تثير المظاهرات التي تخرج بين الفينة والأخرى مطالبة بصلاة التراويح والتجمعات البشرية لإقامة الصلاة على أبواب المساجد، إشكالا طالما حاولنا معالجته كأئمة وخطباء في دروس الوعظ والإرشاد وخطب الجمعة، ولا زلنا نعالجه الساعة، ولكن للأسف كلما مرت على الأمة حالة من الحالات الاستثنائية إلا وينكشف لنا أن الإشكال لا زال باقيا والأمة لا زالت تحتاج الكثير من العمل والجهد من أجل تصحيح تدينها وعلاقتها مع الله وشرعه الإسلام.
بغض النظر عن قضية إغلاق المساجد وأحقية ذلك من عدمه، هناك إشكال أشد من الإغلاق نفسه وهو مستوى فهم الأمة لدينها، فما سبقت الإشارة إليه من التظاهرات والتجمعات تفيد أن هؤلاء في الحقيقة لم يقفوا بعد على جوهر الإسلام وأساسه، إذ جعلوه كشريعة وكمنهج حياة منحصرا في ركعات تؤدى داخل المساجد لا يراعي فيها الإنسان الحالة الصحية ولا الوبائية للبلاد، فاهما أن ما يتخذ من قرارات هو من قبيل محاربة الإسلام وإذلال أهله، فهذه الأسواق بضخامتها لا زالت مفتوحة بينما المساجد أغلقت، أليس في هذا محاربة لشعائر الإسلام في بلاد أهلها مسلمون؟ هكذا يجادل هؤلاء عند محاورتهم.
إن من أكبر ما كشفه هذا الوباء في سلوك الإنسان المسلم اليوم هو أن علاقته بالإسلام كدين علاقة طقوسية محضة، فرغم سنوات إسلامه من صلاة وصيام وغيرها لم يقف بعد على حقيقة الإسلام وجوهره، ويرى في قرارات بنيت على أحكام شرعية أنها محاربة للدين وقمع للإسلام، ولا يعرف أن الإسلام كشريعة ربانية له كليات ومقاصد تدور عليها الأحكام الشريعة فعلا وتركا، وقد يفتي الفقهاء تبعا لذلك بفتاوى وأحكام يكون ظاهرها عند الجاهل بها محاربة للإسلام، فالناظر إلى المفطر في نهار رمضان يخيل إليه أنه ينتهك حرمة الدين وشعيرة الصيام، فإذا علم أن المفطر مريض مرضا لا يستطيع معه الصوم تتغير نظرته آنذاك ويعرف أن الأحكام لها تعلق بالأحوال، فالحالة والزمن قد يدفعان أهل العلم للحكم بأحكام ظاهرها خلاف الدين بينما المقصد منها حماية الإنسان الذي عليه قوام الإسلام، والفقهاء يقدرون ذلك باعتبار المفاسد والمصالح ويحرصون على أن لا تؤتى كلية النفس من جهة الدين، إذ من مقاصد الدين حفظ النفس ورعايتها والحرص على بقائها واستمرارها، لا إهلاكها ودفعها لموارد الفساد والهلاك (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وقد تقرر لأهل الطب أن ما ظهر من وباء فيه هلكة للإنسان وإضرار بنفسه خصوصا عند التجمعات والازدحامات وعلى أساس ذلك أفتى أهل العلم بإغلاق المساجد وإقامة الصلوات في البيوت استثناء لا أصلا وضرورة لا طبعا، فإذا صلى الناس في البيوت وتزاحموا في الأسواق ليس فيه ما يفيد محاربة الإسلام وتعطيل المساجد، وإنما يفيد جهل الناس بحقيقة الدين ومقاصده فإذا نهي الإنسان عن التجمع في المسجد مراعاة لضرورة الوباء فتباعده في الأسواق أولى وأوجب، والجهل بالدين أفظع من الفيروس نفسه، لأن الفيروس يقتل النفس إذا لم تحترز أما الجهل فيقتل النفس بالفهم المعوج للدين.
ومسألة اتخاذ أحكام وقرارات شرعية وفتاوى دينية يظهر للجاهل بها أنها محاربة للدين ليست وليدة اليوم، وإنما هي قرارات لها أصل في الدين مراعاة للوضع العام للنفس البشرية، وما على المسلم العامي إلا التسليم بما أفتى به أهل العلم لأنهم الأعرف بقواعد الدين وضوابطه، فكما نسلم لأهل الطب في العمليات فنسلم لأهل العلم في الفتاوى والقرارات ما داموا أهلا لها، وقد يفعل الطبيب فعلا يظهر للجاهل أنه إفساد للصحة بينما هو إنقاد للنفس فيقطع يدا أو رجلا ليوقف المرض فتحيا النفس، فعل يراه الجاهل إفسادا ويراه العالم إنقاذا.
حينما يقف المطالع للسيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحراق مسجد وهدمه وليس فقط إغلاقه، هل سيفهم منه أنه يحارب الإسلام الذي جاء به؟ ألا يكفي منه إغلاق المسجد ومعاقبة أهله؟ لكن بعد الاطلاع على الحالة وتفاصيلها نجد أن ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التصرف الأمثل، فالمساجد تبنى لعبادة الله وتعليم الناس وتثقيفهم وجمع كلمتهم وتوحيد شتاتهم والمحافظة على وجودهم، لا تهديدا لحيواتهم ونسفا لعقائدهم ونشرا للمرض فيهم، قال تعالى ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوقوف في مسجد يسعى لإلحاق الأذى بالمؤمنين وأمر بالقيام في مسجد يحرص أهله على النظافة والتطهر، ومعنى الآية واضح لمن يحكم عقله ودينه.
حينما دخل أعرابي للمسجد وكشف عن عورته يبول في المسجد فهم به الصحابة فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا يفهم الجاهل بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمح بتدنيس المساجد والبول فيها؟ لكنها الحكمة النبوية في مراعاة أحوال الناس عند اتخاذ القرارات وقال لهم: “فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”.
حينما هم بنو سلمة على الرحيل ومجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة منعهم وقال لهم: “بني سلمة دياركم تكتب آثارهم” أيفهم المطالع للسيرة من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضد مجاورة المساجد والاقتراب منها وهو دليل على حب القوم لها واحترامها؟ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأمر خلاف ما تريد بني سلمة ولم يشكك أحد منهم في قراره وأمره صلى الله عليه وسلم وقالوا :”سمعنا وأطعنا” وهو بذلك يحافظ على روافد المدينة المنورة وأحوازها بإقرار القرى ودعم وجودها إذ القرية من روافد المدينة كما في علم الاجتماع، وهو إجراء إصلاحي لنظام اجتماعي واقتصادي يرزح اليوم تحت وطأة الأحياء الشعبية والمناطق الفوضوية التي كانت في يوم من الأيام قرى يجب المحافظة على وجودها لا إذابتها في المدن.
حينما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فوق المنبر بإغلاق جميع أبواب المسجد التي كان يدخل منها الصحابة وترك باب أبي بكر، هل فهم الصحابة من ذلك أنه إغلاق للمسجد وتعطيل لوظيفته؟ بل رأوه حرصا على وظيفته وأداء مهمته إذ من مهامه جمع الكلمة وتوحيدها لا تشتيت القبائل على الأبواب وتخصيص كل قبيلة بباب.
هذه إجراءات قد يفهم منها أنها محاربة للدين وتعطيل لشعائره بينما هي تأسيس لضوابطه وتحقيق لمقاصده، فلابد من مراعاة الأحوال عند إصدار الأحكام وهذا أمره يفقهه العلماء والفقهاء جيدا وعلى الناس التسليم لهم في ذلك، ولا يكون ذلك إلا بوعي ديني صحيح لا وعيا دخيلا مغشوشا، فمن يتظاهر لإقامة صلاة التراويح هو عينه من يتظاهر لحضور مغنية لحفل شعبي، ومن يؤمهم في هذه التراويح هو نفسه من يبيع لأبنائهم الحبوب المهلوسة في الساحات ورؤوس الأزقة.
فأين الوعي بالدين؟؟