قال عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، إن “الاستعمال المفرط لصور حادث سبتة هو دليل على رغبة حكومة سانشيز في تشتيت انتباه الرأي العام العالمي حول التستر على مجرم بصك اتهامات خطيرة؛ وهو ما يبرره توظيف صور أغلبها مفبرك لاستمالة عطف بعض المنظمات الحقوقية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، وجعل الأمر وكأن جوهر الأزمة هو الهجرة غير الشرعية”.

وأضاف بوصوف، في مقال له بعنوان “حكومة سانشيز والتدبير الكولونيالي لورطة كبير عصابة “البوليساريو””، أن “رواية حكومة سانشيز لأحداث يوم 18 ماي مردها بالأساس إلى خسارة سبتة ومليلية المحتلتين من جراء إقفال نقطة التماس مع الفنيدق، ومنع التهريب المعيشي، وإفلاس العديد من الشركات الإسبانية بالمدينتين المحتلتين سنة 2019، وما خلفه ذلك من ضغط من طرف حاكمي سبتة ومليلية على حكومة مدريد من أجل الضغط على الرباط لرفع المنع”.

وجاء ضمن المقال ذاته أن “حكماء الدولة الإسبانية وحقوقييها وإعلامييها ومثقفيها مطالبون اليوم بالضغط على حكومة سانشيز، من أجل تقديم المدعو غالي/ بن بطوش إلى العدالة الإسبانية؛ لأن المصالح الإستراتيجية لإسبانيا والمغرب هي عنوان كبير للمستقبل واستقرار منطقة حوض المتوسط”.

وهذا نص المقال:

نُسب إلى السياسي البريطاني الشهير “ونستون تشرشل” قوله: We have no lasting friends, no lasting enemies, only lasting interests، ومفاده أنه في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك فقط مصالح دائمة، وهو قول أثبتت صِحته العديد من الوقائع التاريخية كما أثبتت صحته وتيرة العلاقات وطبيعتها بين دول عاشت صراعات قوية، ثم تحولت تلك الصراعات إلى علاقات ودية وتعاون كبير؛ لكن ما بين مرحلة الصراع ومرحلة التعاون تجري العديد من الأحداث تحولت بِتكرارها إلى “دليل مكتوب un guide” يمكننا من خلاله توقع واستشراف الآتي من الأحداث.

فما نعيشه الآن من فبركة الأحداث ومحاولة تهريب النقاش في ملف مطالبة المغرب السلطات الإسبانية بتطبيق مبدأ استقلالية القضاء الإسباني وفصل السلط دون التأثير عليها، وتقديم زعيم “البوليساريو” إلى العدالة الإسبانية؛ لأنه، أولا، دخل إسبانيا وفضاء شينغن بهوية مزورة، ثم التحقيق معه ثانيا في جرائم ثقيلة لا يطالها التقادم وهي الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية… وما نعيشه من بهرجة إعلامية وتسخير جرائد بعينها معروفة بعدائها للمغرب ولرموزه ولقضاياه وبفتحها المجال أمام حصريا لفاعلين سياسيين بأيديولوجيات عنصرية متطرفة… كل هذا يهدف إلى تصوير المغرب “كعدو داخلي” للإسبان؛ وهو ما فضحته الوقفة “الممسرحة” أمام التمثيليات الدبلوماسية المغربية بإسبانيا، مع العلم أن المغرب لم يحاول التدخل في القضاء الإسباني ولكنه يطالب فقط بتطبيق مبدأ إنساني كوني يتعلق بحماية حقوق المتقاضين وفي المحاكمة العادلة، ومن ثمة بإنصاف الضحايا وتحقيق العدالة.

كما أن الاستعمال المفرط لصور “حادث سبتة” هو دليل آخر على رغبة حكومة سانشيز تشتيت انتباه الرأي العام العالمي حول التستر على مجرم بصك اتهامات خطيرة؛ وهو ما يبرره توظيف صور أغلبها مفبرك لاستمالة عطف بعض المنظمات الحقوقية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي من جهة، وجعل الأمر وكأن جوهر الأزمة هو الهجرة غير الشرعية؛ في حين أن المشكل الحقيقي هو إيواء حكومة اليسار الإسباني لزعيم المرتزقة وبرمجة تهريبه إلى أسياده من جنرالات الجزائر أو تحصينه في سفارة الجزائر بمدريد الراعي الرسمي لإقامة زعيم المرتزقة بإسبانيا.

لكن من المجحف قراءة توظيف تلك الصور بطريقة مبتورة عن سياقاتها، ومن المؤسف اعتماد القراءة الإسبانية لتلك الأحداث بشكل أحادي وكأنها وحي منزل. كما أن اختزال المشكل انطلاقا من يوم 18 ماي فقط أي أحداث سبتة وليس منذ 18 أبريل أي تاريخ تهريب زعيم “البوليساريو” بمستشفى إسباني بهوية مزورة يعتبر تضليلا للرأي العام الإسباني والأوروبي بصفة عامة.

فرواية حكومة سانشيز لأحداث يوم 18 ماي مردها بالأساس إلى خسارة سبتة ومليلية المحتلتين من جراء إقفال نقطة التماس مع الفنيدق ومنع التهريب المعيشي وإفلاس العديد من الشركات الإسبانية بالمدينتين المحتلتين سنة 2019، وما خلفه ذلك من ضغط من طرف حاكمي سبتة ومليلية على حكومة مدريد من أجل الضغط على الرباط لرفع المنع.

وفي الوقت نفسه كانت مدينة الفنيدق قد شهدت تنظيم احتجاجات والمطالبة بإيجاد بدائل اقتصادية (فبراير 2021)، وهو الأمر الذي دأبت السلطات المغربية على معالجته تدريجيا. كما وصل أكثر من مائة مهاجر غير شرعي إلى مدينة سبتة سباحة (أبريل 2021) سرعان ما تم إرجاعهم بتنسيق مع السلطات المغربية. وهي أحداث لم تعرف كل هذا الصخب الإعلامي والتوظيف السياسي من طرف البلد الجار، على الرغم من أنها تتقاسم الصفة نفسها مع أحداث سبتة ليوم 18 ماي 2021، أي هجرة غير شرعية.

لكن الملاحظ هو أن الصخب والتجييش الإعلامي والسياسي والحقوقي في إسبانيا سقط في فخ الذاتية مرة أخرى، بحيث لم تتم تغطيته بالموضوعية اللازمة لتشمل صور تعنيف المهاجرين داخل المياه من طرف القوات الإسبانية، ولم يتسع مجال التغطية لرصد صور تعنيف الأطفال العزل على شاطئ سبتة، ولم يتسع ليوثق صور الضرب داخل البحر، ولم تلتقط عدسات إعلام الحرس المدني الإسباني صور القتلى واكتفت فقط باستغلال صور بعض الأطفال من أجل جذب تعاطف الرأي العام الأوروبي؛ وهي خطة مكشوفة تنم عن ازدواجية المواقف لدى حكومة اليسارين الجدد في إسبانيا التي تستغل المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، والتي يعتبر الحق في التنقل واحدا من عناصرها، عندما تريد تلميع صورتها، ولكن سياستها في الواقع متناقضة كليا مع هذه المبادئ، بحيث خصصت بشكل عملي أرصدة مالية خيالية من أجل تقوية وكهربة أسلاك الجدار لتجعل منه أعلى جدار في العالم (بعلو 10 أمتار و12 كيلومترا بمليلية و8 كيلومترات بسبتة). وبتكلفة تجاوزت 17 مليون أورو فقط في عهد حكومة سانشيز، وقبله 35 مليون أورو في عهد حكومات سابقة.

لقد أصبح جدار العار في سبتة ومليلية نقطة مركزية في كل البرامج الانتخابية بإسبانيا، مع العلم أنه إجراء حمائي مخالف لحقوق الإنسان ولم يستطع صد تدفقات الهجرة غير القانونية بالمدينتين المحتلتين. وهكذا، سجل تاريخ فبراير من سنة 2018 تنظيم عملية هجرة جماعية لحوالي 300 فرد أغلبهم من جنوب الصحراء، وقبلها يوم 6 فبراير من سنة 2014 شهد معبر “تراخال” بسبتة فضيحة إنسانية ذهب ضحيتها 15 قتيلا، بعد أن استقبلت عناصر الحرس المدني الإسباني مهاجرين منحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء والرصاص المطاطي والقنابل المسيلة بالدموع وهم يحاولون الوصول سباحة إلى سبتة مما تسبب في غرقهم، وهي الكارثة التي توبع على إثرها 16 من أفراد الحرس المدني، قبل أن يتم إخلاء سبيلهم فيما بعد!

وفي السياق نفسه تم العثور على 16 جثة لرجال ونساء من جنوب الصحراء في فبراير من سنة 2018 على شواطئ مليلية المحتلة، بعد محاولتهم الفاشلة للعبور إلى المدينة. كل هذه حوادث مأساوية سجلتها منظمة الهجرة العالمية في تقاريرها السنوية؛ منها تقريرها السنوي لسنة 2017، الذي كشف عن وقوع 223 حالة وفاة صفوف الحالمين للعبور عبر سبتة ومليلية المحتلتين.

وبلغة الأرقام، يتبين أن المنطقة عرفت العديد من الأحداث المماثلة لتنظيم عمليات هجرة جماعية، مصحوبة بمآس إنسانية من قتلى ومفقودين، سرعان ما تغيبها عدسات الكاميرات وتلتفت تقارير المنظمات الحقوقية إلى أشياء أخرى؛ لكن الأمر يختلف مع أحداث سبتة ليوم 18 ماي 2021، فقد كان لا بد من الإفراط في توظيف مآسي مهاجرين من جنوب الصحراء وبعض المغاربة من أجل تغيير دفة الاتهام ضد الحكومة الإسبانية وتسترها على “هارب” من العدالة إلى اتهام المغرب بالابتزاز.

فعن أي ابتزاز يتكلمون مع توفرهم على أعلى وأخطر جدار في العالم؟ وعن أي ابتزاز يتكلمون والمغرب يلتزم في كل مرة بتطبيق اتفاقية سنة 1992 (في عهد حكومة فيليبي غونزاليس) وذلك بإرجاع المهاجرين غير القانونيين داخل أجل 10 أيام؟ فالمغاربة يعرفون جيدا من هو المبتز والمتاجر في قضاياه الإستراتيجية، وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية.

لقد أعلن المغرب، في أكثر من مناسبة، أنه ليس “دركيا” ولا يمكنه القيام بمهام الحرس المدني الإسباني المدجج بأحسن آليات المراقبة وآخر صيحات التكنولوجيا؛ لكن الهدف الحقيقي من كل هذه الضجة الإعلامية والسياسية وإقحام ملفات مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين كحدود جنوبية لأوروبا وليس لإسبانيا هو استمالة الاتحاد الأوروبي من أجل الضغط على المغرب أمام ضعف حجة إسبانيا في مسألة تقديم زعيم المرتزقة إلى العدالة الإسبانية.

ولأنه لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في مجال السياسة، فإن حكماء الدولة الإسبانية وحقوقييها وإعلاميها ومثقفيها مطالبون اليوم بالضغط على حكومة سانشيز من أجل تقديم المدعو غالي / بن بطوش إلى العدالة الإسبانية؛ لأن المصالح الإستراتيجية لإسبانيا والمغرب هي عنوان كبير للمستقبل واستقرار منطقة حوض المتوسط.

ومن المهم استحضار مبدأ الدفاع المشروع عن السيادة؛ فموقف المغرب الحازم اتجاه إسبانيا لا ينبني على مبدأ العداء للجار الشمالي أو ضرب مصالحه العليا، ولكنه رد فعل طبيعي لاستقبال الحكومة الإسبانية والتستر على هوية شخص متورط في جرائم ضد الإنسانية ذهب ضحيتها مواطنون مغاربة وإسبان.. وبالتالي، فهو مطلوب للعدالة كما سبق، بالإضافة إلى أن هذا الشخص يتزعم تنظيما انفصاليا عسكريا يحمل السلاح في وجه المغرب.. وبالتالي، فإن سلوك إسبانيا يعتبر تحاملا على المغرب، خصوصا أن حجة “الدواعي الإنسانية” التي يحاول يساريو مدريد الجدد بواسطتها دس الرماد في عيون الرأي العام لا تبرر في أي حال من الأحوال تحويل “مستشفى لوغرونيو” إلى قاعدة عسكرية خلفية تجتمع فيها قيادات “البوليساريو” الانفصالية وتخطط فيها وتصدر منها تعليماتها إلى عناصرها التي تحتجز أشخاصا أبرياء في تندوف، وتتاجر في مأساتهم.

صحيح أن عروض “سوناطراك ” الحكومية المغرية تسيل لعاب شركات أوروبية؛ ومن بينها شركة البترول “ريبصول” الإسبانية… وصحيح أن “سونطراك” هي أول مزود لإسبانيا من البترول والغاز الطبيعي، والثالث للاتحاد الأوروبي بعد كل من روسيا والنرويج.

لكن المغرب، كبوابة للعمق الإفريقي وللأسواق الإفريقية أمام المنتجات الإسبانية وكفرص للاستثمارات الإسبانية وكشريك إستراتيجي لأوروبا في محاربة الهجرة والإرهاب الدولي والجريمة المنظمة، يشكل قيمة مضافة دائمة وموثوقة في إطار علاقات الجوار المبنية على الاحترام المتبادل وشراكات قائمة على التوازنات الجديدة في معادلات العلاقات الدولية والتخلص من “عقلية التدبير الكولونيالي”؛ لأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس.

hespress.com