كان اسمها يرتبط سابقا بالسياحة والجمال. أما اليوم، فقد باتت شفشاون تعرف بتوالي حالات الانتحار منذ سنوات مضت. الكل هنا يعترف بكثرة الأخبار المرتبطة بقتل النفس هنا أو هناك، يسمعون يتحدثون قليلا ثم يصمتون على جرح لا يدرون سببه.

خلال السنوات الأخيرة، تكررت أنباء الانتحار بالمنطقة وبات الموضوع يحير السكان والمختصين. هسبريس حاولت النبش فيما بات يؤكد المختصون أنه ظاهرة بالمنطقة، التقت عددا من السكان، وسمعت قصص انتحار ذويهم، كما ناقشت الموضوع مع مختصين، وكانت أغلب أصابع الاتهام تشير إلى تورط تجارة القنب الهندي في الموضوع سواء كان الأمر بشكل مباشر أو غير مباشر، أما الصادم فهو ارتفاع الحالات في صفوف صغار ما زالوا يجلسون على مقاعد الدراسة.

من بين من التقتهم هسبريس عزيز المحساني، أحد أبناء المنطقة وشاهد على أكثر من عملية انتحار، كان آخرها لشخص في متوسط العمر امتهن قيد حياته يبيع البيض، هادئ، لا تظهر عليه أية علامات غريبة، اختار وضع حد لحياته شنقا داخل محل عمله تاركا سر موته مبهما للقريب قبل البعيد.

قال المحساني، في حديثه مع هسبريس، إن “هناك شيئا غريبا في منطقة شفشاون، القاطنون هنا يظهر لهم أن أفضل حل هو وضع حد لحياتهم، دون أن يعرف أي أحد السبب، متذكرا قصة انتحار جاره: “كنا نجلس في الحي، فإذا به يدخل إلى المحل ويقفل على نفسه، أثار استغرابنا تأخره في الخروج وهو ما دفعنا إلى الاتصال بعائلته. حين حضورهم، قام صديق لنا بالصعود فوق الباب؛ فإذا به يخبرنا أنه شنق نفسه”.

الانتحار بالأرقام

هسبريس حصلت على معطيات حصرية كشفت أن جهة طنجة تطوان الحسيمة تضم أكثر من 54 في المائة من مجموع حالات الانتحار المسجلة على الصعيد الوطني، سبعون في المائة منها هي بإقليم شفشاون؛ فمثلا منذ بداية سنة 2021 وإلى حدود نهاية مارس الماضي، تم تسجيل 13 حالة انتحار بالإقليم.

على الرغم من عدم توفر معطيات رسمية أكيدة فإن هناك اجتهادات للباحثين لمحاولة النبش في الظاهرة. يونس الجزولي، باحث بالمركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية بالرباط، هو واحد ممن حاولوا التمحيص في الانتحار بإقليم شفشاون عبر القيام بمجموعة من الدراسات والأبحاث حوله، في محاولة لفهم العوامل والأسباب المؤدية إلى تلك الطريق بناء على مجموعة من المتغيرات.

الجزولي قدم لهسبريس عددا من المعطيات البحثية حول الظاهرة، مؤكدا أن نسبة الذكور المقبلين على الانتحار هي أكثر من النساء، إذ من بين 13 حالة انتحار سجلها الإقليم في أقل من ثلاثة أشهر كان عدد الرجال هو 8 مقابل 5 إناث.

الصادم في معطيات الباحث وما أكده أيضا عدد من المختصين هو ارتفاع عدد المنتحرين من التلاميذ، إذ شكلت نسبتهم 64 في المائة؛ فيما يتراوح متوسط سن من يقتلون أنفسهم ما بين 8 و28 سنة، أي من الفئة النشيطة بالمجتمع، قائلا إن الأمر مرتبط بـ”ظاهرة خطيرة”.

وقال الجزولي إنه بالنسبة إلى وسط الانتحار في إقليم شفشاون فهي ظاهرة قروية بامتياز. أما بالنسبة إلى أداة الانتحار، فهي الشنق بنسبة 98 في المائة، و8 في المائة عبر الارتماء من الأعالي، ثم طرق أخرى مثل تناول سم الفئران بنسب ضئيلة.

عار يخفون ملامحه

حين سألنا كثيرين يشيرون إلى بيوت بها أشخاص منتحرون ندق الأبواب؛ لكن الأهالي يتحفظون على نشر قصص أبنائهم، لأن طبيعة المجتمع محافظة كما أن الانتحار موضوع محرج بالنسبة إليهم كأنه عار يرغبون في طمس معالمه حتى في أذهانهم.

التقت هسبريس عددا من العائلات التي انتحر أحد أفرادها بطريقة أو بأخرى، أغلبهم رفض أن تنشر قصصهم، خوفا من المجتمع، وجميعهم ينفون أنهم يعرفون سبب إقبال أقاربهم على قتل أنفسهم.

بصعوبة، وافقت فاطمة (اسم مستعار) أن تشارك قراء الجريدة قصة انتحار زوجها، تلك المرأة الستينية البسيطة والتي كان جسدها النحيف يرجف وهي تتذكر كيف وجدت زوجها معلقا في شجرة أمام بيته. كان جل ما تعرفه هو أنها وعائلتها لا تزال تعيش الصدمة.

قالت فاطمة والدموع بعينيها وبصوت مرتجف: “تناولنا طعام العشاء سويا، كما استيقظ باكرا وتناول وجبة إفطاره وخرج، تأخر… انتظرنا عودته ولم يعد، بعد ساعات خرجت فإذا بي أجده معلقا في الشجرة.. من هول الصدمة لم أتعرف عليه، فقمت بمناداة ابنتي للتأكد مما تراه عيناي”.

فاطمة، التي عاشت رفقة زوجها الراحل لأكثر من أربعين سنة، قالت إن الفقيد لم يكن يعاني شيئا بل كانت كل أحواله طبيعية؛ وهو ما تسبب بالصدمة لها ولأبنائها على ما قام به من فعل.

اتهام القنب الهندي

هسبريس التقت أكثر من فاعل بالمنطقة وعددا من السكان للسؤال حول أسباب الظاهرة، تعددت الأجوبة ما بين أسباب اقتصادية واجتماعية أو سيوسيوثقافية؛ لكن أغلب أصابع الاتهام أشارت إلى زراعة القنب الهندي بالمنطقة.

عبد الإله التازي، رئيس جمعية تلاسمطان للبيئة والتنمية، قال إن هناك ثلاثة جوانب أساسية تؤشر على تنامي ظاهرة الانتحار بشفشاون، أولها الظروف الاجتماعية التي أظهرت أن عملية زراعة القنب الهندي أثرت على العلاقات الاجتماعية مما أظهر الفردانية في الدواوير وبالتالي أصبحت صراعات داخل المجموعات القبلية؛ “وهي مسألة قللت من الروابط الاجتماعية وخلقت توترات اجتماعية”، حسب المتحدث.

ثم هناك الجانب الاقتصادي، قائلا إن “السكان تخلوا عن الأنواع الزراعية التي كانت لديهم، وبالتالي تم التركيز فقط على مورد واحد أساسي هو زراعة القنب الهندي؛ وهو ما أظهر هشاشته من الناحية البيئية وعلى النسيج الاقتصادي، والآن يظهر أن التراجع الاقتصادي لهذه النبتة ترك الساكنة رهينة بارونات المخدرات ورهينة اقتصاد هش أعطى هشاشة في ظروف عيشه”، ثم هناك الجانب النفسي.

من جانبه، قال علي الريسوني، العلامة ومؤرخ مدينة شفشاون، إن “الانتحار هو أن ينتقم الإنسان من نفسه، وهي ظاهرة موجودة في الدول الغربية؛ لكن الغريب أن تظهر في شفشاون وفي أماكن زراعة القنب الهندي”.

وتابع قائلا: “الإنسان في هذا العصر يريد أن يعيش فوق طاقته المادية، ومهما كان لديه من المال والإمكانات فهو يريد أكثر فأكثر، فيصدم بالواقع ويجد نفسه قد عجز عن تحقيق الآمال التي كان يريد”.

وأكد الريسوني أن التضييق على تجارة القنب الهندي، سواء عبر فرض مراقبة أكثر أو حتى إغلاق الحدود، جعل هؤلاء المزارعين يعيشون أزمة لا يجدون من مفر منها سوى بالانتحار.

وروى مؤرخ مدينة شفشاون تفاصيل سنوات قضاها بمنطقة باب برد بإقليم شفشاون كإمام وخطيب هناك، متحدثا عن كيف أثرت تجارة القنب الهندي على السكان.

وقال الريسوني: “كنت أرى أن الإنسان ليس هو الإنسان، وأن العادات تبدلت، وأن الإنسان الذي كان يقرأ القرآن صار يدخل عليه الأجنبي الهولندي والبلجيكي إلى بيته وإلى فراشه وإلى محله ويتبادل معه الأكل والشرب في محل نومه… هذا خرق لكل الأعراف بسبب التشوف إلى المال، ولو كان هذا المال يفضي إلى إزهاق أرواح الناس وقتل عقولهم”.

وفي هذا الصدد، لفت المتحدث ذاته إلى أن “الناس من أجل المال الذي يصبون إليه لا يهمهم أن يتناول المخدرات ملايين الناس ومئات الناس ويقتلهم القتل البطيء أو يقتل فيهم الرجولة أو يقتل فيهم العقل والقدرة على التميز”.

توقعات بارتفاع حالات الانتحار

التضييق على تجارة القنب الهندي وما خلفه من أزمة على مزارعيه بالمنطقة كان له وقع كبير على السكان، وتدهور الأوضاع الاقتصادية سيزيد من حدة ظاهرة الانتحار أكثر فأكثر في المستقبل القريب.

وفي هذا الإطار، توقع محمد التعون، أحد سكان إقليم شفشاون، أن ترتفع معدلات الانتحار في المستقبل القريب، قائلا: “الشباب لا يجد عملا، إضافة إلى إدمانهم والتضييق على تجارة القنب الهندي، كلها عوامل تدفعهم إلى التفكير فقط في حبل المشنقة اتجاه أي مشكلة تواجههم”.

من جانبه، قال عزيز المحساني، ابن هذه المنطقة الذي كان شاهدا على أكثر من عملية انتحار، إن الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها إقليم شفشاون تزيد من تأزيم الأوضاع، مؤكدا أنه لا وجود لأي فرص شغل، “نشتغل فقط خلال أشهر الصيف الثلاثة فقط بحكم السياحة الداخلية؛ فيما لا يوجد ما نقوم به خلال باقي شهور السنة، وحتى تجارة القنب الهندي التي كانت تنعش سكان المناطق الجبلية لم تعد تدر عليهم مداخيل مالية مهمة”.

تطبيع مع ظاهرة الانتحار

ما يزيد من انتشار ظاهرة الانتحار في إقليم شفشاون هو التطبيع معها؛ فتوالي الأخبار المتعلقة بانتحار أحد أبناء هذا الإقليم الجبلي كل يوم أو أسبوع بات يخفف من حدة وخطورة هذا الفعل، ويجعله سهلا لدى أناس آخرين.

هاجر الشليح، رئيسة جمعية نساء الرحمة للتنمية والتضامن بشفشاون، قالت إن “توالي أخبار الانتحار، سواء عبر المواقع الإخبارية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي كـ”فيسبوك”، جعل من هذا الفعل شيئا عاديا”، مؤكدة أن السكان باتوا يسمعون الخبر كأنه أمر عادي؛ وهو ما يزيد من انتشار الفعل في هذه الأوساط.

وتابعت الفاعلة الجمعوية ذاته قائلة: “هناك أشخاص تفكر في الوقت الحالي في الانتحار، وترى بأنه أنسب حل لها؛ وذلك نظرا للأوضاع الاقتصادية الخانقة بالإقليم”.

فكرة لحظية

الانتحار فكرة لحظية، لا تظل مع الإنسان ولا تسيطر عليه طيلة الوقت، وهذا ما يجعل المواكبة النفسية ضرورية لمن يحمل أفكارا انتحارية.

عادل الصنهاجي، الأخصائي النفسي، أكد أن هناك مؤشرات وعلامات تدل على الأفكار الانتحارية؛ مثلا الشخص الذي يقول “أنا شي نهار غادي نعلق راسي” لديه فكر انتحاري أو يقول “تمنيت الموت” أو “تمنيت لو لم أكن مولودا”.

الصنهاجي أوضح، في حديثه مع هسبريس، أن العبارات السابقة كلها تدل على أن صاحبها يرى الحياة بسوداوية؛ فيما هناك مؤشر ثان وهو العزلة عن المجتمع، مما “ينبئ بأنه قد يكون له أفكار انتحارية”.

وتحدث الأخصائي النفسي أيضا عن الإدمان الذي يمكن أن يؤدي إلى الانتحار، وأيضا من حاول الانتحار مرة أولى قد يكون هناك حالة عودة للانتحار مرة أخرى، وبالتالي يجب أن يخضع للمواكبة.

ونبه الصنهاجي إلى أن هناك أيضا بعض الأمراض النفسية التي تتزامن مع مرحلة من مراحل النمو؛ “مثل الأفكار المزاجية المتقلبة بشكل كبير، إذ قد يكون الشخص فرحا، وفي الحين ينقلب ويشعر باليأس والحزن، فهذا إنسان يحتاج مواكبة نفسية”.

وأفاد المختص بأنه من العلامات البارزة لدى المراهقين هناك التنمر وعدم تقبل التنمر من قبل الأصدقاء، فيما هناك أيضا الخوف المرضي من الموت الذي قد يكون أيضا من أسباب الانتحار والخوف من الفضيحة الاجتماعية، “إذ في المجتمع الشاوني كانت هناك نسبة من المنتحرات اللواتي حملن خارج إطار الزواج؛ وهو ما كان له تأثير عليهن”.

الإدمان والانتحار

من بين أسباب الانتحار هناك أيضا الإدمان، إذ يؤكد السكان أن الإدمان على أنواع رديئة من القنب الهندي كان سببا في إفقاد كثيرين لعقلهم وأدى بعدد منهم إلى الانتحار.

وفي هذا الإطار، قال المحساني: “إن هناك عددا من الشباب يقومون بخلط أنواع متعددة من المخدرات مما يصل به إلى درجة الهلوسة، بل ويظل يتحدث إلى نفسه”، مفيدا بأن هناك عددا من الشباب في القرى أصبحوا يتحدثون لأنفسهم طوال الوقت.

وأكد عادل الصنهاجي أن هناك بعض حالات الانتحار التي تتسبب فيها تناول الجرعات الزائدة وتعاطي المخدرات المشروبات الكحولية، مفيدا بأن “هناك ما يسمى بالهلاوس السمعية أو الهلاوس البصرية، إذ يتخيل الإنسان بسبب المخدر بعض الهلاوس البصرية يمكن أن ينساق وراءها ويكون الانتحار”.

تضافر الجهود

تتعدد الأسباب وتختلف، وبتعددها يجب تنويع مداخل الحلول ما بين الشق النفسي والاجتماعي والاقتصادي وكذلك الديني.

وفي هذا الإطار، قال الريسوني إنه يجب أن تتعاون وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وخطباء الجمعة وزارة الشباب والرياضة والمربون ووسائل الإعلام والأطباء النفسيون وغيرهم والسلطة المحلية من أجل التدخل بسرعة من أجل التوعية وإرجاع الإنسان إلى فهم الواقع.

وقال عادل الصنهاجي إنه من أجل تجنب حالات الانتحار وحماية السكان من الأفكار المرتبطة بقتل النفس لا بد من تحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية التي تكون عاملا محددا وخلق فضاءات للترفيه عن النفس.

وتابع: “الإنسان حينما تراوده فكرة انتحارية قد يكون أحيانا في حاجة فقط إلى من يتحدث معه، والتأنيب ليس دائما هو الحل للخلاص ولتوقيف الانتحار”.

من جانبه قال الجزولي: “في تقديري، الانتحار في شفشاون لم يعد ظاهرة؛ بل انتقل من ظاهرة تظهر وتختفي إلى معضلة حقيقية ينبغي أن نتعاطى معها بالصرامة والجدية المطلوبتين من جميع الفاعلين، سواء كانوا باحثين في علم الاجتماع وعلم النفس أو ساهرين على تسيير الشأن العام المحلي”.

حلول عديدة وتوصيات كثيرة للتخفيف من ظاهرة الانتحار بشفشاون توصلت إليها هسبريس؛ منها ما يرتبط بضرورة تنمية المنطقة وخلق فرص الشغل لأبنائها، وأخرى تتحدث عن محو الأمية المنتشرة بكثرة وخلق فضاءات للترفيه عن النفس، ويبقى أهمها ضرورة تعزيز البحث العلمي لفهم أكثر للأسباب.

[embedded content]

hespress.com