
الخميس 31 دجنبر 2020 – 02:01
تجسّد طريقة تعاطي الإعلام الجزائري مع العملية السلمية التي قامت بها القوات المسلحة الملكية يوم 13 نونبر الماضي لإعادة الحركة إلى معبر الكركرات في النقطة الحدودية بين المغرب وموريتانيا، بعد أن كانت قد احتلته أكثر من ثلاثة أسابيع عناصر تابعة لجبهة “بوليساريو”، (تجسّد) مثالاً حياً ونموذجاً ساطعاً، يمكن الاستئناس به للوقوف على معنى الحرب الإعلامية الغبية والمتخلفة، وما تنطوي عليه من سطحية وفجاجة وبدائية. فمن يتابع ما تنشره الصحف وتبثه وسائل الإعلام الجزائرية بشأن ما أقدم عليه المغرب، وما حققه من انتصارات دبلوماسية، سيقف على حجم التسميم والتضليل والافتراء وقلب الحقائق. والخطير هو أنها أصبحت لسان حال “بوليساريو” تنطق باسمها وتقول لها: “خليني مني ليهم”، أنا الخبيرة بشؤون المغرب وخباياه والقادرة على زعزعته والتشويش عليه.
المؤسف والمؤلم هو أن كل وسائل الإعلام في الجزائر تخندقت في الصف المعادي للمغرب، وأعلنت حالة استنفار جماعية لنسج وقائع وهمية متخيلة، برع فيها التلفزيون الرسمي من خلال مشهد يدعو إلى الشفقة، وهو ينقل أطوار معركة حامية الوطيس من المحبس. كما أن وسائل الإعلام الجزائرية أخرجت من قاموسها كل النعوت التي تنمّ عن تجذّر مشاعر العداء والكراهية تجاه المغرب، حيث لم تتردد صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي في نعت المغرب بكل الأوصاف السلبية والنعوت القدحية، وتمريغ سمعته وتقزيم دوره، والاستخفاف بقوته، والتهكم على مؤسساته؛ فهو، بالنسبة إليها، قوة احتلال وعدو كلاسيكي توسعي، والجدار الأمني الذي شيده في الصحراء رديفٌ للذل والعار. والمغرب، حسب هذا “الإعلام”، دمية في يد قوى دولية، ويعيش نظامه السياسي الذي ينعته بالمخزن حالة من الضعف والارتباك.
زرتُ الجزائر، في بداية العشرية السوداء أوائل تسعينيات القرن الماضي، في إطار ندوة حول الصحافة المغاربية، شارك فيها إعلاميون كبار. وكانت الأوضاع تدل على حالة من الخوف والهلع والشعور بغياب الأمن. كانت كل المؤشرات والعلامات والمشاهد تنطوي على الغموض والالتباس، وغياب أي أمل في النجاة من الأسوأ. الوجوم والتجهم والحزن واللامعنى والفراغ هي علامات كانت تخيم على الجارة الشرقية للمملكة.
ذات صبيحة في شارع ديدوش مراد بالجزائر العاصمة، قصدت محلا لبيع الملابس والأحذية .كان هدفي هو أن أصرف مبلغا ماليا من الدينار الجزائري. لاحظت أن المحل كان شبه فارغ من المواد المعروضة للبيع، لأسباب مرتبطة بالوضع السياسي والأمني في البلد. رمقت حذاء معروضا في الواجهة الزجاجية، فسألت صاحب المحل عن ثمنه؛ لكن هذا المواطن الجزائري، الذي كانت ملامحه تنطق بألم عميق، عرف من خلال حديثي معه أنني لست جزائريا. ولما اكتشف أنني مغربي، قال بكثير من الحسرة: من الأحسن أن تحتفظ بمالك إلى أن تعود إلى بلدك. هناك يمكن أن تشتري حذاء جيدا. هذا الموقف صدمني وأوجعني، وشعرت بحالة تعاطف وتضامن صادقة مع صاحب المحل وكل الشعب الجزائري.
وعندما زرنا مركب الصحافة، وكنت بمعية مجموعة من الصحافيين المغاربة؛ أتذكر منهم الأستاذة لطيفة اخرباش، الرئيسة الحالية لـ”الهاكا”، والصديق حسن عبد الخالق، معالي سفير المغرب في الجزائر حاليا. والزميل والصديق يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة في المغرب حاليا، والصديق الإعلامي نعيم كمال، المسؤول عن موقع quid، والمرحومة زبيدة كديرة، والزميل بلعيد بوميد، مع الاعتذار لمن نسيت ذكر اسمه…
أقول عندما زرنا دار الصحافة، التي كانت عبارة عن مركب وفرته الدولة لتستقر فيه معظم الصحف آنذاك لأسباب أمنية، كانت لنا جلسات ولقاءات، مع عدد من مديري الصحف اليومية والأسبوعية. أستحضر هنا السيد خالد بلهوشات، مدير يومية الوطن الصادرة باللغة الفرنسية، وكانت في بدايتها، ومدير le soir d’Algérie ومديري منابر أخرى. وخلال هذه الزيارة الرمزية، عبرنا عن تضامننا معهم، ومساندتنا لهم للخروج من دوامة العنف التي أزهقت عشرات الآلاف من أرواح الأبرياء. كان شعورنا عفويا وصادقا، وكان تضامننا مبدئيا.
ما نشاهده اليوم من تشنج وانفعال، وتبعية مطلقة للمؤسسة العسكرية، وانخراط جماعي وبحماس منقطع النظير في ممارسة متدنية وهوجاء للفتك بأخلاقيات مهنة الصحافة، واغتيال ممنهج للتاريخ والجغرافيا والعلاقات الإنسانية والأخوية والقيم النبيلة، يجعلنا نشفق على الصحافيات والصحافيين في الجارة الشرقية الجزائر، ملتمسين منهن ومنهم فقط أن يكونوا أنفسهم وألا يتحولوا إلى جزارين مدججين بالسكاكين لذبح الحقيقة ونحرها من الوريد إلى الوريد، قصد جبر خواطر وإشباع رغبات مؤسسة عسكرية رعناء ومغرورة ونظام سياسي رهينة لها ولا شغل لهما سوى تصدير أزماتهما، والتخصص في اختلاق عدو تاريخي هو المغرب؛ عدو يهدد أمن الجزائر واستقرارها حسب ما تدعمه أدرع النظام، ويسوق على أنه أصل كل البلايا والمصائب التي حلت بها، فيما الحقيقة هي أن تحويل المغرب إلى عقدة بنيوية مزمنة واستعمال “البوليساريو” كأداة لتدميره وإضعافه والنيل من وحدته الترابية دفع الجنرالات ومن يدون في فلكهم إلى ضخ وهدر مئات مليارات الدولارات لدعم الانفصاليين، وفي الوقت الاغتناء نفسه من تجارة السلاح ومن تسويق أسطورة العدو الكلاسيكي على الحدود الغربية للجزائر. وهذا النهج المدمر كان سببا مباشرا في تفقير الأغلبية الساحقة من مكونات المجتمع الجزائري، وحرمانها من شروط العيش الكريم والتنمية الشاملة والمؤسسات القوية وجودة الخدمات الأساسية.