اعتبر سمير بنيس، الخبير في الشؤون الدبلوماسية، أن أي رد فعل انفعالي من طرف الحكومة المغربية على “مشكل العرجة بفجيج” كان سيخدم مصالح النظام الجزائري، مؤكدا أن المملكة ليست من الدول التي تجنح إلى التصعيد في تعاملها مع دول الجوار.

وشدد بنيس في مقال توصلت به هسبريس، عنونه بـ”المغرب يدفع ثمن حسن نيته التاريخية مع الجزائر”، أن أي رد غير محسوب من المغرب على أحداث فجيج كان سيكون بمثابة فرصة ذهبية للجزائر للتنديد بالسياسة “التوسعية” للمغرب وعدم احترامه لمقتضيات القانون الدولي.

ونبه الخبير المغربي إلى أن قرار الحكومة الجزائرية يعد انتهاكًا للقانون الدولي ويتعارض مع روح ونص اتفاقية الاستيطان الموقعة بين البلدين في الجزائر العاصمة في 15 مارس 1963.

إليكم نص المقال كما توصلت به هسبريس:

أثار قرار الحكومة الجزائرية بعدم السماح لحوالي 30 عائلة مغربية من فجيج، خصوصا في منطقة العرجة، بالاستمرار في التواجد ببساتين النخيل في المنطقة المتاخمة للمغرب غضب الرأي العام المغربي، غضب رافقته انتقادات حادة من طرف بعض “المؤثرين” في مواقع التواصل الاجتماعي للحكومة المغربية، متهمين إياها بالتنصل من مسؤوليتها في حماية التراب الوطني والدفاع عن المغاربة المتضررين من هذا القرار.

لوضع النقاش في سياقه التاريخي، هناك بعض التفاصيل تستوجب التوضيح. أولا، تجدر الإشارة إلى أنه بموجب اتفاقية الحدود الموقعة بين البلدين في يونيو 1972، على الرغم من حيازة المزارعين المغاربة لملكية هذه الأراضي، فلم يكن بإمكان المغرب التدخل في هذه القضية؛ لأن تلك الأراضي توجد داخل التراب الجزائري. يمكن الحديث عما إذا كان المغرب قد اتخذ القرار الصائب حينما قرر التوقيع على تلك المعاهدة والمصادقة عليها بعد عشرين سنة على الرغم من أن الجزائر أخلت بمقتضياتها، إلا أن ذلك نقاش آخر لا يسعنا الحديث عنه في هذا المقال. ما هو مؤكد هو أنه يجب على الدولة المغربية التحرك بسرعة من أجل جبر الضرر لدى هؤلاء المزارعين وإيجاد بديل قابل للتطبيق وقادر على تعويض الخسائر الاقتصادية التي تعرضوا لها.

من جهة أخرى، علينا قراءة تعامل المغرب وامتناعه عن الرد بانفعال مع هذا القرار المفاجئ والمستهجن على ضوء الأهداف السياسية التي تسعى الجزائر إلى تحقيقها. إن أي رد فعل انفعالي من طرف الحكومة المغربية كان سيخدم مصالح النظام الجزائري، ونحن نعلم أن المغرب ليس من الدول التي تجنح إلى التصعيد في تعاملها مع دول الجوار، كما أن المغرب يعلم ما تسعى إليه الجزائر، وبالتالي، فهو يتعامل معها من هذا المنطلق، مع الأخذ في عين الاعتبار أن أي تصعيد غير مسبوق في التوتر بين البلدين ليس في مصلحة المغرب.

ينبغي قراءة رد الرباط الرصين والمعتدل على أنه نابع من معرفتها المسبقة بخبث النظام الجزائري وحرصه على استعمال ورقة “العدو المغربي” كلما ما مر بأزمات داخلية تهدد استمراريته. إن المغرب على وعي تام بأن القرار المفاجئ والظالم للجزائر بمنع المزارعين المغاربة باستغلال أراضيهم يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:

أولاً: لا يخفى على أحد أن النظام الجزائري يمر بإحدى أصعب الأزمات السياسية منذ استقلال الجزائر، ويواجه نفوراً من الشعب الجزائري الذي يريد التخلص منه من أجل بناء دولة مدنية تضمن لهم حقوقهم وسبل العيش الكريم. في هذا السياق، فإن ورقة العدو المغربي واستعمال المغرب كتلك الفزاعة التي تسعى إلى المساس بالمصالح الحيوية للجزائر يعتبر أحسن وسيلة كان بإمكان النظام الجزائري اللجوء إليها من أجل التلاعب بالرأي العام الجزائري وصرف نظره عن مشاكله الداخلية. بناءً على ذلك، فإن أي رد فعل غير محسوب أو مبالغ فيه من طرف المغرب كان بإمكانه أن يؤدي إلى تأجيج الوضع وعلى الأقل وقوع حرب إعلامية شرسة بين البلدين، وهو ما كانت تعول عليه الجزائر لاستغلاله لخلق جو من الاحتقان والعداء ضد المغرب في صفوف الرأي العام الجزائري ودفعه إلى الالتحام وراء جيشه للدفاع عن مصالح الجزائر.

ثانيًا: كان بإمكان أي خطوة انفعالية من طرف المغرب – على سبيل المثال إدانته لاتفاقية 1972 أو مناشدة الحكومة الجزائرية لفتح مفاوضات حول وضع المناطق في جنوب شرق المغرب والتي أصبحت جزائرية بموجب هذا الاتفاق – أن تكون بمثابة هدية للحكومة الجزائرية. ففي هذا السيناريو، كانت الجزائر ستسارع لاتهام المغرب بمحاولة الاستيلاء على أراضيها وستسارع لإبلاغ الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي بموقف الرباط “العدواني” و”غير المقبول” تجاه وحدة وسلامة أراضيها. بعبارة أخرى، أي رد غير محسوب من المغرب على أحداث فجيج كان سيكون بمثابة فرصة ذهبية للجزائر للتنديد بالسياسة “التوسعية” للمغرب وعدم احترامه لمقتضيات القانون الدولي وإعادة إحياء السردية الزائفة التي لطالما روجت لها الجزائر منذ خمسة عقود والتي مفادها أن الصحراء لا تشكل إلا الشجرة التي تخفي الغابة بخصوص الأهداف التوسعية للمغرب في شمال إفريقيا.

ثالثا: منذ أخبرت المزارعين المغاربة بقرارها، عملت الجزائر جاهدة على نشر أخبار زائفة وشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي حول عدم تفاعل الحكومة المغربية مع هذا القرار وتقاعسها عن إعطاء ضمانات للمزارعين بأنها ستعمل على حماية حقوقهم. وقد كان الهدف الرئيسي لهذه السردية هو خلق جو من الاحتقان والسخط ضد الدولة المغربية وتعبيد الطريق نحو ظهور حركة احتجاجية مماثلة لتلك التي نشأت عقب الحدث المأساوي في الحسيمة عام 2016 أو أحداث جرادة عام 2017.

انتهاك القانون الدولي

بصرف النظر عن نوايا الحكومة الجزائرية، فإن قرارها يعد انتهاكًا للقانون الدولي ويتعارض مع روح ونص اتفاقية الاستيطان الموقعة بين البلدين في الجزائر العاصمة في 15 مارس 1963. وتنص المادة 5 من الاتفاقية المذكورة على تعهد “كل واحد من الطرفين في نطاق التشريع والنظام المطبقين على مواطنيه أن يعترف لمواطني الطرف الآخر بالممارسة الحرة لجميع الحقوق الاقتصادية والمساواة في الضرائب والحق في الملكية العقارية والمهن المنظمة”.

وتم تعديل هذه الاتفاقية بمذكرة التفاهم التي وقعها البلدان في 15 يناير 1969 في إفران. كما أضاف البروتوكول المعدل أحكامًا أخرى إلى المادة 5. وفقًا للنسخة الجديدة من الاتفاق، يمكن لمواطني البلدين “التوفر بكل حرية على أموال منقولة وغير منقولة والانتفاع بها وممارسة جميع حقوق الحيازة والملكية والتصرف طبقا لنفس الشروط الجارية على المواطنين”.

علاوة على ذلك، ينص الاتفاق على أنه لا يجوز لأي طرف مصادرة ممتلكات رعايا الطرف الآخر إلا في حالات المصلحة العامة أو وفقًا للقانون. في مثل هذا السيناريو، تنص الاتفاقية على استفادة “مواطني كل بلد من البلدين على وجه المساواة في البلد الآخر من نفس الضمانات التي يخولها القانون والمحاكم والسلطات الأخرى للمواطنين بخصوص حماية أشخاصهم وممتلكاتهم”.

وبالتالي، فإن منع الجزائر للمزارعين المغاربة من استغلال أراضيهم هو انتهاك للقانون الدولي، لا سيما أن الاتفاقية لم يتم التنديد بها من قبل أي من الأطراف المتعاقدة. وإن الحالة الوحيدة التي يمكن فيها للجزائر مصادرة هذه الأراضي دون انتهاك أحكام الاتفاقية المذكورة هي إذا قامت بذلك لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، وهو ما لم يقع في هذه الحالة؛ فالجزائر تدعي أنها اتخذت ذلك القرار لمحاربة كوفيد-19، في حين أن بساتين النخيل المعنية تقع في منطقة نائية نادراً ما يصل إليها الجزائريون. وحتى لو افترضنا بأن الجزائر قد اتخذت هذا القرار لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، فعليها أن تلتزم بروح ملحق المادة 5 من اتفاقية مارس 1963. وفقًا لهذه المادة، إذا قام أحد الأطراف بمصادرة ممتلكات مواطني الطرف الآخر، ينبغي أن يفعل ذلك في “مقابل تعويض عادل يُدفع في أجل معقول ويباشر بطلب من المعني بالأمر”.

ويبدو جليا أن الجزائر لم تلتزم بأي من الشروط المنصوص عليها في الاتفاقية بخصوص نزع الملكية وفقا للقانون؛ وهو ما يدل على أن قرارها سياسي بحت وهدف الأساسي منه هو استغلال محنة المدنيين العزل واستخدامهم كوسيلة لاستفزاز المغرب وإشعال فتيل التوتر بين البلدين لتقوية جبهتها الداخلية ونسف الزخم الذي يتمتع به الحراك الشعبي.

الإخلال بالالتزامات: عقيدة الدولة الجزائرية

رغم أن قرار الحكومة الجزائرية صادم ويتحدى القيم النبيلة لحسن الجوار، فإنه ليس مفاجئًا على الإطلاق، بل يعكس تقليدا دأبت عليه الدولة الجزائرية وهو عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه المغرب. فمنذ فجر استقلالها، فشلت الحكومة الجزائرية في الوفاء بالتزاماتها الواردة في الاتفاقية الموقعة في 6 يوليو 1961 بين الملك الحسن الثاني ورئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فرحات عباس، بحضور محمد بن بلة الذي أصبح فيما بعد أول رئيس للجزائر المستقلة.

وحسب نص الاتفاقية، الذي نشره المغرب في سبتمبر 1963، اعترفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بأن مشكلة الحدود الناتجة عن الترسيم الذي فرضته فرنسا يجب حلها من خلال المفاوضات بين المغرب والجزائر المستقلة. علاوة على ذلك، أقر عباس بأن الاتفاقات المبرمة بين فرنسا والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لا يمكن استعمالها كذريعة لرفض الدخول في مفاوضات مع المغرب بخصوص مسألة الحدود؛ غير أن الحكومة الجزائرية أخلت بتعهداتها بالتفاوض مع المغرب على هذه المسألة. الأكثر من ذلك أنها قررت في شهر غشت 1963 عدم السماح لبعض مغاربة الولوج إلى بساتين النخيل التي كانوا يملكونها في الأراضي التي أصبحت تحت السيادة الجزائرية. وفي العام نفسه، طردت عدداً من التجار والعمال المغاربة العاملين في القطاع الفلاحي. وشكلت هذه الحادثة وقرار الرئيس هواري بومدين في 9 ديسمبر 1975 بطرد 45 ألف مغربي من الجزائر وتجريدهم من ممتلكاتهم انتهاكًا لاتفاقية 1963 المعدلة في عام 1969، وبالتالي انتهاكا للقانون الدولي. ويظهر سلوك الدولة الجزائرية هذا أن الطبقة الحاكمة في الجزائر لم تتخلص بعد من عدائها الدفين للمغرب ومن ميلها إلى استعمال محن ومأساة المدنيين كورقة لتصريف إحباطها وتذمرها كلما تسبب لها المغرب في نكسة دبلوماسية أو اتخذ خطوات مصيرية للحفاظ على وحدته الترابية وإحباط مخططاتها.

وينم هذا السلوك عن استياء النظام الجزائري من المكتسبات الدبلوماسية التي حققها المغرب خلال السنوات الأربع الماضية؛ فسواء تعلق الأمر بعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وتحييده للأجندة الجزائرية أو فتح قنصليات 20 دولة في العيون والداخلة مؤخرًا أو اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادته على الصحراء، يبدو أن المغرب أصبح يأخذ بزمام المبادرة أكثر من أي وقت مضى وأصبح هو الطرف الذي يفرض النسق في أجندة النزاع بين البلدين والذي يحقق المكتسبات الدبلوماسية الواحد تلو الآخر.

استعمال فزاعة العدو المغربي لتقوية الجبهة الداخلية

من خلال رغبته في استغلال مأساة المزارعين المغاربة، راهن النظام الجزائري على استعمال ورقة العدو الخارجي من أجل تشتيت تركيز الرأي العام الجزائري وصرف نظره عن مطالب الحراك الشعبي- الذي يهدف إلى التخلص من الطبقة العسكرية والسياسية التي حكمت البلاد منذ ستة عقود- وتوجيه غضبه نحو “العدو المغربي” الذي يسعى، حسب الخطاب الرسمي الجزائري، إلى النيل من مصالح الجزائر وإلحاق الأذى بها.

فهذه ليست هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الجزائر المغرب كوسيلة لتعبئة الرأي العام وتحويل أنظاره عن مشاكله الداخلية. وينبغي التأكيد أن الهجمات التي نفذها الجيش الجزائري على الحاميات المغربية في حاسي البيضا وحاسي تنجدوب في شهر أكتوبر1963 – والتي أدت إلى ما يسمى “حرب الرمال” – سعت إلى تحقيق الهدف نفسها، وهو تعزيز الجبهة الداخلية وتعبئتها ضد العدو الأجنبي. ولعل خير دليل على ذلك أن تلك الهجمات وقعت يومي 8 و9 أكتوبر 1963، أي بعد 10 أيام من اندلاع مظاهرات حاشدة في منطقة القبائل بقيادة العقيد محند ولد الحاج ومحمد آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية. وبالتالي، فإن الهدف من هجوم القوات الجزائرية على القوات المغربية كان هو صرف نظر الشعب الجزائري عن المشاكل الداخلية التي تمر منها وتعبئته وراء الحكومة الجزائرية ضد العدو الأجنبي. ولم تتردد الحكومة الجزائرية آنذاك في اتهام المغرب بالرغبة في استغلال هشاشة الجزائر من إلحاق الأذى بمصالحها. وإن الهدف من المقولة الشهيرة للرئيس بن بلة “المراركة حكرونا”، بعد تلك المواجهات هو خلق سردية المظلومية وإيهام الرأي العام الجزائري بأن بلادهم محل أطماع أجنبية؛ بينما كل الوثائق التاريخية تثبت بأن الجزائر هي من قامت بالاعتداء على المواقع المغربية، وأن كل ما قام به المغرب هو ردعها واسترجاع سيطرته على منطقتي حاسي البيضا وحاسي تنجدوب خمسة أيام بعد تعرضها للهجوم الجزائري. وقد نجح النظام الجزائري آنذاك في تحقيق هدفه، إذ فور استعمال بن بلة لتلك المقولة، أوقف محند أولحاج حركة التمرد التي قادها في منقطة القبائل وقرر ضم خمسة فيالق من قواته للجيش الجزائري مستعملاً مقولته الشهيرة “الجزائر قبل كل شيء”.

وعلى غرار ما جرى قبل ستة عقود، يظهر جلياً أن النظام الجزائري لا يزال ينهل من المقاربة نفسها في نظرته إلى علاقاته مع المغرب ويسعى إلى خلق مناخ معاد لهذا الأخير بهدف تحقيق تلاحم الشعب الجزائري خلف طبقته السياسية خلال هذه الفترة الحساسة التي يمر منها.

إن العلاقة بين المغرب والجزائر هي علاقة حب من طرف واحد. فكلما اتخذ طرف خطوات حسنة النية لتوطيد علاقاته مع الطرف الآخر والتعايش معه، كلما انغمس الآخر في تعميق العداء وزرع الأحقاد ضده، مما يجعل التعايش والاحترام والوفاق المتبادلين أمرًا مستحيلًا.

في حوار صحافي مع مجلة Jeune Afrique عام 1985، قال الحسن الثاني إن “مأساة المغرب تكمن في أنه كان عليه مواجهة قوتين استعماريتين: فرنسا وإسبانيا”. بالإضافة إلى هذه المأساة، فإن مأساة المغرب تكمن في أن الجغرافيا وضعته إلى جانب بلد تتميز طبقته الحاكمة بجحودها وأنه تعامل بحسن نية ونبل معها وقدم تضحيات كبيرة لهذا البلد وسعى جاهداً إلى إرساء أسس الوحدة والازدهار المشترك في المنطقة المغاربية ليكون جزاؤه في آخر المطاف هو حقد الطرف الآخر وحرصه على تبني سياسة عدائية وغير عقلانية هدفها الرئيسي هو إضعاف المغرب والحيلولة دون تحقيقه لوحدة أراضيه.

hespress.com