تُعَبر السياسات العمومية المعتمدة في أبسط تعريفاتها عن التفاعل المنظم، الذي يقوم به النظام السياسي مع مختلف القضايا المطروحة، والحلول التي يقدمها للمشاكل العامة، فهي بمثابة المخرجات التي تصدر عن النظام السياسي إذا قمنا بإعمال منهج التحليل البنيوي للنظم.
ومن المسلم به أن السياسات العمومية وُجدت قبل تحديد مفهومها، فلا يمكن تصور نظام سياسي معين مُجرد من الفعل أو التفاعل مع الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، غير أن دراسة السياسات العمومية أصبح يبحث أيضا في أسئلة أكثر عمقا، وعلى رأس هذه الأسئلة يأتي السؤال المرتبط بضمان شروط الفعالية والنجاح في تنزيل السياسات العمومية.
فصياغة سياسات عمومية متكاملة، وتحترم الشروط المنهجية الواجب اتباعها في اختيار الإجابات الواقعية عن المشكلة العامة لا يعني بالضرورة أن المشكل العمومي في طريقه إلى الحل، فرغم الأهمية التي تحوزها عملية بناء السياسات العمومية، إلا أن التنزيل العملي لهذه السياسات على أرض الواقع، يعتبر مرحلة حاسمة في بلوغ الأهداف التي تتغياها السياسات العمومية.
وبالنظر لما أصبح يطبع تدبير الشأن العام من تشعب في عدد المتدخلين في تدبير السياسات العمومية (الفاعل المركزي، الفاعل الترابي، المجتمع المدني، المؤسسات المالية الدولية…)، فإن ذلك يؤثر بشكل أو بآخر على عملية تنزيل السياسات العمومية، وسنحاول التعريج عن أهمها وبشكل مقتضب.
لا بد من الحديث في البداية عن المسؤولية في اختيار السياسات العمومية، وطبيعة الإجابات المقدمة على المشاكل العمومية المطروحة، وهذا السؤال مرتبط بالأساس بطبيعة النظام السياسي، وكذا بفلسفة توزيع السلطات داخله. في النظام الدستوري المغربي يتضح من خلال استقراء موسع لمختلف فصول الوثيقة الدستورية أن السياسات العمومية لا ترتبط بسلطة محددة، وإنما بتعدد الفاعلين المتدخلين (الملك، الحكومة، البرلمان…).
ولا يمكن إخفاء الغموض الذي يكتنف النص الدستوري بخصوص السلطة الحقيقية التي لها الأهلية في اتخاذ القرار على مستوى الاختيارات التي تتبناها الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فننطلق من الفصل الأول من الدستور والذي نص لأول مرة على الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي، ومع التقدم والتعرض للفصول الأخرى نجد المؤسسة الملكية تتوفر على سلطات واسعة في مختلف المجالات، وتمارس رقابة فعلية على العمل الحكومي من خلال المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك، كما يوجه الملك عمل البرلمان من خلال الخطب التي يفتتح بها الدورة البرلمانية الخريفية في كل سنة.
كما أن الحكومة نفسها تنسب جل سياساتها لتوجيهات الملك في الوقت الذي يجب أن تسندها إلى البرنامج الحكومي الذي تمت صياغته كترجمة لالتزاماتها أمام الناخبين، ثم نتحدث بعد ذلك عن مسؤولية الحكومة أما البرلمان، بخلاصة، نحن أمام بناء دستوري غير واضح ولا يستقيم مع المنطق الذي يوضح الاختصاصات من جهة، ويرتب المسؤوليات من جهة أخرى.
غير أن مفهوم فصل السلط، والذي يعتبر ركنا أساسيا للأنظمة الديمقراطية، يقتضي بالضرورة تحديد الاختصاصات التي تتوفر عليها كل سلطة بشكل واضح ودقيق، وهذا شرط أساسي لتطبيق مبدأ آخر وهو مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وكل غموض وتداخل في توزيع الاختصاصات والمسؤوليات سيوفر لا محال، مناخا ملائما للتهرب من المحاسبة.
بالنسبة للمؤسسة البرلمانية، ففي الوقت الذي يظل فيه إشكال أزمة المؤسسات التمثيلية معلقا، خاصة بسبب فشلها في احتواء كافة المطالب الاقتصادية والاجتماعية، يدفع البعض بأن إعطاء سلط حقيقية للبرلمانات يمكن أن يبعث بارقة أمل في عودة السلط إلى البرلمانات، ومن ثم الحديث عن دور ريادي لهذه المؤسسة في مسلسل بناء سياسات عمومية معبرة عن الحاجيات الحقيقية للمواطنات والمواطنين.
لقد كانت هذه لفكرة حاضرة بقوة أثناء صياغة الوثيقة الدستورية سنة 2011، فرغم احتفاظ النظام السياسي المغربي بجلده القديم، من خلال الإبقاء على توفر المؤسسة الملكية على سلطات واسعة تجعلها تتحكم في مختلف السياسات العمومية، إلا أنه على الرغم من ذلك أعطيت بعض السلط للبرلمان، خاصة مجلس النواب، وبعث الأمل في قيام نظام سياسي ذو أبعاد برلمانية.
غير أنه، ونحن على مرمى حجر من نهاية الولاية التشريعية الثانية في العهد الدستوري الحالي، يمكن القول إن استثمار مختلف السلطات التي منحها المشرع الدستوري للبرلمان، في مجالات التشريع، الرقابة والتقييم، خلال العشرية الأخيرة لا يُعبر عن الوزن الذي يُؤمل في أن يلعبه البرلمان في مجال مواكبة وتقييم السياسات العمومية، وهذا الإخفاق النسبي، يرتبط بعاملين أساسين:
العامل الأول: يرتبط بطبيعة النخب السياسية التي يتشكل منها البرلمان المغربي، والتي لم تستوعب بعد الدور الحقيقي الذي يُراد لها أن تلعبه في مجالات تدبير الشأن العام، فالبرلمان بغرفتيه لا يزال يشتغل بنفس العقلية التي كان يشتغل بها في الفترة التي سبقت دستور 2011، وما يبرر هذا المعطى هو المردودية التي تمخضت عن البرلمان بمجلسيه خلال العشرية الأخيرة بخصوص تتبع وتقييم السياسات والبرامج العمومية، والتي يسمها طابع المحدودية سواء على المستوى الكمي أو على مستوى جودة الأعمال الرقابية التي يقوم بها البرلمان بمجلسيه. كما أن العملية التشريعية لا تحظى بأهمية كبيرة من قبل أعضاء مجلسي البرلمان، فيكفي أن نقول إن أهم قانون يصدر عن هذه المؤسسة خلال السنة التشريعية، وهو قانون مالية السنة، لا تصوت عليه في غالب الأحيان إلا نسبة قليلة من أعضاء مجلسي البرلمان، فبالنسبة لقانون مالية 2021 مثلا لم يصوت لفائدته سوى 61 نائبا برلمانيا في القراء الثانية بمجلس النواب، أي ما يشكل نسبة 15,44% من مجموع أعضاء هذا المجلس.
العامل الثاني: يرتبط بمكانة البرلمان كمؤسسة داخل النظام السياسي المغربي، هل أُريد حقا للبرلمان أن يكون مؤسسة مالكة لسلطتي التشريع والمراقبة بشكل حقيقي أم فقط بشكل صوري؟ هذا السؤال يرتبط بشكل وثيق بفكرة البرلمان المعقلن، وهي الفكرة التي لا تزال مهيمنة على مختلف النصوص المنظمة لسلطات البرلمان (الدستور، القانونين التنظيميين لمجلسي البرلمان، والنظامين الداخليين لمجلسي البرلمان)، وتحد قيود العقلنة بشكل كبير من ممارسة الاختصاصات البرلمانية بشكل مريح بفعل الهيمنة التي تقيمها الحكومة على البرلمان أثناء ممارسته لمهامه، بل وتعطي انطباعا لدى العضو البرلماني بأن دور هذه المؤسسة هامشي فقط في تدبير السياسات والبرامج العمومية. وكذلك تم تقليص هامش تحرك مجلس النواب، من خلال التأويل الضيق الذي قدمه القضاء الدستوري لدور البرلمان في تقييم السياسات العمومية خلال نظره في الأنظمة الداخلية للبرلمان، خاصة حينما اعتبر المجلس الدستوري في قراره 829/ 12 أن تأسيس لجنة برلمانية دائمة لتقييم السياسات العمومية بمجلس النواب أمرا مخالفا للدستور أثناء نظره في النظام الداخلي لمجلس النواب لسنة 2013.
تتجلى أيضا أهمية توضيح الاختصاصات والصلاحيات في التعرض لعلاقة المركز بالجهات، ففي ظل التوجه نحو إعطاء الجهات مكانة أكثر ريادية في تدبير الشأن العام الجهوي، وهو ما من شأنه أن يعزز أدوار الجهة في الاستجابة للحاجيات العامة باعتماد مبدأ القرب، سواء من خلال تنزيل السياسات العمومية الترابية، أو المساهمة في تنزيل مختلف السياسات والبرامج التي تعتمدها لدولة على المستوى الوطني.
ويرتبط تنزيل جهوية حقيقية بالإسراع في تنزيل سياسة اللاتمركز، غير أن نقل السلط عملية معقدة وتحتاج إلى جرأة حقيقية من الفاعل المركزي، ولا ترتبط فقط بتغيير قوانين وأنظمة معينة، بقدر ما تستوجب تغييرا في العقليات التي تتعامل مع الفاعل الترابي بعقلية المنفذ الحرفي لتوجيهات وسياسات الفاعل المركزي، وتُجرده من العقل المبدع الذي من شأنه أن يعطي نفسا جديدا للفلسفة التي تقوم عليها عملية تنزيل السياسات العمومية.
كخلاصة، لا يمكن فصل رهانات نجاح السياسات العمومية عن الفلسفة العامة لاشتغال النظام السياسي، والقواعد التي تؤطر عملية اتخاذ القرار، فرغم التركيز على المعطيات التقنية في دراسة السياسات العمومية (دراسات جدوى – وضع مؤشرات للتقييم…)، إلا أن عوامل أخرى تفرض الالتفات إليها بالنظر لما تحوزه من أهمية في تقديم نظرة أكثر شمولا ووضوحا حول عملية تدبير السياسات العمومية.