بغض النظر عن ما يحمله التقرير من تفاصيل ومعطيات عن الواقع المغربي بمختلف أبعاده، وما تضمنه أيضا من توجهات إستراتيجية وجدولة زمنية للتطبيق، فإن السؤال الجوهري الذي يطرح هو: ما هو الإطار النظري أو الفلسفي التي يؤطر هذا النموذج المقترح؟ هل يحدث قطيعة إبستمولوجية مع النماذج السابقة، أم أنه استمرار لها؟ وإن كان استمرار للنماذج السابق أين يقع التحول أو المنعطف حتى يمكن تسميته بالجديد؟ إي أنه جديد في علاقة بماذا؟ بمعنى آخر هناك نموذج قديم، وأصابه العجز ونفذت قدراته على التطور، ليكون من المفروض أن يحل محله الجديد، ويكون مطالب بذلك أن يتجدد من أجل إرساء بنيات جديدة تحدث هزات أو رجات لتتأسس على أنقاض البنيات القديمة في سلاسة وأمن.

صحيح أن هذا المقال لن يتسع لمناقشة كل الأبعاد التي طرحها التقرير، لكن كمتتبعة ومهتمة للشأن المغربي وما دام النقاش مفتوح للجميع؛ فمن حقي وحق العديدين أن يعتبرون أن هذا التقرير هو ورش للنقاش بهدف الإغناء والتطوير، أي لا يشكل سوى الحد الأدنى لما يمكن أن يطمح إليه المغرب. فيمكن أن نعتبره تعاقد، وبالتالي فهو الحد الأدنى لما يمكن الاتفاق عليه، ويبقى الطموح هو تحقيق مغرب قوي ورائد على المستوى الإقليمي والإفريقي والدولي؛ مغرب تسوده العدالة الاجتماعية ويحقق النماء الاقتصادي والتطور التكنولوجي..

إن التوجهات الإستراتيجية المتظمنة في تقرير النموذج التنموي الجديد لا تخرج عن الفلسفة العامة المؤطرة للنموذج أو النماذج السابق. إنها لم تحدث القطيعة بل هي استمرارية لنفس السياسات والبرامج التي انخرط فيها المغرب؛ أي أن الاختيارات السياسية الكبرى التي دشنها المغرب خاصة منذ مطلع الثمانينيات ما زالت تؤطر النموذج الحالي.

صحيح أن هذا النموذج يتحث عن “التوجه الجديد المنبني على توازن بين دولة قوية ومجتمع قوي”، لكن عندما تدقق في المقترحات تجد أن هناك تركيزا قويا على القطاع الخاص، وحتى مصادر التمويل وكيفية تمويل انطلاقة النموذج التنموي الجديد فإن القطاع الخاص هو المحرك للتنمية، معتبرا بذلك أنه يلعب دور مهم لتحقيق أهداف 2035 المسطرة في التقرير. يرسم التقرير بذلك طريق التنحي الدولة عن أدوارها في الاقتصاد. فبعد أن تعطي الانطلاقة في المراحل الأولى لتنفيذ النموذج، فإن المكان سيتسع رويدا رويدا للقطاع الخاص، وإمكانية تعويض بعض أدوار الدولة من طرف القطاع الثالث.

الفلسفة المتحكمة هي امتداد للسابق، وليس قطيعة معه. ربما الجديد هو بما أتى مرافق للعنوان أي: “تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع”. يمكن اعتبار هذا هو الغاية التي يجب على المغرب أن ينشدها لتحقيق النمو والتقدم. فهل تحقيق “الرفاه للجميع” يعني بالضرورة تحقيق “الرفاه لكل فرد داخل المجتمع”؟ لا أظن ذلك، لأن التجارب السابقة علمتنا أن التوازن الأمثل أو الأفضل الكلي أو الجمعي ليس بالضرورة هو توازن جزئي أو فردي. لذا، هناك احتمال كبير أن تكون نتيجة هذا النموذج ظهور سلبيات اجتماعية واقتصادية تضيع علينا الفرصة مرة أخرى لما يطمح إليه المغرب (أما استعادة الثقة وتحرير الطاقات فهما موضوعان مهمان لا يتسع المقال لتحليلهما).

من جهة أخرى، تجد أن من بين شروط التنزيل والتطبيق ـ كما هي مسطرة في النموذج التنموي الجديدـ على الجهاز الإداري أن يكون “بعيدا عن منطق الإنتماء الحزبي وأن يتم توضيح اختصاصاته بشكل دقيق بحيث يتم الفصل، من جهة بين المستوى الإستراتيجي ومستوى وضع السياسات العمومية الذي يدخل في نطاق المجال السياسي، ومن جهة أخرى بين مستوى التقنين الذي هو من اختصاص الإدارة والمستوى العملي المكلف بالتنفيذ والتتبع الذي يعهد به إلى المتدخلين العموميين أو الخواص على المستوى الترابي” (تقرير النموذج التنموي الجديد، 2021، ص. 137). هناك أسئلة عديدة تطرح: أي دور سيعطى للمؤسسات الحكومية، خاصة مع مقترح إحداث “ميثاق وطني من أجل التنمية” يلزم الجميع، والذي يلخص ست عبارات أساسية: تحمل المسؤولية، التمكين، التفريع، الشراكة، الاستدامة والإدماج؟

بمعنى آخر، هل سيتحول عمل اللجنة من عمل استشاري وتقييمي واقتراحي إلى عمل ملزم للجميع؟ وبالتالي على الأحزاب السياسية ـ مثلا ـ الالتزام بما تم اقتراحه وتسطيره في التقرير؟ مما يقودنا إلى الاستنتاج أن برامج الحكومات المستقبلية (ثلاث ولايات) يجب أن تلتزم بكل ما جاء في الميثاق. ألا يمثل هذا ضربا للديمقراطية ولإرادة الأحزاب التي ستشكل الحكومات المستقبلية؟ وهل يمكن بعد ذلك محاسبتها (الحكومات)؟ أم علينا محاسبة اللجنة التي صاغت الإستراتيجيات التنموية؟ (الأسئلة نفسها تطرح على المستوى الجهوي).

أكيد أن التجارب الدولية تبين “أن الرؤى المرتبطة بالتنمية، على مستوى بلد ما، تتوفر على مزيد من حظوظ النجاح عندما تصاحبها مقاربة أكيدة ومدعومة بتعبئة وانخراط الفاعلين، وكذا بآلية للتتبع والقيادة الاستراتيجية، التي تدفع بقوة نحو بلوغ الهدف المنشود، ولتجاوز المعيقات المحتملة” (تقرير النموذج التنموي الجديد، 2021، ص. 145)؛ بيد أنه لتحقيق ذلك أظن أنه كان من المفروض إعطاء تصور عن الأحزاب السياسية، خاصة أنها جزء من فقدان الثقة الذي استهدفه التقرير وسطر عليه كأحد أهم المعيقات. ما هي نماذج الأحزاب السياسية التي ستحقق أهداف النموذج التنموي الجديد؟ هل تعددية حزبية كاختيار للمغرب منذ الاستقلال، أم العكس؟ على سبيل المثال، النموذج الصيني يمكنه فرض أهدافه التنموية؛ لأن بنيته السياسية تتحمل هذا النوع من التمرين، كما أن الفردانية مغيبة رغم وجود قطاع خاص. فالدولة الصينية لها امتدادات واسعة وعميقة في الاقتصاد بالإضافة إلى المناحي الأخرى. لكن الصين مختلف تماما عن المغرب!!

يشير التقرير إلى إحداث هيئات أخرى. هل الحل يكمن في أن تطبيق النموذج سيوكل لهذه الهيئات؟ وإن كان كذلك، ألم يكن من الأجدر إعطاء مقترح عن هيكلة للحكومة؟ أظن أنه كان من المفروض بدل إلقاء كل أعباء التنمية على المؤسسة الملكية، أن يتم تحديد أدوار ومهام وتنظيم المؤسسات الحكومية؟

في سنة 1988، كتب لوكاس (Robert E. Lucas) ما يلي: “هل هناك بعض الإجراءات التي يمكن أن تتخذها حكومة الهند من شأنها أن تقود الاقتصاد الهندي إلى النمو مثل الاقتصاد الإندونيسي أو المصري؟ إذا كان الأمر كذلك ، فماذا بالضبط؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا عن “طبيعة الهند” التي تجعلها كذلك؟ إن العواقب على رفاهية الإنسان التي تنطوي عليها أسئلة مثل هذه هي ببساطة مذهلة: بمجرد أن يبدأ المرء في التفكير فيها، من الصعب التفكير في أي شيء آخر”. هذا ما كتبه لوكاس عن وضعية الهند، بيد أنه لم يدرك أن عند كتابته لكلماته كانت الهند قد بدأت بالفعل في النمو بشكل أسرع من إندونيسيا ومصر. كانت “معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد من 1960 إلى 1980 3.2٪ سنويًا في مصر و3.9٪ في إندونيسيا و1.5٪ في الهند. في المقابل، من 1980 إلى 2000 ، كانت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد 1.8٪ سَنَوِيًّا في مصر، و3.5٪ في إندونيسيا، و3.6٪ في الهند” (بارو ومارتن، 2004، ص. XV). وهكذا، يبدو أن الحكومة الهندية قد واجهت تحدي لوكاس ، في حين كانت مصر تتعثر!! أين تعثرت مصر رغم أنها كانت متقدمة عن الهند؟ فمعدل النمو هو مؤشر من بين أخرى…

أخيرا، لا يمكن أن ننكر أن المغرب انطلق في مشاريع وإصلاحات بنيوية عميقة عديدة جعلته يسجل تقدما في مجالات عديدة؛ لكن هناك خلل جوهري يجعله لا يستفيد من كل المجهودات المبدولة، وأظن أهمها البنية السياسية. وللنقاش بقية..

*أستاذة جامعية خبيرة في الاقتصاد

hespress.com