الهيمنة من منظور علم الاجتماع

ياسر الطريبقالسبت 8 ماي 2021 – 02:24

من حسنات علم الاجتماع منذ نشأته الأولى على يد ابن خلدون ثم حداثته التنويرية في بداية القرن 19 (أي في عهد العالم الفرنسي أوغست كونت ومن تلاه)، أنه يفتح لدارسيه آفاقا شاسعة وعميقة لفهم بنيات وخصائص العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات وملامسة التفاعلات المختلفة في ما بينها بما في ذلك الكامن منها والظاهر للعيان، وقد أسسّ لأجل ذلك العلماء المختصون في هذا المجال قاموسا خاصا بهم يعجّ بالمعاني والمفاهيم الأساسية، نذكر من ضمنها مثلا مفهوم “الهيمنة” أو “السيطرة”، فما هو معنى الهيمنة من منظور علم الاجتماع؟ وما هي أبعاده وتجلياته في المجتمعات أفرادا وجماعات ومؤسسات؟ هذا ما سأحاول توضيحه في هذا المقال المقتضب بناء على قراءة عابرة لبعض المنقولات من كتاب “الاقتصاد والمجتمع” للعالم الألماني “ماكس ويبر” (1864-1920م) وكذلك كتاب “الهيمنة الذكورية” للعالم الفرنسي “بيير بورديو” (1930-2002م)، وهي المنقولات التي وجدتها مجموعة في كتاب “المصطلحات المائة لعلم الاجتماع” (Les 100 mots de sociologie) الذي ألّفته ثلة من الباحثين السوسيولوجيين الفرنسيين تحت إشراف الكاتب “سيرج بوغام” ضمن سلسلة “ماذا أعرف؟” “?Que sais je” .

ويعرّف ماكس ويبر الهيمنة بأنها تتجاوز مجرّد القدرة على انتصار الإرادة، إذ أنها تفترض وجود مجموعة من الأفراد المستعدين للخضوع أو الطاعة لأمر معين. فهي لا تستند فقط على ميزان القوة وإنما تستند أساسا على موافقة المهيمن عليهم وخضوعهم التلقائي لأوامر المهيمن، وهو يؤكد في هذا السياق أن جميع المهيمنين يعمدون على إيقاظ الإيمان بشرعيتهم وترسيخه في أذهان الخاضعين لهيمنتهم، وهو يميّز بين ثلاثة أنواع من الهيمنة تبعا لأنواع الشرعية التي يتم الاعتماد عليها لتحقيقها، وهي: أولا: الهيمنة التقليدية أي تلك الهيمنة التي تمارس عن طريق الإيمان بالتقاليد والأعراف، ثانيا: الهيمنة الكاريزماتية التي تستند على التسليم بفضيلة الشخصية الاستثنائية المقدّسة تقريبا والبطولية أو المثالية التي تمارس السلطة، ثالثا: الهيمنة العقلانية أو المقنّنة أي تلك التي يتم تستمد شرعيتها من القوانين والنظم المعتمدة.

أما بيير بورديو، فقد أضاف في تحليله للآليات التي تجعل المهيمن عليهم خاضعين للهيمنة أسبابا وعوامل أخرى أصبحت اليوم تعوّض ما يمكن أن نسميه بالقوات الهادئة والمخفية للعنف الرمزي، ألا وهي الإكراه والعنف الجسدي. ونتيجة لكل تلك العوامل، أصبح الناس يخضعون للهيمنة دون علمهم فأصبحت تمارس عليهم بكل بساطة ومن ثمة تستمر أو تدوم تلك الحالة باعتراف منهم.

من خلال هذين التعريفين لكل من ويبر وبورديو يتبيّن جليا بأن بنيات الهيمنة هي في نفس الوقت اجتماعية ونفسية، حيث المهيمن والمهيمن عليه يجسدون نفس بنيات الإدراك ونفس قيم التقسيم الاجتماعي (الرجل/المرأة، الأرستقراطي/السوقي، المثقف/الأمي، الغني/الفقير…)، فالأمر كما جاء مفسّرا في الكتاب سالف الذكر ليس وليد اليوم بقدر ما هو راسخ في تاريخ البشرية في سياق الصراع من أجل السلطة، وفي ذلك الصراع، يمكن أن تبرز في الفضاء الاجتماعي تحالفات مع الخاضعين للهيمنة الذين يعتبرون في نفس الآن أداة لامنتهية لإنتاج السلطة، بيد أن الفرق بين السلطة والهيمنة هو أن الأولى ظاهرة للعيان بينما الثانية تبقى مخفية أو كامنة، وهنا يتجلى دور عالم الاجتماع في كشفها وإمكانية تحرير العلاقات الاجتماعية من بنياتها المستبدة.

التقسيم الاجتماعي الهيمنة علم الاجتماع

hespress.com