تقديم:
صدر عن دار كتوبيا بمصر 2020 عمل روائي تحت عنوان ( الأنجري) للكاتب والأكاديمي المغربي الدكتور محمد نافع العشيري. يقع هذا العمل في 326 صفحة ، وفي طباعة أنيقة تليق بقيمة العمل. ويحيلنا العنوان المختار لهذا المنجز السردي على فضاء جغرافي له خصوصيته الاجتماعية والتاريخية والثقافية، باعتباره نسبة إلى حيز مكاني في شمال المغرب هو منطقة (أنجرة) موطن الموريسكيين، وثغر من ثغور الجهاد ضد المستعمر الأجنبي، ورباط للعديد من الصلحاء الذين وشموا التاريخ الثقافي للمغرب في العصور المتأخرة.
لقد استطاع الدكتور العشيري القادم من الحقول المعرفية اللغوية والسيميائية أن ينفلت هذه المرة من مغناطيس البحث العلمي ومن جاذبية الدراسات اللسانية، واقتحم عالم الإبداع من شرفة الكتابة الروائية. وفي هذه التجربة الجديدة نجده يسعى إلى هدم كل الحدود القائمة بين الحساسية المعرفية والحساسية الجمالية، ويعمل بجد على خلق اللُّحمة الفنية بينهما. فهو لا يكف عن مد الجسور وتمهيد السبل الممكنة لكي تجتاح السيول المعرفية حمى الكتابة الإبداعية..وهذا ما نلمسه بوضوح ونحن نقرأ هذا المنجز. فالإقناع والإمتاع توأم سيامي في مشروعه، ملتصق أحدهما بالآخر، يصعب الفصل بينهما.
وفي كتابته الإبداعية يفتح د.العشيري شهية القارئ لمطاردة الدلالات، ويدفعه إلى المشاركة في صناعة المعنى والبحث عن الإجابات، ويدعوه بطريقة ضمنية إلى الارتقاء إلى مستوى التذوق والقراءة المنتجة وإلى ممارسة حقه في صياغة الرأي وبناء الموقف والتقاط ذبذبات الحياة ومناقشة قضايا الواقع..
لقد جاء هذا المنجز الأدبي الموسوم ب(الأنجري) لينضاف إلى الرصيد الأدبي الرصين الذي ينحته الدكتور محمد نافع العشيري بصبر العالم وجرأته، ويصوغه بخيال المبدع وكشوفاته. فهذا المنجز يرفض القراءة العابرة ويأبى السفور إلا بحضرة كل مغرم ببحار المعرفة وكل عاشق للسباحة في أعماق بطون التاريخ وفي دهاليز النفس الإنسانية. هذا المنجز لوحة فنية فسيفسائية وليس رواية عادية. لوحة تركيبية مثيرة للقارئ، لوحة متعددة الألوان والأضواء والإشارات. لوحة كاشفة لخبايا الأزمنة والأمكنة صاغها الكاتب بميكانيزمات تصويرية دقيقة. مادتها الأولية الحكاية الآسرة والمعرفة العميقة والإشارات الموحية والرسائل القوية، وروحها كل ما تشتمل عليه من مغزى إنساني.
ولذلك فإن قراءتي لن تكون نهائية أو حاسمة، وسأترك للقارئ فرصة التواصل المباشر مع هذا المنجز الماتع، وسأكتفي بتسجيل أهم الملاحظات والتأملات التي استخلصتها من قراءتي الخاصة.
إضاءات كاشفة:
تندرج رواية الأنجري ضمن المشروع الذي بدأه الكاتب في أعماله العلمية السابقة، وهو المشروع الذي يتأسس على قاعدة ترسيخ الهوية وحفظ الخصوصية الثقافية. وبهذا المعني تكون الرواية في عمقها أكبر من صياغة جمالية للأحداث والوقائع. ففي بنائها السردي استطاع الكاتب المزج بين المكونين الجمالي والرسالي، وسعى إلى خلق التكامل بين الخلفية الفنية والخلفية الثقافية. فالأستاذ العشيري لم يلج الممارسة الروائية من باب مقصدية الإمتاع فحسب، وإنما دخل إلى هذا العالم الرحب الفسيح ليمرر العديد من القناعات وليوجه الكثير من الرسائل.
أغلب ما ورد في محكيات هذا المنجز هو ذو طابع جدلي سجالي. فالحقل الذي سلكه الكاتب مليء بالألغام الفكرية والثقافية والاجتماعية القابلة لتفجير النقاش، والمنفتحة على تضارب الآراء واختلاف المواقف. والنقطة الجدلية التي انطلق منها الكاتب وجعلها جوهر هذا العمل ومقصديته الأساس هي إشكالية البحث عن الذات واسترجاع الهوية في سياق حضاري وتاريخي صاخب مليء بالنداءات المغرية والأوهام المضللة. وكان رهانه الأكبر هو تكسير أوهام السعادة المؤسسة على الارتماء في أحضان الغرب وامتلاك الماديات، والعودة بالذات نحو الفطرة مكمن السعادة الحقيقية، وتخليصها من قيد الاستلاب. فإذا كان الجيل الجديد المغرر به إعلاميا وحضاريا يرى نجاحه في التماهي بالآخر، وفي عبادة صنم المادة وتأليه المتعة، فإن الرواية تؤكد على أن الفلاح الحقيقي يكمن في التشبث بالهوية وفي استجابة الإنسان لنداء الحق الأزلي وفي العودة إلى طهرانية الفطرة…
تتأرجح هذه الرواية بين أنماط كثيرة تجعلها عصية على التصنيف الحاسم. فهي تنتمي تارة للرواية الفلسفية الذهنية. وتارة للرواية العرفانية الصوفية. وتارة أخرى للرواية الواقعية الاجتماعية. وأحيانا تنقلنا نحو النص الرحلي البانورامي التسجيلي . وأحيانا تقف بنا عند عتبة النص الترجمي والتاريخي والأسطوري.
هذا المنجز الروائي مساحة فنية مارس فيها الكاتب لعبته المفضلة، وهي مداعبة الرموز والعلامات، وقراءة الإشارات والرسائل، وتشريح النصوص والأقوال والأحوال. فالكاتب بالأساس هو ابن المدرسة السيميائية، فتكوينه اللساني بدا جليا في سردياته. فهو يرى الأشياء بشكل مخالف لما يراه غيره من الكتاب المنتمين لحساسيات أخرى. ولذلك لم يكن يترك الفرصة تمر بدون ترجمة هذه النزعة وتوظيفها في فعل الوصف الذي تجاوز الوصف الآلي النقلي، إلى القراءة الدقيقة للعلامات والرموز والظواهر الطبيعية والاجتماعية…وقد قادته هذه السرديات السيميائية الشديدة البلاغة والجمال إلى إعادة فتح دفاتر الماضي وإلى تأمل الصفحات المشرقة والمعتمة. كما قادته إلى استحضار قيم المجتمع بكل صورها الإيجابية والسلبية، وإلى استرجاع زمن العزة بكل أمجاده، وزمن القهر والمذلة بكل إحباطاته.
رواية الأنجري عمل منفتح ، لا يلتزم بمنطق سردي صارم، ويرفض التموقع في قوالب نهائية سواء على مستوى الخطاب السردي أو على مستوى المحكيات. بحيث مارس الكاتب حريته واختار لنصه الأشكال والمضامين الحكائية المناسبة لخدمة مقصديته.. ويتمظهر هذا الانفتاح في المظاهر التالية:
تتقاطع في هذه الرواية العديد من الخطابات المشكلة للبنية المعرفية للمحتوي السردي، والتي يمكن تحديدها في: الخطاب السوسيولوجي.الخطاب السياسي. الخطاب التاريخي. الخطاب التربوي. الخطاب الصوفي. الخطاب النقدي. الخطاب الشعبي.الخطاب الجهادي. الخطاب الفلسفي. الخطاب الإشهاري. الخطاب السينمائي. الخطاب الفنطازي. الخطاب الترجمي…وارتباطا بما سبق تحضر:المواقف الفلسفية والسوسيولوجية والصوفية والسيميائية والنفسية والتاريخية. لأن الكاتب لحظة الكتابة كان يستجيب لضغط مكوناته العلمية، ويخضع لتداعياته الفكرية والمعرفية. فكان هذا الزخم المعرفي مثل السيول المتدفقة التي لا يستطيع مقاومة انسيابها. ومما لاشك فيه أن كتابة هذا العمل كلفت الكاتب جهودا كبيرة في قراءة المظان التاريخية والفكرية والفلسفية والصوفية، كما فرضت عليه التقاط ذبذبات البيئة الاجتماعية والثقافية التي جعلها مدارا في هذا العمل.
من خصائص هذه الرواية أن الكاتب مد جسورا بين أجناس فنية كثيرة ، واستثمر العديد من الأنماط الكتابية لتمارس دورها الفني في تطعيم بنية الأحداث وتمرير القناعات وتحقيق الوقع الجمالي. وهكذا يحضر: الشعر.والخاطرة. والرحلة. والقصة. والمأثورات. والنظرات الفلسفية. والحكم الصوفية… وهذا التعدد مرتبط أساسا بانشغالات الكاتب واهتماماته الأدبية المتنوعة.
كان الكاتب حريصا على تمرير مواقفه الناقدة أو الناقمة في قالب فني. ويتجلى ذلك في:
نقده للفلسفات الغربية المشيّئة للإنسان والداعية إلى تأليه المتعة وعبادة الجسد
نقده للتدين الشكلي السطحي الانفعالي الذي يؤدي إلى التعصب والتطرف
نقده لوضعية خطبة الجمعة التي أفرغت من محتواها وصارت منفرة للشباب
نقده لوضعية الفقيه في المجتمع المغربي بحيث تحول إلى متسول مقنع
نقده للتصوف المنحرف الذي يركز على الشطح والابتداع في العبادات
نقده لوضعية المدرسة في سياق هيمنة الرأسمالية ومنطق المقاولة
نقده للمنطق المادي الاستهلاكي الذي سيطر على العقول
نقده للمشهد الثقافي في طنجة في سياق الصراع القائم بين المثقفين والجمعيات
نقده للنخاسة الجديدة (استغلال المرأة الغربية- سوق اللاعبين )
نقده للإعلام الذي صار أداة للتحكم في يد رجال المال والأعمال
نقده للديموقراطية المعاصرة التي يستغلها أصحاب الجاه والنفوذ
نقده للحرية بمفهومها الغربي في المجتمع الاستهلاكي.
نقده لوضعية التعليم في المغرب وللبرامج المستوردة التي يتم تنزيلها في غير تربتها
تقدم (الأنجري) للقارئ أنماطا من التطرف التي يلجأ إليها الإنسان في بحثه عن ذاته. ومن أهم ما عبرت عنه هذه الرواية هي قضية المراجعات الفكرية والسلوكية. ويتجلى ذلك في التحول :
– من التطرف في الانحراف إلى التطرف في التدين
– من وضعية الرجل الأصيل المحافظ إلى الرجل الخائن المتطرف في الخلاعة
– من وضعية المسلم البسيط إلى وضعية المسلم المتطرف في الروحانيات
تتأسس البنية الفنية لهذا العمل السردي على قاعدة الثنائيات الضدية. فقد راهن الكاتب على تقديم الصور المتناقضة التي تعج بها الحياة المعاصرة، مع استثمار هذا التناقض لتمرير مواقفه وتبرير قناعاته . وهذا ما تدل عليه إشاراته المقصودة إلى:
ثنائية الإسلام/ الغرب.التاريخ الحقيقي/ التاريخ المزيف.الشمال/ الجنوب.التدين الحق/ التدين الشكلي. التصوف السني/ التصوف البدعي.طنجة العارية/ طنجة العالمة. الرسائل الخطية/ الرسائل الإلكترونية. الهجرة السرية/ الهجرة الشرعية.التشبث بالواقع/ التعلق بالخيال. الديموقراطية الشعبية/ الديموقراطية الرأسمالية. الواقعية/ الرمزية.فقهاء تركيا/ فقهاء المغرب. الانغماس في المادية الغربية/ رفض الثقافة الغربية. الجسد العضو/الجسد الدلالة.الحرية/العبودية. المحافظة/ الخلاعة.الإيمان/ الإلحاد.الإنسان العقل/ الإنسان الجسد…. هجرة البحث عن أسباب الفوز بالآخرة.. خيار الهجرة طلبا للجهاد /هجرة البحث عن أسباب الفوز بالدنيا.. خيار الهجرة طلبا للعمل.
في هذه الرواية ترجمات لشخصيات أسطورية وعلمية وشعبية وجهادية وتاريخية وصوفية. بعضها ينتمي للأسطورة، وبعضها للتاريخ القديم، وبعضها الآخر ينتمي للمجتمع الطنجي المعاصر. كما أنها إحياء لمصطلحات محلية فقدت حضورها في التداول الراهن. وخصوصا اللغة الجبلية الأصيلة التي نطقت بها أهالي الزميج التابعة لمنطقة أنجرة موطن البطل/ الكاتب.
هذا المنجز السردي دليل سياحي يستعرض خريطة طنجة، ويقدم للقارئ صورة مشوقة لأهم ما تزخر به المدينة وضواحيها من فضاءات روحية وثقافية وطبيعية وشعبية وترفيهية وتاريخية.( المساجد والزوايا. المقاهي الثقافية. المنتزهات الطبيعية. المعالم العمرانية. الأحياء الشعبية. المواقع الترفيهية…)فهي ترسم الوجه الآخر لطنجة،. طنجة المحافظة.. طنجة العالمة. وهو الوجه المناقض لطنجة الليل والمجون والعري التي عبر عنها شكري ومن سلك دربه.
خاتمة:
إن هذه الرواية/ الباكورة السردية الناضجة تقدم نفسها بصورة آسرة مثيرة، تتكامل فيها التقنيات السردية مع الرؤية الفنية مع العمق المعرفي مع السلاسة الأسلوبية والدقة التصويرية، ويتضافر فيها الخطاب السردي مع المحتوى الحكائي لتأكيد قدرة هذا المبدع على اقتحام عالم الممارسة الروائية من بابه الواسع.