في نونبر من سنة 2019، أحدث الملك محمد السادس لجنة خاصة، عين على رأسها شكيب بنموسى وتضم 35 عضوا من مسارات أكاديمية مختلفة، وكلفها بالعمل على مشروع النموذج التنموي الجديد في إطار منظور إستراتيجي شامل ومندمج.
وعهد إلى اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي اقتراح التعديلات الكبرى المأمولة والمبادرات الملموسة الكفيلة بتحيين وتجديد النموذج التنموي الوطني وفق مقاربة تشاركية ومندمجة، وكان مقررا أن ترفع تقريرها إلى الملك صيف سنة 2020؛ لكن جائحة “كورونا” مددت عملها إلى بداية السنة الجارية.
والمقصود بالنموذج التنموي هو الإطار الذي يحدد الانتظارات وأشكال التنظيم ووسائل التنفيذ للخيارات الإستراتيجية، ورسم الأولويات التي ينبغي أن تنصب عليها السياسات العمومية لقيادة البلاد نحو تحقيق التقدم.
وتميزت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بضمها لأعضاء يتوفرون على مسارات أكاديمية ومهنية متعددة، وعلى دراية واسعة بالمجتمع المغربي وبالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كما ضمت كفاءات مغربية تعمل داخل الوطن وبالخارج، مشهود لها بالعطاء والالتزام، تنخرط في القطاعين العام والخاص أو في المجتمع المدني.
واعتمدت اللجنة منهجية تقوم على الإنصات والمشاورة الوطنية الموسعة عبر مختلف ربوع المملكة، في البوادي النائية كما في قلب الحواضر، قدمت فيها شهادات واقتراحات وتشخيصات وانتظارات فئة عريضة من المواطنين والمواطنات.
المشاركات والتشخيص
اعتمدت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي في أشغالها على اللقاءات التشاورية الحضورية، كما اشتغلت أيضا من خلال منصتها الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي. وقد تفاعل أكثر من 9700 شخص بصفة مباشرة مع اللجنة، و1600 من خلال جلسات الإنصات والاستماع.
وتوصلت اللجنة بـ6600 مساهمة مكتوبة؛ منها 270 مقدمة مباشرة، و2530 بواسطة المنصة الرقمية، وحوالي 3800 مندرجة في إطار دعوات المساهمة الموجهة إلى التلاميذ والطلبة ونزلاء المؤسسات السجنية.
وقد قامت اللجنة بتحليل دقيق للنموذج التنموي الحالي خلص إلى أن العديد من الإصلاحات المعلن عنها من أعلى مستوى في الدولة، مثل التحول الاقتصادي والتربية والتكوين والصحة والحماية الاجتماعية، تعاني من بطء في التنزيل؛ وهو ما يثير تساؤلات المواطنين، ويساهم في إضعاف منسوب الثقة.
أربعة عوائق رصدتها اللجنة في النموذج التنموي الحالي، تتمثل في غياب الانسجام بين الرؤية التنموي والسياسات العمومية المعلن، وبطء التحول الهيكلي للاقتصاد جراء التكلفة المرتفعة لعوامل الإنتاج التي تعيق تنافسية المقاولات. ويشير العائق الثالث إلى محدودية قدرات القطاع العام في صياغة وبلورة خدمات عمومية سهلة الولوج وذات جودة، إضافة إلى عائق رابع يتجلى في الشعور بضعف الحماية القضائية وعدم القدرة على التوقع وبالتالي الحد من المبادرات بين الهوة بين بعض القوانين والواقع الاجتماعي.
طموح في أفق 2035
يشير التقرير العام للنموذج التنموي الجديد إلى أن المملكة تزخر بإمكانيات تنموية مهمة، من الموقع الجيواستراتيجي وتاريخه العريق ورأسماله اللامادي وطاقات نسائه ورجاله، وهو ما يؤهله إلى الارتقاء إلى مصاف الدول الرائدة.
انطلاقا من هذه المؤهلات، يسعى النموذج التنموي الجديد إلى الانتقال إلى مغرب مزدهر، مغرب الكفاءات، مغرب الإدماج والتضامن، مغرب الاستدامة والجرأة؛ وهو ما يستوجب تعبئة كل إمكانيات البلاد عبر وضع العنصر البشري في صلب أولويات السياسات العمومية.
وتقترح اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أن تتم ترجمة هذا الطموح إلى أهداف تنموية محددة وفي المتناول قصد الارتقاء بالمملكة، لتتبوأ مكانتها ضمن الثلث الأول من ترتيب الدول في مجالات عديدة في أفق 2035، من خلال مضاعفة الناتج الداخلي الخام حسب الفرد، وضمان امتلاك 90 في المائة من التلاميذ للتعلمات الأساسية.
كما تتضمن الأهداف أيضا الرفع من معدل التأطير الطبي للملاءمة مع معايير منظمة الصحة العالمية، وتقليص نسبة الشغل في القطاع غير المهيكل إلى 20 في المائة، ورفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى 45 في المائة مقابل 22 في المائة حاليا، والوصول إلى نسبة رضا المواطنين على الإدارة والخدمات العمومية تزيد عن 80 في المائة.
أربعة محاور رئيسية
من أجل تحقيق الطموحات والأهداف التي ينشدها النموذج التنموي الجديد فيجب أن يرتكز على أربعة محاور إستراتيجية رئيسية للتحول؛ أولها تطوير الاقتصاد ليصبح اقتصادا متميزا بتعدد الأنشطة والتنافسية قائم على نسيج مكثف من المقاولات قادرة على الابتكار والمرونة.
ويرتكز المحور الإستراتيجي الثاني على تعزيز الرأسمال البشري بهدف منح كل المواطنين القدرات التي تمكنهم بكل استقلالية من الأخذ بزمام الأمور وتحقيق طموحاتهم والمساهمة في تنمية البلاد، وهذا يتطلب إصلاحات أساسية وضرورية وعاجلة لكل من أنظمة الصحة والتربية والتعليم والتكوين المهني.
ويهدف المحور الإستراتيجي الثالث من خلال الإدماج إلى مساهمة كل المواطنات والمواطنين في الدينامية الوطنية للتنمية؛ وهو ما يستوجب إدماج كافة المواطنين وكل المجالات الترابية في المجهود التنموي الجماعي من خلال المشاركة والولوج المتكافئ إلى الفرص الاقتصادية من خلال الحماية الاجتماعية والانفتاح على الغير وتقبل التنوع ومحاربة الإقصاء الاجتماعي.
ويتعلق المحور الإستراتيجي الرابع بالمجالات الترابية من خلال الانتقال بها من مجرد وعاء نهائي لتفعيل السياسات العمومية المقررة على المستوى المركزي إلى فاعل رئيسي في إعداد السياسات العمومية وإرسائها وإنجازها.
الأوراش التحولية وآليات التنفيذ
تتطلب التحولات الهيكلية التي يوصي بها النموذج التنموي الجديد إمكانيات تقنية وبشرية ومالية مهمة، لا سيما في مرحلة إطلاقها. وتعتبر اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أنه من الضروري التركيز على خمس رافعات أساسية؛ أولاها الرقميات للتحول السريع، وجهاز إداري مؤهل وفعال، وتأمين الموارد الضرورية لتمويل مشاريع التحول، وإشراك مغاربة العالم للاستفادة من معارفهم، وتعبئة علاقات التعاون مع الشركاء الأجانب بمقارنة رابح-رابح.
ومن أجل ترسيخ النموذج التنموي الجديد كمرجعية مشتركة للفاعلين وحث جميع القوى الحية على إنجازه، اقترحت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي ترجمته في صيغة “ميثاق وطني من أجل التنمية ليكون لحظة توافقية ومرجعية مشتركة تقود وتوجه عمل الجميع.
ويمكن للميثاق، وفق تصور اللجنة، أن يمثل آلية كفيلة بتجديد علاقات الدولة مع الفاعلين في مجال التنمية، من أحزاب سياسية ومؤسسات دستورية وقطاع خاص وشركاء اجتماعيين ومجالات ترابية. وتتخلص عباراته الأساسي في: تحمل المسؤولية والتمكين والتفريع والشراكة والاستدامة والإدماج.
واقترحت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أن يكون اعتماد هذا الميثاق بشكل علني من طرف الفاعلين المعنيين، ليشكل التزاما معنويا وسياسيا قويا أمام الملك والأمة برمتها، ليمهد الطريق لمرحلة تاريخية جديدة في مسار تنمية البلاد.
وينتظر من الميثاق أن يحدد الطموح المشترك، وأن يعلن عن الأولويات والأهداف الوطنية ومبادئ العمل وإطار ترسيخ الثقة والمسؤولية والتزامات الأطراف المعنية للعمل في اتجاه الهدف المنشود وتطبيق المبادئ المعتمدة.
وامتدادا للميثاق، توصي اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بإحداث آلية تحت سلطة الملك مباشرة لتتبع النموذج التنموي الجديد وحفز الأوراش الإستراتيجية ودعم إدارة التغيير، من خلال السهر على الانسجام العام والملاءمة الإستراتيجية وحفز ودعم الإصلاحات المولدة للتحولات.