منذ أن أعلن “ميثاق أكادير” للجمعيات الأمازيغية، في 05/08/1991، عن مقولة “الوحدة في التنوّع”، أصبحت هذه الأخيرة من المبادئ المركزية للحركة الأمازيغية، وشعارا خاصا بها تتبنّاه كل تياراتها وفصائلها وجمعياتها. وككل المبادئ والشعارات التي يقع حولها الإجماع، تحولت هذه الفكرة ـ “الوحدة في التنوع” ـ إلى حقيقة يسلّم بها الجميع كبديهية لا تقبل النقاش ولا التساؤل. لكن مع قليل من التحليل لدلالات ومضمون هذا المبدأ/الشعار، سنكتشف أنه مناقض، في كثير من الجوانب، لأهداف ومطالب الحركة الأمازيغية نفسها، والتي رفعت هذا المبدأ لتستعمله في الدفاع عن مطالبها.
خلفيات المبدأ ومآله:
ـ هذا المبدأ/الشعار لا يعبّر عن مبادرة تلقائية وإيجابية، ناتجة عن موقف يترجم قناعات واختيارات الحركة الأمازيغية. أي أنه ليس فعلا، بل مجرد رد فعل ضد الآخر، “غير الأمازيغي”، والمعارض للمطالب الأمازيغية، والذي يتّهم هذه المطالب بتهديد الوحدة الوطنية. ولهذا فإن هذا المبدأ، كردّ فعل على الفعل الذي يرفض الأمازيغية ويُقصيها بسبب ما تشكّله من خطر على الوحدة حسب أصحاب هذا الفعل، هو موقف دفاعي موجّه إلى الرافضين والمعارضين للأمازيغية لطمأنتهم بتبيان أن هذه الأخيرة، حتى وإن كانت تدخل في إطار التنوّع المناقض للوحدة، إلا أن ذلك لا يمثّل خطرا على هذه الوحدة لأن الاعتراف بهذا التنوّع، أي الاعتراف بالأمازيغية، سيُمارس داخل هذه الوحدة ووفق شروطها وفي نطاق حدودها وثوابتها.
ـ هذا المبدأ يفترض كأمر مسلّم به، لإثبات مشروعية التنوّع، أن هذا الأخير هو المعطى الأول، الطبيعي والأصلي. أما الوحدة فهي شيء يتمّ بناؤه في مرحلة لاحقة، لتأطير وضبط هذا التنوّع وممارسته داخل حدود وشروط تلك الوحدة. وهذا شيء غير صحيح كما سنبيّن ذلك لاحقا.
ـ هذا المبدأ يزكّي ضمنيا الموقف المعارض للأمازيغية، الذي يرى أن الاعتراف بالتنوّع، الذي تمثّله الأمازيغية، يهدّد الوحدة التي تمثّلها العروبة والإسلام. لهذا فهذا المبدأ يدافع عن التنوّع أولا، كمدخل وشرط للدفاع عن الأمازيغية ثانيا.
ـ هذا المبدأ يكرّس الفكرة العامّية، الشائعة عند المتحوّلين المغاربة، أي العرب المزوّرين، بأن الأمازيغ يشكلون أقلية تطالب بالاعتراف بها كجزء (أقلية) من المكونات المتعدّدة والمتنوّعة للهوية المغربية.
رغم كل هذه المآخذ، يجب الاعتراف أن الإعلان عن هذا المبدأ/ الشعار (الوحدة في التنوع) في غشت 1991، كان يمثّل جرأة وتحدّيا كبيرين نظرا للسياق المعادي للأمازيغية في ذلك التاريخ، وهيمنة النزعة العروبية الواحدية التي كانت تنكر كل تنوّع وتعدّد في الهوية والثقافة واللغة بالمغرب.
لكن مع مرور الأيام، ومع توسّع الحركة الأمازيغية كميا ونوعيا، أصبح هذا المبدأ يفرض نفسه، ليس على الحركة الأمازيغية التي كانت وراء ظهوره، بل حتى على خصوم الأمازيغية الذين كانوا يرفضون كل تنوّع لغوي وهوياتي بالمغرب خارج الواحد العربي الإسلامي. وهكذا أصبح اليوم مبدأ “الوحدة في التنوّع”، الذي خلقته الحركة الأمازيغية لتدافع به عن مشروعية مطالبها أمام من يتهمونها بالتفرقة والتجزئة والتقسيم، مبدأً تتبناه حتى الجهات التي كانت بالأمس القريب تعادي الأمازيغية وترى فيها تهديدا للوحدة وإحياءً لأكذوبة “الظهير البربري”، بل أصبحت تُشهره، كمبدأ يدل على الاعتدال والوسطية، ضد من تسميهم بـ”المتطرفين الأمازيغيين”، وتدعو هؤلاء إلى التزام هذا المبدأ للحفاظ على الوحدة في إطار التنوّع. ويمكن القول، في ما يخصّ الكثير من الخطابات الرسمية حول الاعتراف بالأمازيغية، بأنها تكرّر، بشكل أو آخر، هذا المبدأ حتى أصبحت “الهوية المتعدّدة” للمغرب، وهي الصيغة الأخرى المشتقّة من هذا المبدأ، مسلّمة لا تُناقش، مما جعلها تتحوّل إلى “حقيقة” دستورية بعد أن نصّت عليها الفقرة الثانية من تصدير دستور 2011، والتي تصف الهوية الوطنية بـ«الموحّدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية».
إذا كانت جهات عروبية ورسمية تتبنّى هذا المبدأ ـ الوحدة في التنوّع ـ وتستعمله حتى ضد جزء من الحركة الأمازيغية، فذلك لأنه لا يطالب بأكثر من الاعتراف بالأمازيغية كجزء ـ كجزء فقط ـ من المكوّنات المتنوّعة للهوية الجماعية للشعب المغربي، مع الاحترام الكامل للوحدة ـ التي تمثّلها ضمنيا العروبة والإسلام ـ كشرط واقف للاعتراف بهذا المكوّن (الجزء) الأمازيغي.
من السابق والأصل، الوحدة أم التنوّع؟
وهذا ما يستدعي تصحيح هذا المبدأ وإعادة النظر فيه، ليس لأن مضمونه يجعل من الأمازيغية مجرد جزء من الكل، بل لأنه يقوم على فكرة خاطئة أصلا، ومخالفة لحقيقة وضعِ الأمازيغية وواقعِ التنوّع بالمغرب.
لقد قلنا إن هذا المبدأ يفترض كمسلّمة أن التنوّع هو المعطى الأصلي، الأول والطبيعي. أما الوحدة فهي شيء يُبنى لاحقا لضبط هذا التنوع وتنظيمه. ونحن نتفهّم جيدا دواعي اعتبار التنوّع معطى طبيعيا سابقا، لأن طرحه كمعطى طبيعي وغير ثقافي ـ أي مستقلّ عن التدخّل الإرادي للإنسان ـ يعطي المشروعية لمطلب الاعتراف بالأمازيغية انطلاقا من الاعتراف بالتنوّع الذي لا يمكن إنكاره لأنه معطى طبيعي، أولي وأصلي.
ورغم أن أسبقية التنوّع عن الوحدة تبدو بديهية لا تثير نقاشا ولا تحتاج إثباتا، كما هو شأن كل البديهيات الكاذبة والخادعة، إلا أن الأمر ليس كذلك، بل العكس هو الصحيح، أي أن الوحدة هي المعطى الأول، الطبيعي والأصلي. أما التنوّع فقد ظهر في مرحلة لاحقة لهذه الوحدة الأولى. كيف ذلك؟
إن التاريخ يُثبت أن شمال إفريقيا (بلاد تامازغا) الذي ينتمي إليه المغرب، كان، منذ أقدم العصور، موطنا واحدا لشعب واحد، هو الشعب الأمازيغي، المنتمي إلى هوية جماعية واحدة هي الهوية الأمازيغية المستمدّة من نفس الموطن الذي هو شمال إفريقيا، والمستعمِل للغة واحدة هي اللغة الأمازيغية ثم صِنوتها الدارجة كلغتيْن نشأتا بنفس الموطن، تمييزا لهما عن اللغات الأجنبية التي انتشرت بشمال إفريقيا… ولا يُجدي الاعتراضُ أن الوعي بوجود شعب أمازيغي كان غائبا عند سكان هذه المنطقة، الذين كانوا يشكّلون قبائل متنوّعة وبوعي هوياتي قبلي أكثر مما كانوا يشكّلون شعبا واحدا وبهوية واحدة؛ وأن اللغة الأمازيغية كانت عبارة عن لهجات متنوّعة أكثر منها لغة موحّدة… لا يُجدي ذلك الاعتراضُ لأن ما يهمّ هو الأصل الذي كان ولا يزال واحدا وموحّدا: فجميع سكان شمال إفريقيا كانوا ولا زالوا ينتمون إلى نفس الموطن، الذي هو شمال إفريقيا، حتى لو كانوا قبائل متنوّعة أو أقطارا متعدّدة كما هي حالهم اليوم؛ وجميع اللهجات الأمازيغية تجمعها وحدةُ القواعد النحوية والتركيبية، والتي هي بمثابة الحمض النووي adn الذي يعطي لِلُغةٍ ما وحدتَها ويحدّد هويتَها وخصوصيتَها… كانت هناك إذن ـ ولا تزال ـ وحدة أصلية أولية سابقة، تتمثل في الموطن وشعب هذا الموطن ولغة هذا الشعب، مع ما ينتج عن ذلك من هوية جماعية لهذا الشعب، مصدرها هذا الموطن وهذه اللغة. فلم يكن هناك إذن أي تنوّع، لا على مستوى الأرض والموطن، ولا على مستوى الشعب الذي يسكن هذه الأرض، والذي ظل دائما هو شعب “البربر”، كما يسمّى في الكتابات العربية بعد اعتناقه للإسلام وتعلّمه اللغة العربية، ولا على مستوى لغته الأمازيغية التي نشأت بهذا الموطن… فكل شيء كان إذن أمازيغيا، أرضا وشعبا ولغة وهوية جماعية. كانت هناك إذن وحدة أصلية أولى سابقة، هي الوحدة الأمازيغية.
أما التنوّع فلم يظهر إلا في فترة لاحقة لقيام الوحدة الأمازيغية، الطبيعية والأصلية والأولية، والذي نتج عن اختلاط شعوب أخرى جديدة بالأمازيغيين، هاجرت إلى بلاد شمال إفريقيا، حاملة معها ثقافتها وهويتها ولغتها ومعتقداتها، مثل اليهود حوالي الألف الثانية قبل الميلاد، ثم تلتهم، خصوصا ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد، شعوب أخرى متاجرة أو غازية ومحتلة، مثل الفينيقيين والرومان والبزنطيين والوندال والعرب والأتراك، ثم الأوروبيين في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكل هذه الشعوب، سواء التي استقرت بصفة نهائية بموطن الأمازيغ بشمال إفريقيا، مثل اليهود أو بعض المجموعات العربية، أو التي غادرتها كالرومان والأوروبيين، تركت بعض آثارها، القوية أو الضعيفة، العرقية والثقافية واللغوية والدينية ـ باستثناء ما يخص الهوية ـ، والتي أغنت التنوّع العرقي والديني والثقافي واللغوي بالمغرب داخل الوحدة الأصلية التي تمثّلها الأمازيغية، كما رأينا. التنوّع إذن، عكس ما يفترضه مبدأ “الوحدة في التنوّع”، ليس أوليا، بل هو شيء لاحق للوحدة الأمازيغية التي هي المعطى الأول.
التعامل السليم مع الوحدة والتنوّع:
فكيف يمكن التعامل مع ثنائي “الوحدة” و”التنوّع” بالمغرب، بعد أن ثبت لنا الآن أن الوحدة الأمازيغية هي المعطى الأصلي الثابت والأول، وأن التنوع هو المعطى اللاحق والمتغيّر؟
التعامل سيكون بناء، ليس على مبدأ “الوحدة في التنوّع”، بل على أساس مبدأ “التنوّع في الوحدة”. كيف ذلك؟
التنوّع الثقافي واللغوي والعرقي، وحتى الديني، أمر واقع وحاصل بالمغرب وبكل شمال إفريقيا الأمازيغي، ولا يمكن إنكاره أو إلغاؤه، وبالتالي يجب الاعتراف به وممارسته، لكن في إطار الوحدة الأمازيغية التي هي الأصل الثابت. وهذا يعني أن كل عناصر التنوّع يجب أن تُستعمل وتُمارس بالشكل الذي يغني الوحدة الأمازيغية ويقوّيها ويرسّخها ويحافظ عليها، وليس العكس، كما يحدث الآن بالمغرب وكل بلدان شمال إفريقيا الأمازيغية، حيث يُوظف التنوّع لإفقار الأمازيغية وإضعافها. وخير مثال على ذلك هو استعمال اللغة العربية، من خلال التحويل الجنسي، القومي والهوياتي، المسمّى سياسة التعريب، لإقصاء الأمازيغية وتهميشها.
فتوظيف التنوّع لإغناء الوحدة الأصلية الأولى للغة والهوية والثقافة ببلد ما، هو السلوك الطبيعي في كل البلدان التي تحترم هويتها ولغتها وثقافتها، باستثناء الحالات التي يُلحق فيها بلد ما، بسبب الغزو والاحتلال، ببلاد الغازي المحتلّ، وبشكل نهائي ودائم، لا رجعة فيه ولا نزاع حوله، كما في إلحاق أقاليم بيزنطية بالأراضي التركية منذ القرن 15. ففي فرنسا مثلا هناك تنوّع إثني ولغوي وثقافي وديني، ناتج عن فترة طويلة من احتلال فرنسا لمجموعة من المستعمرات السابقة. فهذا التنوّع، الإثني واللغوي والثقافي والديني، وحتى الهوياتي، حاضر في فرنسا ومعترف به. لكنه موظف وموجه بالشكل الذي يغني الثابت الوحدوي الأصلي المتمثل في اللغة والهوية الفرنسية. ففي فرنسا تدرّس العديد من اللغات، بما فيها الأمازيغية والعربية. لكن تدريس هذه اللغات لا يرمي إلى إضعاف اللغة الفرنسية، بل إلى إغنائها وتقويتها، ولا ينتج عنه استلاب المواطن الفرنسي وفصله عن هويته الفرنسية الأصلية وتحويله جنسيا من جنسه الفرنسي إلى جنس أصحاب العناصر الثقافية واللغوية الأجنبية، بل يساهم في ترسيخ هويته الفرنسية والحفاظ عليها بمعرفته للفوارق التي تميّزه، كمواطن ذي انتماء هوياتي فرنسي، عن الشعوب والهويات الأخرى. هكذا يُستعمل التنوّع لخدمة الوحدة الأصلية الأولى: أرض فرنسية واحدة، شعب فرنسي واحد، هوية جماعية فرنسية واحدة، لغة فرنسية واحدة… وهناك اليوم دعوة بفرنسا لتكييف الإسلام، كأحد عناصر التنوّع بهذا البلد الأوروبي، لخدمة الوحدة الفرنسية الأصلية من خلال المطالبة بـ”إسلام فرنسي”. وهذا يعني أن التنوّع، بما فيه الدين الإسلامي، يُوظّف لخدمة الوحدة الأصلية الأولى وليس العكس، كما هو حاصل عندنا بالمغرب وبأقطار تامازغا بصفة عامة، وبشكل غريب وشاذ، حيث توظف الوحدة الأمازيغية الأصلية لخدمة التنوّع، ويُستعمل الثابت الأمازيغي لتقوية الدخيل المتغير والمتحوّل، أي تكييف الوحدة مع التنوّع الذي يُستعمل للقضاء على عناصر تلك الوحدة الأمازيغية الأصلية بجعل تلك العناصر (الأرض والشعب والهوية واللغة) عربية وغريبة عن أصلها الأمازيغي.
من “الوحدة في التنوّع” إلى “التنوّع في الوحدة”:
لهذا فإن استعادة الوعي الهوياتي والسياسي بالأمازيغية كمنظومة وحدوية تشمل الأرض والشعب واللغة والهوية، يقتضي قلب العلاقة بين الوحدة والتنوّع، وذلك بالانتقال من “الوحدة في التنوّع” إلى “التنوّع في الوحدة”، مع التعامل مع هذا التنوّع كمجموعة من العناصر المتحوّلة وغير الثابتة، والتي تُوظف لإغناء وتقوية الثابت الوحدوي الأمازيغي المتمثل في الأرض الأمازيغية، والشعب الأمازيغي، واللغة الأمازيغية والهوية الأمازيغية… وهنا ينبغي أن تصبح اللغة العربية ـ وتلك هي مكانتها الطبيعية ـ، كأحد عناصر التنوّع اللغوي بالمغرب، في خدمة الوحدة الأمازيغية باعتبارها لغة وافدة يفيد تعلّمها في إغناء التكوين الديني والثقافي والمعرفي للإنسان الأمازيغي، على غرار اللغات الأجنبية الأخرى مثل الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية… وبتبنّي وتطبيق مبدأ “التنوّع في الوحدة” ـ بدل الوحدة في التنوّع ـ يصبح كل عنصر منهما، أي التنوّع والوحدة، يلعب دوره كاملا ودون تطاول على أي عنصر من العناصر الأخرى، حيث ستحتفظ الأمازيغية بدور الوحدة، وتؤدي عناصر التنوّع دور إغناء الوحدة الأمازيغية وتقويتها والحفاظ عليها.
أما ما هو حاصل اليوم بدول شمال إفريقيا الأمازيغية بخصوص العلاقة بين الوحدة والتنوّع، كما يظهر ذلك جليا على مستوى اللغة والهوية الجماعية، وخصوصا منذ 1912 بالنسبة للمغرب، فيمثّل حالة استعمار هوياتي ولغوي وثقافي حقيقي، والتي تتحقّق عندما يحاول عنصر دخيل ـ مجرد عنصر دخيل ـ الهيمنة على ما هو ثابت وأصلي ووحدوي. ومن هنا فإن التحرير الهوياتي للمغرب، وشمال إفريقيا عامة، يبدأ إذن بتصحيح العلاقة بين الوحدة الأمازيغية الثابتة والأصلية، وبين التنوّع المتغيّر لكن الضروري. وهو تصحيح ليس في اتجاه طرد ومحاربة عناصر التنوّع، بل في اتجاه إعطائها أدوارها الطبيعية المتمثلة في توظيف هذا التنوّع لخدمة الوحدة الأمازيغية الأصلية.
وبناء على مبدأ “التنوّع في الوحدة”، سيبدو مفارِقا وغريبا أن نطالب بالاعتراف بالأمازيغية، لأنها شيء موجود كمعطى طبيعي وأولى، مثل جبال الأطلس. فالمطالبة بالاعتراف بها وبحقوقها كالمطالبة بالاعتراف بوجود جبال الأطلس التي هي شيء موجود كمعطى طبيعي مستقل عن تدخل الإنسان. فالذي جعل الأمازيغية في وضع جزء (أقلية) من عناصر التنوّع، والتي (الأمازيغية) تطالب بالاعتراف بوجودها كمكوّن (فقط) ضمن باقي مكونات هذا التنوع، هو النظر إليها انطلاقا من المبدأ المغلوط والمقلوب القائل بـ”الوحدة في التنوّع”، الذي روّجه ميثاق أكادير وتبنته الحركة الأمازيغية بعد ذلك، ثم رسّمه دستور 2011. أما في الحقيقة، وانطلاقا من المبدأ السليم الذي يُقرّ بـ”التنوّع في الوحدة”، فإن الذي يمكنه المطالبة بالاعتراف بحقوقه، ليس الأمازيغية التي هي معطى ثابت أولي وأصلي، بل عناصر التنوّع الدخيلة، مثل العربية والفرنسية مثلا. هنا سيكون معقولا ومقبولا أن تقوم مجموعة من المواطنين المغاربة، يدّعون أنهم عرب، بالمطالبة بالاعتراف بحقوقهم اللغوية والثقافية في إطار الوحدة الأمازيغية الثابتة والأصلية.
النتيجة الأخرى لتطبيق مبدأ “التنوّع في الوحدة”، وليس “الوحدة في التنوع”، هي أن ما يهدّد الوحدة ليس الأمازيغية التي هي الوحدة بذاتها، كما رأينا، بل عناصر التنوّع الدخيلة، مثل العربية أو الفرنسية، عندما تريد تلك العناصر فرض هيمنتها على الأمازيغية وإضعافها وتكسير وحدتها الأصلية، الترابية والهوياتية واللغوية…
وتظهر هذه الهيمنة في احتلال العروبة، منذ 1912، والتي هي أصلا عنصر دخيل وأجنبي ككل عناصر التنوّع الأخرى التي ظهرت في فترة لاحقة لقيام الوحدة الأمازيغية الأصلية كما سبق بيان ذلك، لمكانة الثابت الوحدوي كهوية للدولة التي أصبحت نتيجة لذلك دولة “عربية”، ذات سلطة عربية، تحكم بلدا “عربيا” هو المغرب، في حين تحولت الأمازيغية، نتيجة لذلك أيضا، إلى مجرد جزء وعنصر ضمن مجموع عناصر التنوّع التي تعيش في كنف الدولة “العربية”، التي تجسّد بهويتها “العربية” الكلَّ الوحدوي. وهكذا أصبحت العروبة، كسلطة ودولة منذ 1912، تمثل الكل والوحدة، في حين أصبحت باقي العناصر الأخرى، ومن بينها الأمازيغية، تمثل الأجزاء والتنوّع.
وهذه حالة شاذة وغير طبيعية على مستوى العلاقة بين الجزء والكل، بين المتعدّد والواحد. ومصدر الشذوذ أن الجزء أصبح يحتل مكان الكل، والمتعدّد مكان الواحد. فإعادة العلاقة الطبيعة والسليمة بين الكل والجزء، بين الوحدة والتنوّع، يقتضي الانتقال من دولة عربية إلى دولة أمازيغية ـ بالمفهوم الترابي دائما ـ تكون فيها الأمازيغية هي هوية الدولة التي تعيش في ظلها عناصر أخرى، ثقافية ولغوية وعرقية ودينية تمثّل التنوّع والتعدد، ولكن دائما في إطار الثابت الوحدوي الذي يمثّله الانتماء الأمازيغي للدولة، والمستمدّ من الأرض الأمازيغية لتلك الدولة. وهذا هو “التنوّع في الوحدة” الذي ينبغي أن يُستبدل به شعار “الوحدة في التنوع”، الذي بينّا أنه لا يطابق الواقع الأمازيغي للمغرب كما سبق أن شرحنا ذلك.
وهذا هو المطلب ـ تمزيغ هوية الدولة لتكون منسجمة مع هوية الأرض ـ الذي يجب أن تدافع عليه الحركة الأمازيغية وجميع المغاربة، حتى يكونوا مطابقين في هويتهم لأرضهم الأمازيغية، التي ينبغي أن تحكمها دولة باسم انتمائها إلى هذه الأرض الأمازيغية.
حالة “تامغرابيت”:
وكما أن مبدأ “الوحدة في التنوّع”، الذي اخترعته الحركة الأمازيغية، سيُستعمل ضدها عندما يجعل من الأمازيغ مجرد مكوّن و”أقلية” ضمن التنوّع المشكّل للهوية الوطنية التي تمثّل الوحدة، فكذلك مفهوم “تامغرابيت”، الذي تبنّاه مجموعة من نشطاء الأمازيغية، هو ذو دلالة تُقصي الأمازيغية بإلغائه للهوية الأمازيغية للمغرب واستبدالها بـ”تامغرابيت” كمشترَك لجميع المغاربة، تطبيقا لمضمونه الدال على الجنسية، والذي مؤدّاه هو: “نحن جميعا مغاربة”، وهو ما يعني أننا لسنا أمازيغيين (انظر موضوع: «بين “تامازيغت” و”تامغرابيت”» بالنقر هنا). وهنا تقوم “تامغرابيت” بنفس الدور الذي يقوم به مبدأ “الوحدة في التنوّع”، الذي يجعل من الأمازيغية مجرد عنصر ضمن عناصر التنوّع الذي يخدم الوحدة التي تمثّلها، ضمنا أو علنا، العروبةُ والإسلام. فتكون “تامغرابيت” هي ما يجمع لأنها رمز الوحدة، والأمازيغية هي، حسب منطق “تامغرابيت”، ما يفرّق لأنها لا تمثّل الجميع. وحتى لا تُستعمل الأمازيغية ضد الوحدة، ينبغي إدماجها في “تامغربيت” كعصر ملحق بها وتابع لها. فـ”تامغرابيت” هي صيغة جديدة للتعبير عن مبدأ “الوحدة في التنوّع”، الذي هو فهم خاطئ للعلاقة بين الوحدة والتنوّع، يؤدي إلى فهم خاطئ للهوية الجماعية للمغرب وللشعب المغربي وللدولة المغربية، يُفضي في النهاية إلى إقصاء الأمازيغية أو إلى الاعتراف بها، في أحسن الأحوال، كعنصر تابع للعروبة ـ وما يلازمها من إسلام ـ التي تمثّل الهوية الموحّدة، حسب المدافعين عن هذه الهوية.
الهوية بين الثبات والتحوّل:
أعرف أن الحديث، كما جاء في هذه المناقشة، عن “وحدة الأمازيغية الثابتة والأصلية”، وعن الهوية الأمازيغية “كمعطى ثابت أولي وأصلي”، يثير انتقادات سهلة وجاهزة، من قبيل أن هذا الموقف هو دفاع عن هوية خالصة تتعالى عن الزمان والتاريخ، ينطلق من نظرة سكونية وميتافيزيقية إلى مسألة هوية الشعوب التي هي متحوّلة بتحوّل التاريخ والزمان والمكان، ولا مكان فيها، بالتالي للثبات والاستمرار على نفس الحال.
فكرة “التحوّل” أصبحت، هي بدورها، من البديهيات العامّية منذ أن أكدت الماركسية على جدلية التحوّل التي تطبع كل شيء في هذا الكون، طبيعيا كان أو إنسانيا واجتماعيا. ولهذا بات القول بالثبات هو قول يخالف قانون التحوّل الجدلي، الذي هو الشيء الوحيد الثابت كقانون يسري على كل الظواهر، يقضي بأن لا شيء ثابت، وكل شيء يتغيّر.
نعم، لا شيء ثابت وكل شيء يتغيّر. لكن التغيّر، مثل الثبات، لا بد له من شروط وأسباب. إذا غابت هذه الشروط والأسباب غابت نتائجها المتمثّلة في هذا التغير. وهذا يصدق أكثر على هويات الشعوب. فهناك شعوب اختفت هوياتها نهائيا ولم تعد مذكورة إلا كتاريخ، مثل الهوية الفينيقية والبيزنطية والوندالية… أو تحوّلت إلى هويات أخرى جديدة مثل الهوية الكلدانية والسريانية التي تحوّل جزء منهما إلى هوية عربية، والهندية (نسبة إلى هنود أمريكا) التي تحولت إلى أمريكية، فقط بالنسبة لأمريكا الشمالية وليس الجنوبية… فالشعوب التي اختفت هوياتها هي الشعوب التي اختفت وانقرضت، مثل الفينيقيين والبيزنطيين والوندال… ولماذا اختفت وانقرضت؟ لأن أراضيها اختفت كمواطن خاصة بها، بعد أن استولت عليها شعوب أخرى، بصفة نهائية ودائمة، فغرست فيها هويتها الخاصة باعتبارها امتدادا جغرافيا وهوياتيا جديدا لها، كما حدث لأقاليم رومانية وبيزنطية وبلقانية استولى عليها العثمانيون منذ القرن الخامس عشر، حيث أصبحت هويتها منذ ذلك التاريخ هوية تركية. وكما حدث لجنوب العراق الذي كان ذا هوية كلدانية، لكنه أصبح منذ الفتح الإسلامي (الغزو العربي) لهذه المنطقة أرضا عربية وبهوية عربية…
أما بالنسبة للأمازيغ، أي سكان شمال إفريقيا، فلم يسبق لأي شعب أن استولى على أرضهم بصفة نهائية ودائمة. كان مثل هذا الاستيلاء دائما جزئيا ومؤقتا، كما مع الفينيقيين والرومان والعرب والفرنسيين… فليس هناك إذن سبب تاريخي لتحوّل الهوية الجماعية الأمازيغية لسكان شمال إفريقيا إلى هوية أخرى جديدة غير أمازيغية. وهذا هو الحاصل بالنسبة للعديد من الشعوب، مثل الشعب الفارسي والصيني والياباني…، حيث لا تزال هوية هذه الشعوب، ومنذ آلاف السنين، فارسية وصينية ويابانية… فلماذا لم تؤثر عليها جدلية التحوّل لتجعل منها هويات أخرى جديدة، تبعا لقانون التغيّر والتحوّل الجدلي؟ ولماذا، كذلك، لم يؤثّر نفس القانون على ثنائي العروبة والإسلام كهوية ثابتة منذ أربعة عشر قرنا؟ أم أن جدلية التحوّل لا تُستحضر إلا لتبرير إقصاء الأمازيغية بدعوى أن لا شيء ثابت؟
بغضّ النظر عن دافع الرغبة في إقصاء الهوية الأمازيغية بمبرّر التحوّل، كما أشرت، فإن ما يجعل الكثيرين يعتقدون أن الهوية الأمازيغية غير ثابتة، هو انطلاقهم من تصوّر عرقي للهوية. فبما أن الهوية العرقية للأفراد تختلف وتتطوّر مع الزمان نتيجة المصاهرة والتزاوج واختلاط الأنساب، فينتج عن ذلك أن الهوية الأمازيغية نفسها تختلف وتتطوّر بفعل نفس المصاهرة والتزاوج واختلاط الأنساب. وهذا الخلط بين الهوية العرقية للأفراد والهوية الجماعية للشعوب خطأ فادح يقع فيه الكثيرون نتيجة انتشار التصوّر العرقي للهوية، المرتبط بالثقافة العربية التراثية التي يحتلّ فيها علْم وأشجار النسب مكانة هامة. مع أن مفهوم الهوية العرقية للأفراد لا علاقة له إطلاقا بمفهوم الهوية الجماعية للشعوب والأمم والدول والأوطان…
في الحقيقة، التحوّل الحقيقي الوحيد، الذي عرفته الهوية الجماعية الأمازيغية طيلة تاريخها، هو ظهور، منذ دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، متحوّلون جنسيا، تنكّروا لجنسهم الأمازيغي وانتحلوا الانتماء إلى الجنس العربي. لكن خطورة هذا التحوّل الجنسي، بمعنى القومي والهوياتي، لم يظهر أثرها على الهوية الجماعية الأمازيغية إلا عندما أصبح سياسة عمومية للدولة منذ 1912، مع دولة الاحتلال ثم بعدها مع دولة الاستقلال، تسمّى رسميا بسياسة التعريب، أي سياسة التحويل الجماعي للأمازيغيين إلى عرب، بعد أن كان هذا التحوّل الجنسي، قبل 1912، اختيارا فرديا، لأسباب دينية ثم سياسية (وهل هناك فرق بين الاثنين في الإسلام؟)، لم يكن له تأثير يُذكر على الهوية الجماعية التي ظلت دائما أمازيغية حتى 1912. فلأن عدد الأمازيغيين المتحوّلين جنسيا، أي قوميا وهوياتيا، في تنامٍ مطّرد نتيجة سياسة التعريب التي تنهجها الدولة منذ 1912، كما أشرت، فإن ذلك يخلق الانطباع بأن الهوية الجماعية الأمازيغية قد تحوّلت إلى هوية جماعية عربية. مع أن الذي تحوّل، ليس هي الهوية الجماعية الأمازيغية للمغاربة، بل فقط الوعي الذي تحوّل إلى زائف ومستلَب لدى الأمازيغيين المتحوّلين جنسيا، مما جعلهم يعتقدون، زيفا واستلابا، أنهم عرب، مع أن عروبتهم المزعومة زائفة ومزوّرة، ولذلك فإن العرب الحقيقيين لا يعترفون بهم أبدا كعرب. هذا هو التحوّل الحقيقي والوحيد الذي طرأ على الهوية الجماعية الأمازيغية. وهو تحوّل جنسي لأعداد من الأمازيغيين الحقيقيين إلى عرب مزوّرين وغير حقيقيين. وهذا ليس تحوّلا حقيقيا للهوية الجماعية الأمازيغية ما دام أن مصدرها، الذي هو أرض المغرب وشمال إفريقيا، مع ما يصاحب ذلك من لغة خاصة بتلك الأرض، لا زال هو موطن الأمازيغ ولم يتحوّل إلى موطن لشعب آخر غير أمازيغي.