أصبح الغش في الامتحانات يستأثر بحيز مهم من النقاش العمومي عند نهاية كل موسم دراسي خلال السنوات الأخيرة، حتى صار فعل الغش “ظاهرة” تسم الامتحانات الإشهادية.

فهل يعكس الاهتمام المتزايد بالغش في الامتحانات، خاصة في وسائل الإعلام، استفحال هذا السلوك؟ ولماذا يلجأ التلاميذ والطلبة “الغشاشون” إلى الغش في سبيل النجاح في الامتحان؟ ومن هو التلميذ “الغشاش”؟ وما السبيل إلى الحد من الغش في الامتحانات؟

هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها، في هذا الحوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، الدكتور فوزي بوخريص، أستاذ باحث في علم الاجتماع ونائب العميد في الشؤون البيداغوجية بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ جامعة ابن طفيل القنيطرة.

عند نهاية كل موسم دراسي يحظى الغش في امتحانات الباكالوريا بتغطية إعلامية وباهتمام واسع من طرف الرأي العام الوطني، فهل يعني ذلك أن الغش صار ظاهرة ملازمة لامتحانات الباكالوريا؟

بدأ موضوع الغش في الامتحانات المدرسية والجامعية يحظى بتناول إعلامي واسع خلال السنوات الأخيرة، ليس في بلادنا فقط؛ بل في كل الدول، خصوصا عندما يقترب موعد إجراء الامتحانات الإشهادية (الباكالوريا بشكل خاص…)..

وإذا أخذنا هذه الامتحانات بالضبط، أي الباكالوريا، فالغش فيها قديم قدم الامتحان نفسه، فقد انطلق تقريبا مع إحداث هذا الامتحان في فرنسا، منذ بدايات القرن التاسع عشر.

كما أن ظاهرة الغش لا تميز المغرب فقط، بل هي ظاهرة منتشرة في العديد من بلدان العالم، وهي لا تستثني حتى الأنظمة التعليمية المتقدمة، ولا حتى المؤسسات التعليمية المرموقة؛ فجامعة مثل هارفارد، مثلا، ليست بمنأى عن انتشار الظاهرة.

ربما ما هو جديد في الظاهرة، خصوصا في وقتنا الراهن، هو توظيف الأدوات والموارد الرقمية، خصوصا الأنترنيت والهاتف أو التقنيات الذكية، في الغش؛ هذه التقنيات التي تيسر أكثر عملية الغش، وتجعل من أمر رصد حالات الغش أمرا صعبا، إن لم نقل مستعصيا أحيانا.

يسود انطباع بأن الغش في الامتحانات أصبح ظاهرة عامة، أي أن جل التلاميذ والطلبة يغشون؛ هل تتفقون مع هذا الطرح؟

مع الأسف، بعض المواقع الإلكترونية، المحسوبة على الصحافة الرقمية، تمعن في تقديم عينة من التلاميذ، محترفي الغش، والذين يتفاخرون بغزواتهم وباستعراض أساليبهم في الغش، والذين مع الأسف يحضرون للامتحان من أجل أن يغشوا، لا غير.

والمثير للاستغراب في هذه التغطيات المغرضة لظاهرة الغش هو اقتصارها على تلك العينة من التلاميذ “الغشاشين”، وتغييبها عمدا لصورة التلميذ المجد والمثابر والنزيه، والذي يؤمن بالتنافس الشريف ويرفض سلوك الغش؛ بل يشتكي من الغش، وينافح عن مبدأ تكافؤ الفرص في الامتحانات.

يتم الحديث بإسهاب عن الغش دون تحديد معناه في الكثير من الأحيان، فماذا نقصد بظاهرة الغش في الامتحانات؟

الغش، عموما، هو شكل من أشكال الالتفاف أو خرق القواعد القانونية أو الأخلاقية، بهدف تحقيق امتياز غير قانوني.

والغش ظاهرة منتشرة في كل المجالات. في ميدان التربية والتكوين الذي يهمنا هنا، لكن أيضا في ميادين الرياضة، والأعمال، والسياسة… إلخ.

ومبدئيا، الغش هو جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني. والرهان على إلغاء الغش تماما من المجتمع يفترض وجود وعي راسخ، رافض لفكرة الغش، لدى جميع أفراد المجتمع، في المدرسة والمقاولة والإدارة…. إلخ. والحال أن مثل هذه الامتثالية غير قابلة للتصور في أي مجتمع إنساني (إلا إذا كان مجتمع ملائكة)، فكيف في مجتمع إنساني معاصر قائم على التمايز واللاتجانس والتفاوت والتنافس.

هل يقتصر الغش في المدرسة على الامتحانات فقط؟ أم أن هناك مجالات أخرى يمارس فيها الغش؟

الغش في المدرسة أشمل من الغش في الامتحانات؛ لأنه يتضمن كل أشكال الغش التي تجري في خضم الأنشطة المدرسية، سواء داخل المدرسة (خلال فروض المراقبة المستمرة أو الواجبات المدرسية) أو خارجها، عند إنجاز الواجبات المدرسية في المنزل.

في هذا الصدد، يلاحظ بأن التلاميذ يلجؤون أكثر فأكثر إلى الأنترنيت لإنجاز أنشطتهم المدرسية داخل الأسرة، وخلال هذا الاستعمال يحضر الغش بشكل واسع لإنجاز الواجبات المدرسية من ملفات وعروض وكتابة الإنشاء. كما يلجأ التلاميذ الى الغش في المدرسة عند إنجاز الواجبات المدرسية في القسم.

طبعا، يتم التركيز كثيرا على الغش أثناء الامتحانات الإشهادية، بالنظر إلى الرهانات التي تمثلها بالنسبة إلى الأسر، وبالنسبة إلى الوزارة الوصية، بل وبالنسبة إلى الدولة والمجتمع ككل؛ الأمر الذي يفسر أيضا التركيز الكبير للإعلام التقليدي والجديد على ظواهر الغش.

لماذا هذا الاهتمام الكبير بظاهرة الغش في الامتحانات الإشهادية، وأية رهانات ترتبط بالامتحان؟

نندهش للمكانة التي يشغلها الامتحان المدرسي، والامتحانات الإشهادية بشكل خاص، في المخيال الشخصي والاجتماعي.

فالامتحانات الإشهادية هي بالنسبة إلى الممتحنين تجارب مؤسسة، مشكلة لنفسية الفرد وتترك آثارها في الشخصية. يكفي أن يفكر كل واحد منا في عدد الليالي التي سهرها وكم من المجهودات بذلها وكم كلفه كل ذلك ماديا ومعنويا.

فالامتحان المدرسي يشبه كل طقوس المرور التي تميز مجريات حياة الإنسان واللحظات المفصلية في هذه الحياة، والتي تشكل في كل مرة اختبارا لقدرات الفرد، ومصادقة على تلك القدرات من أجل الانتقال من قسم أو مستوى إلى آخر، بل ومن عالم مدرسي إلى آخر: هذا الانتقال في الزمان والمكان.

لقد كان بيير بورديو محقا عندما اعتبر الامتحان المدرسي بمثابة طقس مؤسسة rite d’institution، لأن الأمر يتعلق بطقس يحيل إلى مسألة جوهرية، تتعلق بشرعية الاختبارات وشرعية الحكم الذي يتمخض عنها. الشرعية هنا تتعلق بعوامل عديدة، أهمها: سلطة الممتحنين والهيئات التي تعينهم، وصلاحية المعارف والقدرات الخاضعة للتقويم، ومصداقية التقويم ومعايير ومصداقية الأحكام والنتائج.

يلاحظ أن الامتحانات الإشهادية تكتسي هالة خاصة، كما هو الحال بالنسبة إلى امتحان الباكالوريا؛ ما يجعل مسألة الغش تصير قضية الوزارة الوصية على قطاع التعليم ككل، وربما قضية الدولة، ولم تعد قضية المؤسسة التعليمية فقط. لماذا؟

لعل هذا الطابع المؤسساتي للامتحان هو الذي يفسر انشغال المسؤولين الكبير بسمعة الامتحان، وحرصهم البالغ على الحفاظ على سمعة الامتحان ومصداقيته، من خلال بذل كل الجهود حتى لا يتم المساس بالمحكمين، وبنزاهة المترشحين، ونجاعة الاختبارات وموضوعية الحكم.

ولهذا السبب يخضع تنظيم الاختبارات وتحديد النتائج للتقنين والضبط الصارمين، واللذين يصيران مع مرور الوقت أكثر فعالية وإكراهية ودقة. الأمر الذي يفسر مثلا حرص الساهرين على تنظيم الامتحان على الوقاية وعلى محاربة الغش ومتابعته، إذ ينبغي الحفاظ على سرية المواضيع والتحقق من هوية المترشحين والمراقبة الصارمة للاختبارات وغيرها من الإجراءات والتدابير التي لا ينخرط فيها مهنيو التربية والتكوين وحدهم، بل تشمل تعبئة وزارة الداخلية وقوى الأمن والدرك… إلخ.

ما هي أهم أشكال وأساليب الغش التي توظف في الامتحانات؟

انطلاقا من الأبحاث الميدانية التي قاربت ظاهرة الغش في العديد من البلدان، من الممكن القيام بجرد، غير حصري، للأساليب الأكثر تداولا في الغش خلال الامتحانات، والتي يمكن تصنيفها إلى أربع فئات أساسية:

– أساليب “النقل والاستنساخ”؛ وتشمل نقل التلميذ من ورقة إجابة تلميذ مجاور له، أو استخدامه لورقة تسويده. ويعمد هنا التلميذ إلى نقل مجهود الغير، وتقديمه وكأنه عمله شخصي.

ـ أساليب “التزييف والانتحال”؛ وتتضمن على الخصوص انتحال شخص ما لهوية تلميذ آخر. وتنتشر هذه الأساليب خصوصا في الامتحانات التي تعرف مشاركة أعداد كبيرة من المترشحين، تجعل من المتعذر التحقق من هويات المترشحين.

ـ أساليب “التعاون غير القانوني”؛ وتتم بين التلاميذ أثناء الامتحان، إما بمساعدة تلميذ لتلميذ آخر، بإعطائه الجواب، وبتقسيم العمل بين مترشحين عديدين.

ـ أساليب توظيف بعض الدعامات غير المسموح بها، مثل استعمال الأوراق المصغرة، أو توظيف آلة حاسبة ذكية، أو هاتف ذكي، إلخ..

ويتم التمييز في هذه الدعامات غير القانونية بين الدعامات التقليدية (أوراق مصغرة مثلا) وبين الأدوات والموارد الرقمية (هاتف ذكي، سماعة ذكية، لوحة إلكترونية، ساعة ذكية أو أي جهاز يربط بالأنترنيت…الخ).

وتوظف تقنيات الغش الرقمية، من أجل تخزين الدروس (المكتوبة أو المصورة من قبل)، والبحث عن تعريف أو معلومة مباشرة على الأنترنيت، ولبعث السؤال إلى شخص آخر، وتلقي الجواب عبر رسالة قصيرة أو إلكترونية… إلخ.

وتجدر الإشارة إلى أن أساليب الغش الكلاسيكية (الأواق المصغرة) لا تزال معتمدة، ولو أن الهواتف النقالة والأجهزة المتطورة بدأت تنتشر أكثر فأكثر.

ولعل سهولة استعمال الهواتف الذكية وقدرتها على التخزين، إضافة الى ارتباطها بالأنترنيت، كلها عوامل أتاحت للتلاميذ فرص غش جديدة وغير مسبوقة، لا سيما أن التلاميذ عموما يتحكمون بشكل كبير في هذه التقنيات الجديدة.

وينبغي أن نشير إلى أنه غالبا ما يتم معاقبة التلاميذ الذين يضبطون في حالة غش بكيفية مرئية بقرائن مادية (دعامات ورقية أو رقمية)؛ بينما الذين يغشون “بمهارة وحذق وفعالية” يفلتون غالبا من أي رصد أو عقوبة.

هناك حاجة اليوم في بلادنا إلى الانكباب على دراسة ميدانية حول الظاهرة من أجل فهم أعمق وأفضل لمختلف أشكال وأساليب الغش، وللدوافع التي وراء اللجوء إلى الغش، وللخصائص السوسيوديموغرافية لمن يلجأ إليه.

برأيكم، لماذا يلجأ التلاميذ إلى الغش في الامتحانات؟ وما هي الأسباب المفسرة للظاهرة؟

الأبحاث النظرية والميدانية حول ظاهرة الغش في الامتحانات تفسر اللجوء إلى فعل الغش وفقا لتصورات نظرية عديدة. فحسب نظرية الفعل العقلاني مثلا، الحاضرة كثيرا لدى الاقتصاديين، يقرر التلاميذ أم لا الغش تبعا لمردودية الفعل وخطر العقاب (ثنائية الربح والخسارة)؛ فالغش يمكن أن يعتبر فعلا منحرفا، يمليه قرار عقلاني يتخذه الأفراد تبعا للتكاليف والأرباح المنتظرة منه. فأرباح الغش سهلة التصور: نقطة جيدة في مادة ما أو مواد عديدة، يمكن أن تؤدي إلى الحصول على معدل مرتفع، بل والحصول على شهادة وبالتالي حظوظ أفضل للولوج إلى الشغل.

أما التكلفة فمن الصعب إدراكها، لأنها تتعلق بخطر الضبط، وبحجم العقوبة وتطبيقها؛ لكن عموما يغش التلميذ إذا بدا له أن فعل الغش ذاته سهل، واحتمال أن يضبط ضعيف. كما يغش لأن المعارف التي سيمتحن فيها كثيرة جدا (غلبة منطق الكم) ومعقدة وغير قابلة للفهم وعسيرة على الحفظ، وتتطلب استثمارا مهما في الوقت. لهذا، يلجأ بعض التلاميذ إلى الغش لرغبتهم في ربح الزمن، بتقليص الوقت المخصص للدراسة، قياسا إلى الوقت المخصص للترفيه والأنشطة الثقافية والحرة.

على العموم، يفترض هذا التصور النظري أن الغش يتراجع إذا كانت الحراسة مشددة وإذا كان هناك تحقق صارم من هويات المترشحين ومن منجزهم، وتشديد للعقوبات في حالة المخالفة.

وبالاستناد إلى أعمال روبرت مرتون، يشير بعض علماء الاجتماع الوظيفيين إلى الهوة المتزايدة بين التطلعات إلى النجاح المدرسي والاجتماعي، وواقع التفاوتات الاجتماعية التي لا تمنح لكل واحد وسائل بلوغ النجاح المدرسي، ثم الاجتماعي. فكما أشار فرانسوا ديبي: “كلما كانت التفاوتات بين المواقع الاجتماعية قوية، كلما قلت إمكانية تحقيق المساواة في الحظوظ، لأن المسافة التي يتعين قطعها من طرف أولئك الذين يصعدون من أسفل كبيرة، بينما أولئك المهددون بالنزول الكثير سيفقدون إذا لم يلجؤوا إلى الغش”. كما أنه عندما يتطلع التلاميذ إلى أن تكافؤ مجهوداتهم بنقطة “عادلة”، ولا يتحقق ذلك، فهم يشعرون بالإحباط الذي قد يدفعهم إلى الغش.

وإجمالا، عندما لا تعاش المدرسة كمؤسسة ديمقراطية، يسهل أن يتعلم التلاميذ بسرعة التحايل والغش والانتقام. فبما أنهم يعلمون أنه لا يتم الإنصات إليهم وأن حقوقهم غير محترمة، يتعلمون التقاعس عن القيام بأي واجب وينخرطون في نوع من المقاومة الصماء والعنيدة للراشدين ولقواعدهم ومعاييرهم.

ويشير عدد من الباحثين إلى أن الغش في الامتحانات لا ينفصل عن عدد من الممارسات المنحرفة déviantes الأخرى؛ فالتلاميذ الذين يغشون في الجامعة، مثلا، سبق لهم أن غشوا في التعليم الثانوي، وهم المهيؤون أكثر للقيام بسرقات علمية في التعليم الجامعي.

ويتساءل بعض الباحثين حول ما إذا كانت قيم عصرنا، التي تلقي بثقلها على منظومتنا التعليمية، لا تمثل تربة خصبة لانتشار الغش؛ فالقيم النيوليبرالية التي تعلي من شأن التنافس الشرس والطموح الجارف للنجاح، والسعي وراء السلطة، والإيمان بأن الغاية تبرر الوسيلة… إلخ، كلها مبادئ تدفع إلى اعتبار الغش سلوكا مقبولا، خصوصا أن الأفراد لا يترددون في اقتراف سلوكات مشينة، عندما يكون بإمكانهم تبريرها وعقلنتها… والحال أن ترسانة القيم النيوليبرالية تقدم كل أشكال التبرير للغش في المدرسة أو خارجها.

من هو التلميذ “الغشاش”؟

مبدئيا، لا يوجد تلميذ يغش بالطبيعة. لا يولد التلميذ “غشاشا”، بل يصير كذلك، عن طريق سيرورة تنشئة اجتماعية. والدليل على ذلك هو أن العديد من الأبحاث الميدانية أثبتت أن طلبة المستويات الدراسية الأدنى يغشون أقل من طلبة المستويات الدراسية الأعلى؛ وذلك بالنظر إلى أن ممارسة الغش تتطلب أولا تعلم القواعد والانتظارات والمواقف والأساليب المتعلقة بالغش.

فهناك “تربية على الغش”؛ فسلوكات الغش مثل باقي السلوكات المدرسية الأخرى التي نعتبرها “سوية”، فهي تنتج عن تعلم لتقنيات الغش، وتعلم للدوافع والحوافز والمواقف المشجعة على الغش، وتعلم للتبرير ولعقلنة فعل الغش، وأهم دائرة يتم فيها هذا التعلم هي جماعة الأقران المتواطئين على الغش؛ ذلك أن التلميذ يتعلم، عبر التفاعلات مع أفراد هذه الجماعة، تحديد ما يدخل ضمن الغش وما يخرج عن إطاره. ويبدأ في تبرير اللجوء إلى الغش، ويتعلم إدراك واستعمال أدوات الغش، والاستعانة بمحيطه، إذا دعت الضرورة إلى ذلك، خصوصا إذا كان هذا المحيط مشجعا ومتواطئا على الغش.

بماذا يتفرد التلميذ “الغشاش” عن أقرانه في المدرسة؟

لقد أبرزت جملة من الدراسات الميدانية أن سلوكات التلاميذ الذين ينزعون أكثر إلى الغش باستعمال الأدوات والموارد الرقمية تتميز بانخراط أقل في الدراسة. هؤلاء التلاميذ لهم إستراتيجيات تعلم ضعيفة، ولا ينخرطون كثيرا في الأنشطة المدرسية، ويخصصون وقتا أقل للعمل المدرسي الشخصي وللاحتكاك بالأدوات الخاصة بالمؤسسة المدرسة (كتب مدرسية، دفاتر دروس…)، وبالمقابل يفردون وقتا أكثر لأشكال الترفيه الرقمية (ألعاب فيديو، موسيقى، شبكات اجتماعية، أفلام…)، ونجدهم يستعملون هذه الأدوات الرقمية حتى خلال الأنشطة المدرسية داخل القسم، على حساب تتبع الدروس… هذا، على عكس التلاميذ الذين يلجؤون إلى أساليب الغش التقليدية، مثل الغش بالأوراق المصغرة.

ففي هذه الحالة (استعمال الأوراق المصغرة) يتطلب الغش بالضرورة عملا قبليا لقراءة الدروس ولانتقاء المعلومات وحدا أدنى من الكفايات المدرسية، غير المطلوبة، وغير الضرورية من أجل الغش بهاتف ذكي، بما أنه من الممكن تخزين كل الدروس في ذاكرة الهاتف أو الحصول مباشرة على الجواب من الأنترنيت.

ما العمل لمواجهة ظاهرة الغش؟ وأي إستراتيجية يمكن للمؤسسات التعليمية ولوزارة التعليم اعتمادها لمواجهة هذه الظاهرة؟

مع الأسف، إذا استثنينا الحملات الموسمية التي تنطلق مع كل امتحانات إشهادية، والتي تركز أكثر على الإجراءات والتدابير الرامية إلى الكشف عن الغش ومعاقبة المتورطين فيه، أكثر منه إلى الوقاية منه، تظل المؤسسات التعليمية التي تتبنى سياسة فعلية وشمولية ومنظمة لمحاربة الغش قليلة جدا.

فعلى هامش الامتحانات فقط، والامتحانات الإشهادية بشكل خاص، يتم التذكير أو لنقل التلويح بعقوبات قانون الغش، وتعبئة اللجان والإجراءات الهادفة إلى الحد من انتشار أو استفحال الظاهرة، بل ويتم التضخيم الإعلامي للظاهرة، بشكل يتجاوز بكثير ما يحدث فعلا على مستوى الواقع.

ولا شك في أن مواجهة ظاهرة معقدة، مثل ظاهرة الغش في الامتحانات، تتطلب عددا من المداخل البيداغوجية والديداكتيكية والايثيقية والتنظيمية والسياسية… إلخ. المطلوب هو بلورة “ميثاق الامتحانات”، يحدد حقوق وواجبات كل الفاعلين المعنيين خلال الامتحانات، كما خلال مختلف العمليات التعليمية التعلمية، من تلاميذ وطلبة وأساتذة وإداريين، أي ميثاق يحدد من يقوم بماذا ووفق أي كيفية ولأي غاية… إلخ.

لكن المطلوب أيضا اعتبار المدرسة مكانا للتعلم والارتقاء، بدلا من أن تصير مكانا للاختبار المتواصل وللتحقق الدائم من أداء التلميذ، ومن مدى امتثاله للأطر المرجعية التي تتحول إلى ما يشبه الكتاب المقدس.

محاربة الغش تقتضي تغيير العلاقة مع النقطة ومع التقويم، ووضع حد لسياسة التكرار؛ ففي أنظمة تعليمية لبلدان مثل فنلندا والنرويج، لا يتم التكرار لأسباب مدرسية، وإنما فقط عندما تكون هناك مشاكل صحية أو اجتماعية (فقدان قريب…).

وكما هو معلوم، يمكن لبعض أشكال التقويم أن تقي من الغش، بأن تجعله أمرا مستحيلا أو على الأقل بلا فائدة تذكر (مثل اقتراح مواضيع للفهم والتفكير…)، فهذه الأشكال من التقويم تتيح التحقق من المهارات والمعارف، لكن فيها يصعب لجوء الطالب إلى الغش…

وأخيرا، ينبغي تقليص الرهانات المصاحبة لعملية التقويم، لا سيما في الامتحانات الإشهادية؛ فمشكل الغش يحيل إلى منظومة تقوم على التنافس الشديد والانتقائية المفطرة، الأمر الذي يشجع على اللجوء إلى الغش.

فعندما يكون الرهان هو الحصول على معدل وميزة عاليين في الباكلوريا، يخولان الولوج إلى إحدى مؤسسات الاستقطاب المحدود (كليات الطب، والهندسة، الاقسام التحضيرية…). وعندما يتأسس المجتمع ككل على الترابط الوثيق بين التفوق المدرسي والارتقاء الاجتماعي، وتبنى المدرسة على أساس التنافس الشرس المعدلات والشهادات، وعلى منطق الاعلاء من شأن الذكاء المنطقي-الرياضي-اللغوي… في مقابل ندرة متزايدة للمواقع والمناصب في سوق الشغل، ففي هذه الحالة حتى التلاميذ النجباء يمكن أن يغريهم الغش، ليس من أجل النجاح والحصول على المعدل في الامتحان، وإنما بغاية مضاعفة الحظوظ في انتزاع معدل جيد.

hespress.com