
ما أروع أن تسأل كاتبا عن آخر ما نُشر له فيهديك كتابه، الذي يحمله معه في محفظته كرضيع في أيامه الأولى يخشى عليه من تقلبات الجو. يخط الإهداء على صدر الصفحة الأولى باسمك، ثم يضع توقيعه، فتشعر كما لو أن الكتاب ما صدر إلا لك وحدك. لا أظن أن ثمة ما هو أرقى من أن يُهدَى الإنسان كتابا أو أن يهدِيه. ولا أرى أن هناك طريقة مُثلى للتعبير عن شكرك أفضل من أن تقرأ الكتاب المُهدى قراءة متأنية وعاشقة ومتلذذة. أهدتني الرقيقة في كل شيء، الأستاذة ثريا وقاص، كتابها الأول “دائرة في المنتصف”، ثم عادت لتهديني كتابها الثاني “كقبضة يد” بُعيد صدوره. معروف أن من بين أهم ما ترمز إليه الدائرة هناك الخلود. فثمة أشياء تخلد فينا، وأشياء نخلّدها بأنفسنا في أنفسنا، وفي العالم، أما قبضة اليد فهي تحيل في أبسط معانيها على المسك بقوة، فثمة أشياء نمسكها، وأشياء تمسكنا، وأشياء تنفلت من بين أصابعنا، وأشياء تظل مثل السراب نسعى إلى الإمساك بها عبثا. وبين هذه الأشياء وتلك توجد الكثير من التيمات التي تشكل صلب اهتمام الشاعرة في مؤلفيها سالفي الذكر.
الأب.. الراحل الذي لم يرحل
الأب هو أول شخص خصته الشاعرة بإهدائها في كتابها الأول. الأب الذي على الرغم من رحيله يأبى إلا أن يبقى مقيما دائما وأبدا. إنه حاضر في الوجود، وفي الوجدان، وفي الذاكرة. هو حبل يربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل. إنه يعيش هنا والآن، ووجوده يُرى، حسب الشاعرة، بـ”عين ثالثة”. يحضر كطيف ملائكي، وكجسد أيضا، فكلماته التي قالها أو تلك التي لم يقلها، ونظراته، وأحضانه، وهداياه، وقبلاته، وأنفاسه، وضحكته، وكتبه، وصوته، ولهفة انتظار عودته عند الباب أو في المطار، أشياء تعيش مع الشاعرة، ومن حولها، وفيها أيضا. لقد كان على الدوام، وسيظل دائما، بمثابة الإبهام في أصابع اليد. كان وسيظل رمزا للفرح، وللأمل، وبكلمة واحدة للحياة.
تعترف الشاعرة بأنها تدين لوالدها في محبتها للقراءة. إن غيرتها عليه من الكتب التي كانت تسرقه منها جعلتها تعشق القراءة وهي في سن السابعة. غيرةٌ مثل هذه، ما أروعها! وما أفيدها! تبدو الشاعرة أشبه بـ”الكترا” في مسرحية “سوفوكليس”، لكنها عوض أن تنتقم للأب المحبوب بقتل محبوبته (القراءة) تسارع إلى محبتها مثله. هذا وقد كانت للأب محاولات في الكتابة، إذ ترك مسودات من جملة ما ترك. وقد حملت البنت القلم، وأخذت تكتب، وتنشر كتبا تحوي نصوصا عبارة عن شذرات شعرية تقوم على المجاز، وعلى الاقتصاد في اللغة. نصوص قليلة في عدد كلماتها، ثقيلة في ميزان معانيها وأبعادها الإنسانية.
الأم.. الروض الظليل
رحيل الأب كان له تأثير بالغ جدا ليس على البنت فقط، وإنما على الأم كذلك. لا يزال فقدانه يجرعهما معا عصارة حنظل لا يقويان على تحملها. وحده بكاؤهما في أحضان بعضهما البعض يخفف من مرارتها. ويبدو أن رحيل الأسرة إلى بيت جديد قد زاد من وطأة الحنين إلى الأيام الخوالي، لأن البيت الأخير ببساطة لا ذاكرة له. هنا نلمس عاطفة إنسانية نبيلة جدا، وصادقة قولا وفعلا، كانت تجعل الأسرة ملتحمة، وأفرادها متحابين، حبا عنيدا، يتحدى الموت، ويستمر بعده.
للأم حضور قوي في نصوص الشاعرة. إذ تؤثث كل تفاصيل الحياة. فأينما حلت الشاعرة وارتحلت فهي تحملها معها، ورائحتها لا تُنسى لأنها رائحة الحياة ذاتها. هي مصدر إلهام، ومصدر عطاء بلا حدود، ومصدر طاقة متجددة، ومصدر مواساة. هي صمام أمان، وملاذ تلجأ إليه متى دعت الحاجة إلى ذلك، ورمز للتضحية دون شروط. ويشكل الأهل والأقارب امتدادا لها. وحتى عندما تشيخ الأم ويتضاءل جسدها تحت ثقل السنين فهي تتحول إلى قلب كبير يمشي على الأرض. وفي كل الأحوال، صباح يحل في غياب الأم لا يستحق في نظر الشاعرة أن يُعاش.
الحياة.. البساطة هي السعادة
الحياة جميلة ما في ذلك شك. ويبدو من خلال نصوص الشاعرة أن قبحها، الذي يتخذ صورا وأشكالا متعددة ومختلفة، مثل الفقر والحزن والمرض والتيه والضياع وتلاشي القيم مثل الصداقة وبؤس الوطن، إنما مصدره الناس أنفسهم. يسعى هؤلاء، كل بطريقته ووسائله وما تيسر له، إلى السعادة لكنهم يستثمرون كل إمكانياتهم في الشقاء. ولذلك لا نرى إلا الشقاء أينما ولينا وجوهنا. نحن لا نعمل، سواء بوعي أو بغير وعي، إلا على تعقيد الحياة. وكلما تعقدت أكثر كلما أضحت أكثر عنفا، وأكثر نفاقا، وأكثر تعاسة.
تقترن السعادة في نصوص الشاعرة بالبساطة، وبشكل الحياة الأولى، وببركة القليل. ولذلك تحن الشاعرة إلى الطفولة التي هي، في نظرها، ترادف الدهشة والبراءة والغفران، في حين أن الكبر يرادف الحيرة والقسوة والضياع. كلما كنا أكثر بساطة، وأقرب إلى الطبيعة، كلما كنا أكثر قربا من أنفسنا، وأكثر خفة، وأكثر قناعة، وأكثر رضا، وبالتالي أكثر سعادة. لا تكلفنا السعادة أي شيء تقريبا. أبوابها دائما مفتوحة، لكننا لا نراها لأننا مشغولون بالبحث عن مفاتيح لا تصلح في الواقع لأي شيء.
الحب.. أن يكون كبيرا أو لا يكون
لا خير في حياة تخلو من الحب. لكن الحب المقصود هنا ليس أي حب، وإنما الحب الكبير كبر الحياة ذاتها. الحب القوي والنبيل في بداياته كما في نهاياته. تعرّفه الشاعرة بأنه “يد تربت على القلب”. من ميزاته أنه مكتف بذاته ولا يحتاج إلى أي شيء خارجه. هو يتغذى على ذاته، وله قدرة عجيبة على تجديد نفسه باستمرار. هو لا يكل ولا يمل من البحث عن السبل التي تضمن له الاستمرارية المبدعة. ومثل هذا الحب لا يحتاج إلى كلام كثير. فهو مثل كتاب طفل يقوم على الاقتصاد في الكلمات. من جهة ثانية هو أفعال تتخذ أشكالا كثيرة جدا، أفعال تُمس باليد وتُرى بالعين. ومثل أي طفل يحتاج الحب إلى وقت لينمو وينضج قبل أن يصبح جارفا، ومجلجلا، ومخلخلا، ويزيد إلى عمرنا عمرا جديدا.
هذا النور الإلهي الذي يشع من قلب الإنسان، ويجعله يتجاوز ذاته، ويمتد إلى الغير، كفيل وحده بجعل الوجود جميلا. جمال يتغلب على التفاهة الموجودة في العالم، وتحاول السيطرة عليه، وتعمل بجهد جهيد على مسخه حتى يصير في النهاية مجرد صورة وصدى لها. تؤكد الشاعرة على أن مثل هذا الحب ليس فيه درجات وأنواع. هناك فقط الحب واللاحب. ويتخذ هذا اللاحب أشكالا متعددة مثل الحب غير الحقيقي، والخاطئ، والمزيّف، والسطحي، والمبتذل، والذي به عاهات مستديمة، وغير الملموس، إلخ. هذا اللاحب تسري الهشاشة في أوصاله، ولا يقوى على الاستمرارية، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يرقى بالإنسان في مدارج الإنسانية، ولا أن يعلو به في معارج السمو والكمال.
الكتابة.. معنى أن تكون إنسانا
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يكتب. هو كائن كاتب. يكتب ليعبّر عن مخاوفه، وهواجسه، وفرحه، وانتصاراته، وانكساراته، وأحلامه، وماضيه، ومستقبله. لا يكتب كشخص فريد ومتفرد فحسب، وإنما يكتب باعتباره عضوا في مجتمعه، وفردا من الجنس البشري. فالشرط الإنساني واحد مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة. وتعتبر الكتابة في نظر الشاعرة شكلا من أشكال الولادة، لكنها ولادة مزدوجة: نلد عن طريق الكتابة نصوصا، وتلدنا الكتابة من رحمها كائنات جديدة، وتضاعف عدد الحيوات التي يمكن أن نحياها.
وغني عن الذكر أن الكتابة تقترن بالقراءة. هما وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن أن ينفصلا أبدا. والقراءة قراءتان: قراءة لغة الطبيعة، مثل فك شفرات ما يقوله القمر للشجر، وهي خاصة بالشعراء، وقراءة كتب الآخرين. في الحالة الأخيرة لا يمكن لأي كاتب، من حيث المبدأ، أن يكتب دون أن يقرأ. وحضور القراءة في نصوص الشاعر لافت للانتباه، وبالأخص قراءة الكتب الورقية، التي باتت مهددة في عصر الصورة.
إن مصدر أوراق الكتب هو الأشجار الخضراء. ولذلك فالبيوت التي تخلو من الكتب هي بيوت تفتقر إلى الهواء النقي والمنعش، إلى الأوكسجين. هي بيوت غارقة في الظلام، والضياع، والابتذال، والتفاهة، واللامعنى، وبكلمة واحدة هي بيوت ميتة. وحدها الكتب يمكن أن تجعل الحياة تدب في الحياة.