انتشر، يوم الأحد الماضي، على مواقع التواصل الاجتماعي، شريط لشاب ارتأى أن يحوّل سكّة أحد خطوط “الطرامواي” بمدينة الدار البيضاء إلى مكان لاحتساء فنجان قهوة، حيث وضع طاولة وكرسيا وانتظر اقتراب عربة الطرامواي فجلس يشرب القهوة ويدخن.

مقطع “الفيديو” أثار ردود فعل واسعة، صبّ أغلبها في انتقاد الشاب صاحب الفعلة، كما ذهب البعض إلى اعتبار سلوكه ينم عن “قلّة الترابي”، بينما أرجع الشاب المعني سلوكه، كما هو مدون في “تدوينة” منسوبة إليه، إلى رغبته في التعبير عن أن “الشباب المغربي خاصة والعربي عامة باستطاعته أن يوقف أي شيء، وهذا في إطار ما نتعرض له من مناورات إسبانية وصهيونية”.

في هذا الحوار مع سعيد بنيس، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، نضع سلوك الشاب مُعترض الطرامواي تحت مجهر السوسيولوجيا، بحثا عن تفسير لسلوكه “المتهور”.

كيف يمكن تفسير السلوكيات المتهورة التي يُقدم عليها بعض الشباب، كحالة الشاب الذي اعترض عربة “الطرام” بالبيضاء؟

السبب راجع إلى كون هذه الفئة العمرية، في جميع المجتمعات، تسعى إلى أن تكون مميّزة عن باقي الفئات. من حيث اللغة، على سبيل المثال، فإن لغة الشباب تختلف عن لغة الفئات العمرية الأخرى.

ومع طفرة الثورة الرقمية يُلاحَظ أنّ ما كان يميز بين الفتيات والفتيان انتفى، إذ أصبح الجنسان يستعملان نفس الخطاب والكلمات والسلوكيات. من هذا المنطلق فإن الرغبة في التميز بين فئات المجتمع تعطي مثل هذه السلوكيات.

السلوك الذي قام به الشاب الذي اعترض مسار “الطرام” في مدينة الدار البيضاء يدخل في إطار البحث عن التميز والتفرد داخل المجتمع.

ومن خلال “التدوينة” المنسوبة إلى هذا الشاب نفهم أن غايته من سلوكه هي إيصال فكرة تتعلق بما يتعرض له الشباب المغربي والعربي، “من مناورات إسبانية وصهيونية” كما قال، فعمد إلى فعلته من أجل إثارة الانتباه.

من هذا المنطلق، فهذا الخطاب يعكس أن الشباب أصبح يهتم بالاندماج في الحياة المجتمعية والسياسية، ولكن الطريقة التي تم بها هذا الانخراط كانت خاطئة وفيها تهور؛ فلو لم يتمكن سائق “الطرام” من فرملة العربة فماذا كان سيكون مصير ذلك الشاب؟ علاوة على أنه تسبب في تعطيل مرفق عام ومصالح الناس.

ألا يعكس هذا التصرف، أيضا، غياب هوامش للتعبير في وجه الشباب المغربي؟

أظن أن المسألة ليست مرتبطة بغياب هامش حرية التعبير، بل مرتبطة بنوع جديد من التعبير ينهل من العالم الافتراضي الرقمي، أي إننا لا نعبِّر من أجل التعبير، بل نعبر من أجل مشاركة التعبير “Partager”.

هذا التعبير الجديد لا يعتمد على إيديولوجيا وأفكار، بل يعتمد على ما أسميه إيماجولوجيا “Imagéologie”، أي إنه تعبير متعدد الوسائط، فيه الصورة والفيديو والكلمات…

إذن الإشكال ليس في انتفاء هامش الحرية، بل في طريقة التعبير عن الأفكار التي فيها نوع من المغالاة. وهذه الطريقة كانت سببا في وقوع حوادث خطيرة نجم عنها أحيانا هلاك أشخاص أرادوا التقاط صور “سيلفي” في أماكن خطرة.

وإجمالا يمكن القول إن نوعية وطريقة التعبير مع الثورة الرقمية الجديدة هي التي أفضت إلى هذه الانزلاقات، ولا يمكن إرجاع سببها إلى ضيق مجال الحرية، لأن هامش الحرية موجود في العالم الافتراضي، لكن طرق التعبير عن هذه الحرية هي التي تجب مساءلتها.

هل تحرّض الثورة الرقمية الشباب على الإقدام على مثل هذه السلوكيات الخاطئة؟

يجب الإقرار بأن الفضاء التناظري الرقمي بشكل عام له جانبان متناقضان، الأول إيجابي، يرمي إلى نشر ثقافة التضامن والرفع من مستوى النقاش العمومي والمطالب المواطِنة… لكن هناك جانب رمادي لهذا الفضاء الأزرق أفضى إلى جعله وعاء لخطاب الكراهية ولثقافة العنف.

من هذا الباب يمكن تفسير السلوك الذي أدى بالشاب الذي اعترض طريق عربة “الطرام” بالدار البيضاء، عن حسن نية أو عن سوء نية، إلى اقتراف ذنب يعاقب عليه القانون المغربي بعقوبة من خمس إلى عشر سنوات سجنا، ومن ثمّ إلى ضياع مستقبله، لأن مدة العقوبة ليست سهلة، ولا أحد يُعذر بجهله للقانون، كما تقول القاعدة القانونية.

هنا ينبغي طرح جملة من الأسئلة: هل نحن بصدد احتباس قيمي؟ هل تراجع دور محاضن التربية والتنشئة، وفي مقدمتها الأسرة ثم المدرسة ثم الجامعة والجمعية والحزب والنقابة والأصدقاء والأقران… هل القيم التي يمكن أن يؤسَّس عليها العيش المشترك وكذلك بناء المواطن الإيجابي قد انتفت، لاسيَما مع طفرة وتعدد مصادر التنشئة التي تأتينا من العالم الافتراضي؟.

استعمل الكثيرون عبارة “قلة الترابي” للتعليق على صورة الشاب الذي اعترض “الطرام” بالبيضاء. هل هذا الإشكال مطروح في مجتمعنا؟

لكي نفهم عبارة “قلة الترابي” فهي مرتبطة بإشكال يعود إلى القيم التي تُبنى عليها المدرسة؛ وهنا ينبغي التأكيد على أن المدرسة ينبغي ألا تُبنى فقط على مبدأ ربطها بسوق الشغل، ولكن ينبغي ربطها كذلك بسوق القيم وممارسة الفكر النقدي واجتناب التقليد وزرع روح المسؤولية، حتى نستطيع أن نبني صرحا جديدا لمواطنة إيجابية ولهوية مواطِنة، بصيغة “تمغربيت” جديدة تقوم على السلوكيات والقيم الإيجابية التي تحترم الآخر وترسخ العيش المشترك وتقوي الرابط الاجتماعي.

hespress.com