أثار إعلان القرار الرئاسي الأمريكي بالاعتراف لأول مرة بسيادة المغرب على أقاليمه المسترجعة بعد أكثر من 45 سنة، مقابل استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، جدلا بين القوى السياسية التي انتقد بعضها هذا الاتفاق واعتبره خيانة للقضية الفلسطينية، ومقايضة سياسية بين مكاسب تدعيم الوحدة الوطنية، وتطبيعا مع سلطات الكيان الصهيوني، في وقت اعتبرته قوى أخرى ضرورة سياسية تقتضيها مصلحة الدولة والحفاظ على وحدتها وسيادتها.
ولم يقف هذا الجدل السياسي عند تبادل الانتقادات والاتهامات على المواقع الإعلامية وقنوات التواصل الاجتماعي، بل نزل إلى الشارع العمومي من خلال محاولة عقد تظاهرات، إما في بعض مساجد المملكة أو بالتحلق حول جنبات مقر البرلمان بالرباط، لكن سرعان ما تم تفريقها من طرف قوات الأمن. وإلى حد الآن مازالت تساؤلات الجدل مطروحة حول حدود المفاضلة بين الأولوية الوطنية والأولوية القومية، خاصة بعدما ساد منظور فكري وإيديولوجي، سواء بمرجعية قومية أو ماركسية أو إسلامية، تقوم على أن تحرير الشعوب العربية يبتدئ بتحرير فلسطين أولا.
وحتى لا ينغمس المرء في هذا الجدل السياسي والمذهبي، سيكون من المفيد الرجوع إلى إضاءة تاريخية عكست أن منطق الدولة هو الذي ساهم في استمرارية الدولة بالمغرب، والحفاظ على كينونتها السيادية
1- المصلحة العليا للدولة
إن ظـهـور الـدولـة فـي أي مـجـتمـع سـيـاسـي لا يـرتـبـط فـقـط بـوجـود العنصر المادي (أو الحدود السياسية)، بل يـشـتـرط أيـضـا وجود عـنـصـر مـعـنوي أو ترسنتدالي (Transcendental) يتمثل على الخصوص في تبلور منطق للدولة (la logique de l’Etat). ويؤكد هنري لوفيبر هـذا الـمـعطى من خلال الربط الجدلي الوثيق بين الدولة ومنطقها. فالدولة كما يقول “تحكم وتسير، تحمي وتدافع، وتعاقب وتقتل باسم منطق للدولة”. ويـتـمـثـل هـذا الـمـنـطـق الـدولـتي فـي ما سـمـاها مـيـكـيـافـيـلـي فـي مـا بـعـد “المصلحة العليا للدولة”، أو(laraison de l’Etat). وقد اعتبر هذا الأخير أن مصلحة الدولة هي فوق كل مصلحة “بل هي المصلحة الأسمى والأعلى، إذ إن شروطها تعتبر شروطا قطعية”. ويرى ميكيافيلي أيضا أن هناك علاقة جد وثيقة بين الدولة و”منطقها”؛ فالدولة في نظره “تشكل التجسيد الأسمى للقوة، وبالتالي فهي تجسد القيمة الأعلى؛ ونتيجة لذلك فهي تبحث عن أهدافها الخاصة، وتخلق قوانينها الخاصة، وبالتالي فهي لا تقع تحت طائلة الأخلاق العادية”.
ورغـم ما يكتنف هذا الموضوع من غموض، واختلاف الباحثين حول تحديد ماهيته، يمكن أن نشير إلى أن منطق الدولة (أو المصلحة العليا للدولة) يتجسد على الخصوص من خلال مبدأين أساسيين:
– مبدأ الغاية تبرر الوسيلة
– ومبدأ الحفاظ على بقاء الدولة
ووفـق هـذا الـمـنظـور، يـمـكـن الإشـارة إلـى أن بـروز الـدولـة في المغرب ارتبط أيضا بتبلور منطق لها. ويتأكد ذلك على الخصـوص مـن خـلال عـدة أحـداث سـيـاسـيـة طـبعت تاريخ المغرب القديم. ومن أهم هذه الأحداث، التي جسدت تبلور منطق الدولة المغربية، حادثة تحالف الملك بوكوس مع الملك يوغرطة وتسليمه في ما بعد للرومان. إذ من المعروف تاريخيا أن الملك بوكوس كان حليفا ليوغرطة أثناء مواجهته لروما نتيجة لاقتناعه من جهة بخطورة الهيمنة الرومانية على المنطقة، وكذا لروابط المصاهرة التي كانت بين العاهلين، من جهة ثانية. لكن بعد استفحـال الـخـطـر الروماني وتغير ميزان القوى لصالح الجيوش الرومانية بل وتهديدها للتراب المغربي، اقتضى الأمر أن يراجع الملك بقشيش حساباته وأن يعيد النظر في تحالفه مع يوغرطة. وهكذا بعث الملك بمفاوضين إلى روما لكي يمهدوا إمكانية عقد حلف مع هذه الأخيرة. وبعد نجاح المفاوضين في هذه المهمة، تم إعداد لقاء بين الملك بوكوس وسيلا قائد الجيوش الرومانية في منطقة شمال إفريقيا، عرض فيه الملك المغربي في البداية على القائد الروماني حياد المغرب في الصراع الدائر بين روما ويوغرطة، شريطة عدم المساس بحدود الدولة. لكن يبدو أن هذا العرض السياسي لم يرق للقائد الروماني، إذ طلب من الملك تسليم يوغرطة. غير أن الملك رفض خيانة يوغرطة رفضا باتا وذكر بروابط القرابة والتحالف والمعاهدة التي بينه وبينها.
وأمـام تـبـاعـد وجـهـات الـنـظـر بـيـن الـمـفـاوضـين، تـم الاتـفـاق عـلـى تـأجـيـل هـذه المفاوضات للتشاور. وبعد انـفـضـاض الـجـمـع، عـاد الملك بقشيش وهو يفكر في العرض الروماني ويوازن بين المصالح السياسية التي ستجنيها البلاد من خلال التحالف مع يوغرطة أو مع روما؛ وقد عبر سالوست عن ذلك بالإشارة التالية:
“… ترك بقـشيش، بذكاء بونيقي، الروماني والنوميدي معلقين وفي حيرة من أمرهما يتساءلان عمن الذي سيعقد معه حلفا، في حين كان يوازن هذا الأخير في فكره بين من سيسلم من الإثنين للآخر، فهل سيسلم يوغرطة للرومان أو سيسلم سيلا ليوغرطة، فالعاطفة كانت تدفعه للحل الثاني في حين كان الخوف يدفعه للحل الأول”.
وقد بقي الملك مـحـتارا بين الحلين لفترة طويلة، ومما يؤكد ذلك إشارة سالوست إلى أن الملك استدعى خواصه ليلة اليوم المتفق عليه بينه وبين سيلا، ثم غير رأيه فجأة ليصرفهم، “فقد كان هناك صراع داخلي يعتمل في صدر الملك ويفصح عنه بريق عينيه وقسمات وجهه رغم صمته المطبق”.
وأخيرا رجح الملك كفة سيلا، واخـتـار الـتـحـالف مع روما، وذلك بتسليم يوغرطة؛ نظرا لأن هذا القرار كانت تمليه مصلحة البلاد العليا ومنطق الدولة البارد بعيدا عن كل العواطف الشخصية للملك بوكوس. وقـد أشـار الـمؤرخـان بـلـوخ وكاربـيـنو إلى أن الملك بوكوس كان يتمنى عدم القيام بتسليم صهره وحليفه يوغرطة إلى الرومان، وألح بـشـدة، أثناء مفاوضته مع سيلا، على التزام الحياد. لكن الرومان لم يقبلوا بذلك وخيروا الملك بين التحالف معهم أو التحالف ضدهم. وأمام هذا الخيار، كانت الضرورة السياسية تقتضي أن يتجاوز الملك مشاعره الخاصة ويغلب منطق الدولة.. “فبتسليم يوغرطة، جنب الملك بقشيش الأول مملكته فظاعة حرب كانت نتيجتها، بلا شك، ستؤول لصالح روما، نظرا للتفوق العسكري الكبير للجيوش الرومانية، الذي كان قد عاينه عن قرب أثناء مواجهات عسكرية سابقة عندما كان حليفا ليوغرطة”.
2- الحفاظ على بقاء الدولة
يبدو أن اتخاذ الملك بوكوس قرار تسليم يوغرطة للرومان كان نتيجة لحسابات سياسية دقيقة تهدف بالأساس إلى حماية المصلحة العليا للدولة المغربية. فتفضيل الملك بوكوس الانحياز لروما كان ينم عن تقدير سياسي للوضعية التي توجد عليها كافة الأطراف، وترجيح مصلحة البلاد في آخر المطاف. وهكذا يفسر سالوست تسليم الملك بوكوس يوغرطة بما يلي : “إن بـكـوس صـار مـلزما بفعل ما فعل نظرا لكون يوغرطة يلح بدوره على بكوس ليسلم له سولا، وفي هذا الموقف صح في نظره أن يبت بما تقتضيه مصلحته هو، خصوصا أن اعتقال سولا وتسليمه سيثير حفيظة مريوس ومجلس الشيوخ أكثر من ذي قبل، وأضف إلى جميع هذا عدم توازن القوات في المعسكرين”.
إضافة إلى ذلـك، فـقـد كانت المكاسب السياسية التي سـتـسـتـفـيـد مـنـها المملكة كبيرة مقارنة بكل الأضرار التي ستترتب عن التحالف مع يوغرطة، الذي كان في وضع سياسي وعسكري جد ضعيف. فتسليم يوغرطة سينهي الحرب ويبعد شبحها عن الحدود المغربية، إضافة إلى أن ذلك سيمكن المملكة المغربية من التوسع، وذلك من خلال الاستيلاء على جزء كبير من أراضي المملكة النوميدية المنهارة.
غير أن أهم العوامل التي كانت وراء هذا القرار تتمثل على الخصوص في الحفاظ على بقاء الدولة المغربية. فالتحالف مع يوغرطة كان يهدد بقاء المملكة واستقرارها، خصوصا في حالة الانهزام العسكري أمام الجيوش الرومانية، إذ كـان ذلـك سـيـعـني الـقـضاء على المملكة الموريتانية وذلك على غرار ما تم فعله بمملكة سيفاكس بعد تحالف هذا الأخير مع يوغرطة وانهزامهما معا أمام جيوش روما. ولعل هذا ما تنبه له الشنيتي في تفسيره لموقف بوكوس حيث يقول: “يبدو أن سابقة سيفاكس كانت ماثلة في ذهن بوكوس وهو يتخلى عن يوغرطة، فأراد أن يتجنب الـمـنـزلـق الـذي وقـع فـيـه سيـفاكس من قبل، ومن ثمة فضل الاختيار الذي يضمن استمرارية المملكة الموريتانية ولو على حساب القضية المغربية عموما”.
من خلال هذه الإضاءة التاريخية، يبدو أن هناك تقاربا بين وضعيتين تعود أولاهما إلى زمن الاحتلال الروماني بمنطقة شمال إفريقيا في فترة القرن الأول قبل ميلاد المسيح، ومرحلة الهيمنة الأمريكية في القرن 21 بعد ميلاد المسيح، وجد فيها ساسة الدولة بالمغرب أنفسهم أمام خيارات صعبة مؤلمة، مالوا فيها إلى الحفاظ على المصلحة العليا للدولة والدفاع عن سيادتها. فسلم الملك بوكوس صهره وحليفه يوغرطة لتجنيب مملكته احتلال روما، في حين فضل الملك محمد السادس استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مقابل دعم سيادته على أقاليمه المسترجعة من طرف روما القرن 20 وبداية القرن 21.