سطر نابليون بونابرت انتصارات عديدة وخاطفة. فهذا القائد الذي توفي قبل 200 عام، عرف برؤيته الاستراتيجية الاستثنائية، ويُعد تاريخيًا من كبار المخططين العسكريين على الرغم من أنه هُزم للمفارقة في ميدان المعركة، عسكريًا وسياسيا.
موهبة مبكرة
بعد أن التحق بكلية بريان العسكرية، بدأ الشاب الكورسيكي مسيرته المهنية في سلاح المدفعية، ومنه صعد بسرعة حتى رُقي إلى رتبة جنرال وهو بعد في الرابعة والعشرين من عمره.
بعد تعيينه قائدًا عامًا للقوات الفرنسية في إيطاليا على الرغم من افتقاره إلى الخبرة، قاد بونابرت الحملة العسكرية عام 1796 ضد النمساويين، التي تعد واحدة من منجزاته الاستراتيجية. بعد معارك ريفولي وبون داركول ثم الحملة المصرية في 1798، تحول نابليون إلى بطل عسكري.
منذ بداية توليه مهام القيادة، أقام علاقة وثيقة مع رجاله الذين كان يبث فيهم الحماسة بلا كلل. ومما يُستشهد به من خطاب توجه به إلى قواته في مارس 1976 في إيطاليا قوله: “أيها الجنود، أنتم عراة ولا تحصلون على ما يكفي من الطعام والحكومة مدينة لكم بالكثير ولا يمكنها أن تعطيكم أي شيء … أريد أن أقودكم إلى أخصب سهول العالم. وهناك ستحظون بالشرف والمجد والثروة”.
توسيع ميدان المعركة والسرعة
لم يترك الإمبراطور الفرنسي أي مؤلف مرجعي يشرح تفكيره الاستراتيجي، هو الذي ورث الأفكار العسكرية التي نشأت في نهاية النظام البائد وخلال الثورة الفرنسية. لكن تماسك نظامه وانسجامه يتبدى في الأوامر التي أصدرها إلى قواته ومراسلاته ومخطوطاته.
شرح ميشيل روكو، مدير الصناديق الخاصة بإرث نابليون في قسم المحفوظات التاريخية لدى وزارة الدفاع، قائلا: “نحن نخرج من التعثر التكتيكي في آخر أيام النظام القديم والمعارك التي كانت تجري عبر صفوف جامدة، للانتقال إلى المعارك المتنقلة، المتحركة”.
وأضاف أن “قوة نابليون تكمن في أنه فكر في الأمر من منظور واسع: التداخل بين فرق الجيش المختلفة ومبدأ خرق صفوف العدو في المعارك من خلال تركيز القوات وتطبيق ذلك على ميادين القتال الواسعة”.
وذلك بفضل التخطيط الدقيق وجمع المعلومات عن تحركات العدو والتفوق في الرجال والمعدات حيث سيتم خرق صفوف العدو ونظام الفرق العسكرية، والمعسكرات الخفيفة وتخفيف معدات المشاة إلى الحد الأدنى. هذا الإسقاط السريع الذي أتاح لبعض الوحدات اجتياز أكثر من 40 كيلومترًا في اليوم، ما مكن نابوليون من مفاجأة خصمه.
واستخدم هذه الميزات في بعض الأحيان للتعويض عن تدني عدد الجنود، كما حدث في أوسترليتز (1805) أو فريدلاند (1807). كما حظي جيشه الكبير بعشرات الآلاف من الجنود المتمرسين من قدامى المحاربين في معارك الثورة.
المعركة الحاسمة
هذا الإسقاط، إضافة إلى تركيز القوات عند نقطة محددة، أتاح له إيجاد ما يسميه “المعركة الحاسمة التي ستؤدي إلى قرار يفضي إلى المعاهدة التي ستسمح له بعد ذلك بفرض سياسته الأوروبية”، وفق ما يقول ميشال روكو.
يعرض أنطوان جوميني، أحد مؤسسي النظرية الاستراتيجية الحديثة، “صيغة” نجاحات الإمبراطور في أطروحته حول العمليات العسكرية الكبرى (1805).
ويقول إن “الفن العسكري العظيم في توجيه خطوط عملياته يتمثل في الجمع بين هجماته، بحيث يتمكن من السيطرة على اتصالات العدو دون فقدان خطوط اتصالاته”، وذلك إما بالإغارة على الصفوف الخلفية وفصل جيش العدو عن قواعده، أو
بإحداث اختراق في خطوط العدو كما حدث في أوسترليتز.
ويشرح ميشيل روكو ذلك بقوله: “إنها مناورة تسعى إلى الإخلال بالتوازن وزرع الفوضى”، يرى فيها “الإرث الذي ورثته عن نابليون الجيوش المعاصرة”.
ويقول المؤرخ: “عشية الحرب العالمية الأولى، استخدمت هذه الفكرة في الهجوم ولكن من دون مراعاة الابتكارات التكنولوجية، ولا سيما المدفع الرشاش، مما أدى إلى تعثر تكتيكي جديد حتى نشر المدرعات التي ستنفذ تلك الخطة”.
ويتابع: “سيستمر تعلم تكتيك زرع الفوضى مع الجنرال باتون على سبيل المثال (خلال الحرب العالمية الثانية)، ومؤخراً أثناء حرب الخليج عندما لجأ الأميركيون إلى زرع الفوضى في صفوف العدو ومحاصرته في النهاية لفصل خطوطه الخلفية”.
حملتان أوسع مما ينبغي
هزمت أسطورة نابليون خلال حملتيه الكبيرتين في إسبانيا ثم في روسيا. فبعد أن كان عليه مواجهة حرب عصابات لم يتوقعها في إسبانيا، “قاده افتقاره إلى التحليل والتفكير الموزون إلى شن حملة أوسع من قدراته في عام 1812” في روسيا قضت على جيشه الكبير وأجبرته على التراجع في منتصف الشتاء بعد أن خسر عن 200 ألف جندي على الأقل.
بعد أن أضفت انتصاراته شرعية على سلطته السياسية، أجبرت الهزيمة الإمبراطور على التنازل عن العرش في 6 أبريل 1814. وعادته جميع القوى الأوروبية لدى عودته إلى السلطة خلال ما عرف باسم المائة يوم في ربيع 1815.
وخلال معركة واترلو الأخيرة (1815) لم يعد نابليون كما كان ولا جيشه. أما خصومه فتحالفوا ضده بعد أن تعلموا من هزائمهم: ركز البريطانيون على تكتيك دفاعي في ساحة المعركة التي يسيطرون عليها.
هكذا، سطرت هزيمة نابليون في 18 يونيو سقوطه السياسي وأجبرته على الرحيل إلى المنفى.