خصّصت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير ندوة لمعارك جبل بادو في الجنوب الشرقي للمملكة، بمناسبة الذكرى السابعة والثمانين لوقوعها، سلط خلالها باحثون الضوء على تلك المعارك التي جسّدت تعد واحدة من أشرس ملاحم المقاومة التي واجهت الاستعمار الفرنسي.
في مداخلته، تحدث عبد الله استيتو، أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة ابن زهر بأكادير، عن الأسلوب الذي اتبعه المقاوم زايد أوحماد في المقاومة والجهاد ضد الفرنسيين، مبرزا أنه نهج أسلوب حرب العصابات ونشر المعلومات الكاذبة تمويها للمخابرات الفرنسية حتى لا تتمكن من استقصاء أخبار صحيحة حوله.
وصعّب المقاوم زايد أوحماد، حسب المعلومات التاريخية التي قدمها استيتو، مأمورية الفرنسيين أكثر بالتحرك الدائم في مجالات مختلفة. كما اعتمد في هجوماته على السرعة والمباغتة، واختيار أوقات هجوماته والأهداف التي يستهدفها بعناية فائقة، وعدم ترك أثر مادي يمكن أن يدلّ على منفذ العملية.
وأشار المتحدث إلى أن الأسلوب الذي نهجه المقاوم زايد أوحماد مكّن حركة المقاومة التي قادها من الاستمرار، على الرغم من الحصار الذي فرضه المستعمر الفرنسي.
كما أنه كبّد الفرنسيين خسائر مادية كبيرة وأشعرهم بعدم الاطمئنان، ورفض الاستسلام والخضوع، على الرغم من تيقنه بعدم قدرته على الصمود طويلا أمام المستعمر لتفاوت موازين القوة العسكرية بين الطرفين.
وأبرز أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة ابن زهر أن المقاوم زايد أوحماد أصر على مقاومة جيش المستعمر وفضّل الاستشهاد بدل الخضوع، على الرغم من الإغراءات والامتيازات المادية التي عُرضت عليه ورفضها رفضا مطلقا ولم يقبلها كما فعل آخرون، قبل أن يُقتل على أيدي الفرنسيين الذين انتقموا منه بالتمثيل بجثته على مرأى من أهله وسكان المنطقة، لتخويفهم.
وأكد استيتو أن حركة المقاومة، التي قادها المقاوم زايد أوحماد ودامت ثلاثة أعوام، “كانت حركة تحررية بأساليب جديدة تستحق أن تدرس بشكل مستفيض، للاستفادة من دروسها وعبرها بالنسبة للأجيال الحالية واللاحقة في الدفاع عن البلاد والدفاع عن الأرض، مهما كانت الظروف وصعُبت الأحوال ومهما كانت الفوارق في موازين القوى.
وتطرق عبد العزيز بلبكري، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالقنيطرة، إلى الحرب الإعلامية التي كانت سلطات الاستعمار الفرنسي تخوضها ضد المقاومة، عبر الصحف الفرنسية، موازاة مع الحرب العسكرية.
وأوضح بلبكري، الذي تحدث في مداخلته عن معارك بادو بالجنوب الشرقي، أن هذه المعارك جسّدت نموذجا للمقاومة المغربية الباسلة التي ضحى فيها المغاربة الجبليون بالروح والدم والغالي والنفيس، مبرزا أن استسلام المقاومين لم يكن سهلا؛ ولكنه كان محتوما، لعدم تكافؤ موازين القوى بينهم وبين الجيش الاستعماري.
وخصص ميمون أم العيد، الكاتب والصحافي، مداخلته للحديث عن معركة بادو، انطلاقا مما دوّنه الضباط الفرنسيون حول المقاوم زايد أوحماد، مشيرا إلى أن هذا المقاوم قاد معارك ضارية ضد المستعمر وأرعب الفرنسيين من سنة 1934 إلى سنة 1936.
وأبرز أم العيد أن الوثائق الفرنسية قسمت مرحلة المقاومة التي قادها زايد أوحماد إلى ثلاث مراحل رئيسية: الأولى امتدت من ماي إلى يوليوز عام 1934، حيث تخصص المقاوم زايد أوحماد في تهريب الأسلحة والذخيرة، إلا أن التدخلات الفرنسية وضعت حدا لنشاطه التجاري فوجد نفسه غارقا في الديون، ولم يتبق أمامه حل سوى العودة إلى حرفته كـ”قاطع طريق” لتسديد الديون المتراكمة عليه.
وأردف المتحدث أن المرحلة الثانية من مقاومة زايد أوحماد، وفق التقسيم المدون في الوثائق الفرنسية، امتدت من يونيو إلى منتصف أكتوبر عام 1934، حيث تم تحديد هوية زايد أوحماد، ولم يعد يستطيع، بعد ذلك، العودة إلى بيته في مسقط رأسه، حيث أصبح بطلا ورمزا؛ ما جعل الفرنسيين يسخّرون كل القوى المتاحة للقضاء عليه، باعتباره من جيوب المقاومة الأخيرة المتبقية في الجنوب الشرقي.
وامتدت المرحلة الثالثة من مقاومة زايد أوحماد من منتصف أكتوبر عام 1934 إلى مطلع ماي عام 1936. وكانت هذه المرحلة، يضيف ميمون أم العيد، حافلة بالأحداث، انتهت بقتل المقاوم زايد أوحماد في الخامس من ماي.
واستحضر أحمد سكونتي، الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط، عددا من الأحداث المعبرة عن الشراسة التي أبدتها المقاومة في الجنوب الشرقي ضد جيش المستعمر الفرنسي.
وأوضح أن الجيش الفرنسي خصص أربعة فيالق حربية لمحاصرة لكسر شوكة المقاومين في معركة بادو؛ ما دفع السكان إلى الاعتصام في قمم الجبال التي تضم أماكن مقدّسة، من قبور أولياء، لافتا إلى أن العلماء كان لهم دور في تعضيد المقاومة، ومنهم محمد أولحاج التفراوتي الذي كان يحث على مقاومة جيش الاستعمار.
وأوضح الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط أن الجيش الفرنسي استعمل طائرة حربية لأول مرة لقصف السكان المعتصمين في قمة جبل بادو، كما استعمل المدفعية الثقيلة؛ بينما لم يكن المقاومون يملكون سوى أسلحة بسيطة ومتواضعة.
وأردف أن ما صعّب الحصار على السكان المعتصمين هو أنهم فقدوا زادهم، وخاصة الماء، حيث سيطر الجيش الفرنسي على العيون، وعمد إلى قصف كل من يتوجه إليها للتزود بالماء.
وموازاة مع ذلك، كانت هناك اتصالات بين الطرفين للوصول إلى اتفاق، حيث نزل كثير من المقاومين من قمة الجبل. ولم يتبق منهم سوى بعضهم رفقة قائدهم زايد أوسكوتي، الذي رفض الاستسلام في البداية؛ ولكنه رضخ بعدما تأكدت له صعوبة الاستمرار في المقاومة.
وختم الباحث مداخلته بدعوة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير إلى الاعتناء بتراث المقاومة في الجنوب الشرقي؛ من قبور المقاومين الموجودة في مناطق كثيرة، ومواقع المعارك والُّلقى المرتبطة بالسلاح، والاعتناء بالرواية الشفوية لأحداث تلك المرحلة، والتفكير في إحداث متاحف لوضع الصور واللقى الأثرية لتعريف الأجيال الشابة بتاريخ المقاومة في الجنوب الشرقي.