب على الوجوه الفاسدة القديمة “فئة الأعيان” بهدف حصد أكبر عدد من المقاعد، بغض النظر عما إذا كانت هذه الوجوه تمثل قيم ومبادئ الممارسة الديمقراطية من جهة، أو كونها قادرة على إبداع الحلول لتدبير قضايا الشأن العام، وهو ما ساهم في ارتفاع منسوب العزوف عن المشاركة السياسية.
إذن، واقع الأمر يشير إلى أن ثقافة “الرسكلة السياسية” التي دُبر بها المشهد السياسي منذ الاستقلال إلى اليوم، لم تعد مقبولة، وأن الأحزاب السياسية في حاجة إلى مراجعات كثيرة لإعادة تعزيز الثقة فيها وقبول المواطن المغربي بها، واقتناع “الزعماء” أن التجديد النخبوي يقتضي تنحيتهم، لا سيما وأنهم ساهموا في تنشيط الحياة السياسية لعقود من الزمن، وأيضا تنازلهم عن فكرة “الزعيم-الإله”؛ ذلك أن مغرب ما بعد “كوفيد-19” يقتضي عقليات وكفاءات قادرة على إحياء مؤسسة الحزب وتفعيل أدوارها الطبيعية، من خلال طروحات ونقاشات وتدافع فكري حول مشروع مجتمعي يحقق التحول الديمقراطي الواقعي.
وصفوة القول، إن نقد النخبة السياسية مقارنة بباقي النخب الأخرى يكمن في كون الأولى تضطلع بمجموعة من الصلاحيات والأدوار؛ فهي المقررة الأولى التي تسطر التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، بينما النخب الأخرى تمارس نفوذها في حدود مجالات خاصة بها.