احتفت أسرة الأستاذ القاضي محمد مصلح بصدور مؤلفه “دفقات من معين سيرة ذاتية” (الصادر سنة 2013 / مطبعة الرسالة، الرباط)، فأقامت جلسة أسرية لتقديمه والتعبير عن حبها له والاعتزاز بهذا الإصدار.
إن هذه المبادرة الحضارية، وهذه الالتفاتة الأسرية لما حبّره قلمُ السيد الوالد تؤكد ما للبرور بالوالدين كقيمة خلقية من رُواء وبهاء، ومن قدسية نبّه الله تعالى إليها في محكم التنزيل أكثر من مرة “وبالوالدين إحسانا”، وهذا البرور دون شك وليدُ تنشئة حرص الأبوان عليها في تربية الأبناء، فكانت ثمرةُ هذه التربية حقوقا للوالد في الاحتفاء به والتعبير عن الحب الذي يكنونه له، وسط الأهل والأحباب والأصدقاء.
لقد آتتِ التربيةُ أُكلَهَا، وكان الوفاءُ للأبوين، والثَّمرَةُ عَقْدُ هذا اللقاء، وهذه الجلسةُ لتقديم مؤلف رأى فيه الأبناء واجبا عليهم القيامُ به، واعترافا بما كان لتكوينهم من ألقٍ أسهمتْ فيه شخصيةُ الوالدين معا، مؤكدين العمل وفق توجيهاتهما والالتزام بالقيم الخلقية التي درجوا عليها في فترات حياتهم أطفالا وشبابا.
وقد سبق لي أن سعدت بتقديم هذا الكتاب، الذي يضم كما ذكر المؤلف نبذة عن مساره تلميذا وطالبا وموظفا إداريا وقاضيا ورئيسا لمحاكم ومفتشا عاما لوزارة العدل “دفقات من معين سيرة ذاتية”. لقد فاجأتني ذاكرة المؤلف السيد مصلح لالتقاطها للكثير من الجزئيات وهو يروي الأحداث، ووجدتها ذاكرة حافظةً مستوعبة لماجريات حياة عاشها منذ النشأة، فتحدث عن طفولته ودراسته وتفوقه في المدرستين الابتدائية والثانوية (مدرسة النهضة بسلا ومدارس محمد الخامس بالرباط)، منوها بجهود الأساتذة ونضالهم من أجل تكوين فئات من الشباب الواعد، ومنوِّها بالخدمات التي أسداها المجاهد أبوبكر القادري رحمه الله لميدان التعليم، سواء في فترة دراسته أو بعد اشتغاله بمدرسة النهضة.
وبعد حصول السارد وهو الأستاذ مصلح على الشهادة الثانوية راودته فكرة الهجرة لمتابعة الدراسة بالخارج؛ لكن ظروف البلاد، وما كانت تعيشه من جبروت المستعمر وعنته دعته إلى تلبية طلب صديقه الأستاذ عبد الرحمن القادري رحمه الله لتدريس اللغة العربية ومادتي التاريخ والجغرافيا بمدرسة الأميرة لالة عائشة بباب احساين بسلا، وكانت تجربةً موفقة سعى بعدها إلى تحقيق أمنيته بمتابعة دراسته في إحدى دول الشرق العربي.
وتنقلنا مباحث هذه السيرة عبر منعطفات غير آمنة ومنعرجة، عانى خلالها نصبا ومشقة ومحنة منذ أن غادر مدينة سلا في اتجاه مدينة وزان فتطوان فمدريد فبرشلونة فمرسيليا فنابولي فالإسكندرية فبيروت إلى أن يسر الله الوصول إلى دمشق الفيحاء، فرج الله كربة أبنائها.
كان السيد مصلح وهو يحكي قصة رحلته مع زمرة من أصدقائه يتجول بالقارئ عبر المدن الكثيرة التي حطتْ عندها ركابُه قبل الوصول إلى دمشق، فيصفها ويتحدث عن جمال مآثرها وعن مسارحها ومقاهيها وأناقة شعوبها، وكأنه زارها البارحة فقط، لم يُخْفِ ما كان وصحبَه يشعرون به من مخاوف الطريق وأهوالها، كما لم يغفل الحديث عن الشخصيات التي كان لها الفضلُ في نجاح الرحلة، ومنهم المناضلُ المعلم أحمد الشاوي بمدينة وزان والأستاذان عبد الخالق الطريس وأحمد زياد بمدينة تطوان، والأستاذ عبد الكبير الفاسي بمدريد وغيرهم.
وبالوصول إلى دمشق، كان العمل من أجل الالتحاق بإحدى مدارس دمشق الثانوية، لكن تعذّرَ الانتسابُ إليها، فكان السفر إلى حلب الشهباء لمتابعة الدراسة الثانوية، وما واكب ذلك من إجراءات إدارية، للتسجيل في المؤسسة والحصول على سكن بالقسم الداخلي للمؤسسة إلى أن تحقق الأمل بالنجاح والحصول على شهادة الباكالوريا.
لم تكن الحياةُ ميسَّرَةً سهلة للمؤلف، ولم يكن الزاد متوفرا للتغلب على الصعاب والشدائد التي عانى منها سواءٌ قبل الرحلة إلى الشرق أو بعدها، وهو يسعى إلى تكوين شخصيته ومساعدة أسرته بعد وفاة والده.
فصولُ الكتاب تغري القارئ بالمتابعة، إذ يفصِّل كيف تأتَّى له العملُ من جديد بمدرسة النهضة كموظف إداري والتحاقه بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم التحاقه بوزارة العدل قاضيا فرئيسا لمحاكم في أكادير ومكناس فقاضيا ومستشارا قانونيا بسفارة المغرب بباريس لمتابعة علاج رفيقة دربه المرحومة لطيفة النجار، ثم مفتشا عاما لوزارة العدل ورئيسا لغرفة بالمجلس الأعلى، إلخ.
زبدةُ عمله في الهيأة القضائية كما عاشها بإيجابياتها وسلبياتها خلال ثلاث وأربعين سنة، رجلُ قضاء صارم، خبر المحاكمَ على اختلافها وتدرَّج في أسلاكها، وما استفاده من تجارب قضاة فرنسيين ومغاربة، منوها بالجهد المشكور الذي بذله الأستاذ عبد الهادي بوطالب وزير العدل سنة 1965 في ميدان مغربة القضاء وتعريبه وتوحيده.
التفصيلات كثيرة، أهمها كيف كان الطالب يعيش الظروفَ الصعبةَ ليدرس وينجح، كيف كانت المغامرةُ في طلب العلم مهمازا، كيف كانتِ الشجاعةُ وسيلة لمحاربة الخوف من المجهول، وكانت المعاناةُ وتجشُّمُ الصعاب، لم تكن الظروفُ مساعدةً لتحقيق كل الآمال، ولكن كان النضالُ من أجل النجاح المطيةَ التي يركبها الطالبُ متحديا الظروف والعراقيل عاملا على تجاوزها بثقة وصبر، وهو ما نفتقده اليوم بالنسبة لطلبتنا مع توفُّر كل وسائل الدعم المادي والتشجيع المعنوي.
ما يشدُّ القارئ إلى الكتاب هو الدقةُ في استحضار الأحداث والأخبار، والإشارة إلى الإخوة والأصدقاء الذين رافقهم في السفر والإقامة والعمل، جزئياتٌ كثيرة أثارها الأستاذ مصلح في هذا الكتاب، رغبةً منه في أن يُطلع أبناءه بالدرجة الأولى على جانب من حياته لا يعرفون تفاصيلها، ولا يعرفون معاناته إلى أن حقق لهم حياة مطمئنة هنية.
يتميز الكتاب / السيرة بلغة مشرقة، وأسلوب سلس واضح، فلا يشعر القارئ بأي مجهود وهو يقرأه، بل يشعر بالرغبة في متابعة القراءة، وهذا ما حصل لي مع أول قراءة للكتاب في مسوَّدته، بل وجدتُ نفسي أعيد القراءة مرات ومرات، منوهةً بهذه الذاكرة الحافظة، وكأن الأحداث وليدةُ اللحظة، مع أن عقودا من الزمن طوتها، فصول الكتاب منتظمة، زيّنتها أبيات شعرية جميلة كعناوين منتقاة، مما يؤكد ذائقته الشعرية وحبه للغة العربية.
وقد وفّق الشاعر المبدع مولاي علي الصقلي رحمه الله في نظم هذه السيرة شعرا رائقا يتكون من ستة وثلاثين بيتا من بحر الرمل ورويٍّ ساكن هو النون، يتعذر على شاعر آخر أن ينحُوَ هذا المنحى خاصة أن اللغة طيِّعة في قلمه، وأن القالب الشعري مناسب لمضامين السيرة، فينساب متموجا حركيا كما هي حياة المؤلف، وهو دون شك أعجب بهذا النص وبراعة صاحبه في مروياته مع أنه بعيد عن الكتابة الأدبية، فهو رجل قانون ورجل قضاء؛ لكن رصيده اللغوي والمعرفي منذ دراسته الابتدائية والثانوية كانا له مطية ليكتب سيرته وكأنه متمرس بالكتابة الأدبية، سواء تعلق الأمر بالسرد والوصف الدقيق لسفرياته وتنقلاته وإعجابه بالطبيعة أو بتفاصيل حياته المهنية وما عاناه من مضايقات وعراقيل كان يتغلب عليها بالصبر وحسن التسيير، والمتابعة لسير الأعمال في مختلف المهام القضائية التي أنيطت به.
يقول الشاعر علي الصقلي منوها بهذه السيرة:
باركوها “دفقاتٍ من معينْ سيرةٍ ذاتيةٍ”، دُون قرينْ
دفقاتٌ قد توالتْ حِقبا ومعينٌ سالَ مِدْراراَ سنينْ
ويختم قصيدته بقوله:
إيهِ يا مُصلِحُ، لا أغْلو إذا أنا سَمَّيْتُكَ قطبَ المصلحينْ
لأيادٍ لكَ بِيضٍ، كمْ تَشي بكَ ذا فضلٍ على المُسْتَنْورينْ
وكفَى أنَّكَ مَنْ عزَّ بِهِ روضُ نادي الأربعا دُنْيا ودينْ
لِتَدُمْ خيْرَ نَصوحٍ صادقٍ في ذَراهُ آمِن َ النَّفسٍ أمينْ
لكنني، وقبل الختام، أود أن يسمح لي الأستاذ المحتفى به في بيته ومع أبنائه وأسرته وأصدقائه، وأستأذنه بإثارة نقطة ساخنة كنت أود أن يعالجها بما عهدته فيه من قوة تذكُّر واستحضار من خلال هذه المحكيات، وهي حياته الخاصة بمشاعرها الدافئة وحميميتها مع زوجه وأبنائه، أن يحدثنا عن عواطفه ومساحتها وسط هذا الكمّ من الأحداث في بلاد الغربة أو بعدها في مرحلة الشباب، عن جلسائه وأصدقائه، عن كل ما يثير فضول القارئ للتعرف إليه في جبَّة أخرى، هي جبةُ الشاب المرح الطموح، في بلاد الشام حيث فورة الشباب وجُبَّة الشاب بعد العودة إلى المغرب وقد أقبل على حياة جديدة تم فيها اختيار رفيقة الدرب، وبعدها جبةُ الإنسان المسؤول في أسرته وعمله. أرجو أن يفكر في هذا الطلب، ويتحفنا بالجزء الثاني من هذه السيرة كلحظات دافئة ينتعش بسردها والحديث عنها، ويتحفنا بروايتها.
××××××××××××××××
ومع الأسف لم يمهله القدر ليحدثنا عن هذا الجانب الذي أشرت إليه، وما كل ما يتمنى المرء يدركه، فهو دون شك كان حاضر البديهة، ولا يمكن أن يغفل بعض الجزئيات التي تخص حياته في مرحلة الشباب، فوافته المنية وما يزال في جعبته الكثير، ما يمكن أن يطلعنا على جانب آخر من حياته، سواء في المشرق أو في المغرب؛ لكنها إرادة الله تعالى ولا مرد لقضائه، فكانت وفاته في هذه الظروف الصعبة يوم الاثنين 25 جمادى الثانية 1442 / 8 يبراير 2021، رحمه الله وأحسن إليه، إنا لله وإنا إليه راجعون.