“الطبيعة الهمجية” عند كثير من سكان القرى والبوادي تعد من بين الأسباب المباشرة وراء مظاهر السوقية والسلوكات المشينة، التي نراها مرارا وتكرارا في الحواضر.. لا أقول بأن سكان المدن لا يتحمّلون جزءا مما نراه من تلك التصرفات؛ لكن ارتباطها بالقرية وأنماط التربية المعتمدة فيها يبقى نقطة محورية لا يمكن غض الطرف عنها. سأحاول في ما يلي من أسطر تفسير هذه العلاقة، بما تيسر من أفكار طبعا.

أود أن أشير بداية إلى أن الهجرة القروية نحو المدن تكون لدواعٍ شتّى، وفئات سكان البوادي المرتحلة صوب الحواضر يطبعها تنوع كبير، سأختصره في الصور الأكثر رواجا. لدينا، في هذا الصدد مثلا، ذاك الذي انتقل في سن الشباب إلى المدينة بحثا عن عمل، فاختار العيش في الصفيح مؤقتا حتى تتحسن أحواله، فإن لم تتحسن، بقي في الصفيح وسلك “طرقا أخرى” لجني المال، أملا في إشباع بطنه وضمان بقائه في المدينة على الأقل إلى حين، وحتّى لا يضطر للعودة إلى القرية الأم فيقال عنه فاشل وأقرانه الذين غادروا قديما إلى المدينة أفضل منه، ثم قد يحلو له المقام لاحقا ويتزوج وينجب في تلك “البراكة”، ويأتي بعدها بقبيلته كلها، خصوصا إذا سمع بصرف مساعدات لسكان دور الصفيح،.. وهناك نموذج الفلاح الميسور الذي باع أرضه أو جزءا منها ليستقر في المدينة، مع زيارته المنتظمة للبادية طلبا للارتواء من عبقها عند الحاجة، وهناك من غادر مضطرا عند مرور طريق -سيارة- أو بناء مشروع في أرضه، فإما يرحل إلى قرية أخرى أو يتجه نحو المدينة ويبني منزلا أو يشتري شقة، وقد يطلق مشروعا صغيرا إذا كان التعويض الذي حصل عليه مهما…

على العموم، النقطة المشتركة بين ثلة من هؤلاء، ليست فقط في كونهم منحدرين من البادية، بل في شعورهم القوي بعدم القدرة على الاندماج في بيئة جديدة، -رغم اختلاف مستوياتهم الاجتماعية كقرويين، فتوفر المال لا يعني بالضرورة توفر التربية الحسنة- ، والأصح هنا أن أستدرك فأقول “عدم رغبتهم المسبقة في التكيّف” بدلا عن “عدم القدرة”، لتكون نتيجة هذا الشعور حالةً مزمنةً من السلبية والتقوقع على النفس ومعاداة الآخر “قاطن الحاضرة” Urban citizen؛ لأنه بالنسبة لهم ذلك الشخص العنصري المضطهد الذي يهضم حقوقهم ويهمشهم، بيد أنهم في الحقيقة من اختاروا التمركز في “الأحياء الهامشية”، بل هم من بناها أساسا. تتطور لديهم تدريجيا فكرة “أنا ضحية” التي تتغذى على الإحساس بالنقص والغربة، فيندفعون بعقلية انتقامية إلى استباحة كل ما يقع في مرماهم؛ لأنه حسب ظنهم “حق مشروع لا يقبل النقاش”، ستجدهم يسرقون الكهرباء من أعمدة الطاقة، يبذرون ماء السقايات التي تنصب بالمستوطنة المسماة “كاريان” التي يسكنونها، يركبون حافلات النقل دون أداء ثمن التذكرة ويزعجون من فيها، ينهبون ويقطعون الطريق على الناس،.. وغالبا ما تلجأ شريحة عريضة من “سكان المدن” إلى نهج نفس السلوك على المدى البعيد كردة فعل دفاعية. وهنا، تكمن الطامة الكبرى، حيث تدخل سمة “الهمجية” في أساليب التنشئة لدى أسر تنتسب إلى المدينة منذ عقود وعاشت أجيال منها في الحواضر دون مشاكل؛ لكن المد الهائل والضرر البالغ للهجرة القروية بكل ما تجلبه معها من حمولة ثقافية وأخلاقية متردية وغريبة عن أهل المدينة، جعلت “الأسر المدنية” تتأثر بشكل عميق، وتتبنى بالتالي في أنماط التربية التي تعتمدها كثيرا من “العادات المتخلفة” للمتوافدين من سكان القرية، حتى أصبحنا لا نستطيع التمييز حاليا بين ساكن المدينة والقرية نظرا للتشابه الكبير الحاصل بين طباع الاثنين.

واقع الحال أن القرويين ألفوا العيش في وسط تكون فيه الطبيعة امتدادا لفضائهم الخاص، حيث يرافقهم الشعور بحق ممارسة جملة من الأنشطة في ذلك الفضاء وحتى على مستوى الأسرة الصغيرة. هذا الشعور اللصيق بالأحقية يلازمهم عند انتقالهم إلى مكان جديد كالمدينة، حيث شروط الحركة والتفاعل مع الناس والفضاء الخارجي مختلفة تماما. لذلك، نجدهم غير واعين أبدا بفكرة “الفضاء العام”، فينتهكون حرمته بمنتهى “الحرية”، ظانين أنهم يمارسون حقهم الطبيعي؛ فهناك من يقضي حاجته بفخر على الأسوار أو جدران البنايات، وهناك من يرمي الأزبال على الأرض لأن الأمر برمته شيء بديهي تربى على فعله في القرية، ربما لدوافع حميدة أحيانا، كاستعماله لفتات الأكل وقشور الخضار علفا للماشية أو سمادا للأرض، لكن الوضع مختلف في المدينة، فآنذاك يصبح فعل مشابه “تلويثا” و”سلوكا غير متحضر”.

ينادون ويحدثون بعضهم من بعيد بصوت مرتفع، أطفالهم في الشارع ليل نهار يتقاذفون العبارات النابية، يسيرون حفاة أغلب الوقت، يتركون المنزل للجلوس والتسامر في ناصية الزقاق، يكنسون بقايا القمامة من أمام أبواب منازلهم لتصبح أمام دار شخص آخر دون اكتراث، المهم ألا تكون قربهم، يدخلون بيوت بعضهم دون استئذان، ينجزون أشغال الإصلاح ليلا دون أي احترام للجيران، تخرج نساؤهم شبه عاريات للتسوق أو تنظيف عتبة المنزل، والمضحك حركة تقوم بها بعضهن عندما تجد إحداهن ترتدي جلبابها وتلف قطعة قماش حول رأسها أثناء مشيها إلى البقال بملابس النوم، وتكون قد قطعت نصف الطريق قبل أن يكتمل ارتداؤها للملابس، بعضهن ينفضن الزرابي المليئة بالغبار من نافذة أو شرفة علوية لتصير الأجواء مغبرة بالكامل،.. يتفشى لديهم العنف الأسري، استهلاك المخدرات بحثا عن شعور مفقود بتقدير الذات أو محاولة لإلهائها عن واقعها المرّ،.. يقدمون على النصب والاحتيال، السرقة والكذب، ويشتهرون بـ(حمية الجاهلية الأولى): “أنا وابن عمي ضد الغريب”. يذكرني هذا بفئة من المغاربة اللاجئين في أوروبا، وبنفر من القاطنين هناك بشكل رسمي، ينغلقون على أنفسهم ويرفضون الاندماج ولو قليلا في المجتمع الغربي، ولا حتّى من باب المواطنة الصالحة. بالمقابل، يسعون بشكل دائم إلى فرض أسلوب عيشهم “الوسخ”، ثم يشتكون من “نبذ الساكنة المحلية لهم”؟ !

قد لا يستوعب كثير من هؤلاء ما هم فاعلون، وقد لا يرون تصرفاتهم معيبة، ثم قد لا يكون هناك سبيل لإصلاحها؛ لأنها تمثل لهم إرثا مقدسا مما ألفوا عليه آباءهم وأمهاتهم، “من شب على شيء شاب عليه”… ولا أخفيكم علما أن برامج تلفزة واقع ودراما، من قبيل “قصة الناس” و”وجع التراب”، تجعل المرء يفكر جديا في حلول ناجعة كفيلة بإبطاء التناسل لديهم، ريثما يعود التوازن لمنظومة القيم في المجتمع،-أمزح-.

من جهة أخرى، سيكون من الجيد الدفع قدما بالأوراش الاجتماعية والمبادرات التنموية التي تهيئ لهؤلاء فرصا للعمل بكرامة قرب أماكن إقامتهم دون التنقل إلى مناطق أخرى يعيثون فيها فسادا، ويلزم أكيدا أن توازيها جهود حثيثة للنهوض بالتربية على المواطنة والتحضر في الوسط القروي -حتى يعرف العازمون على الهجرة ما ينتظرهم-.

ختاما، في إطار فك اللبس ودرء أي سوء تأويل محتمل، لا يفوتني أن أسطر بخط عريض –وغليظ- على أن المعنيين بأطروحتي البسيطة هذه ينتمون إلى صنف معين من “أبناء القرية” دون تعميم. ونحن هنا لم ننتقص أبدا من القرية، ولا ننكر أنها لطالما أنجبت لنا النبغاء والعلماء وجادت علينا بالصالحين الطيبين،.. لكن كشف خبايا الجانب المظلم أو “المحرِج” لموضوع معين يبقى أكثر إغراء من الاكتفاء بإعادة سرد ما يراه العيان تحت ضوء النهار. ولا أستثني، لأكون منصفا، أن لسكان المدينة نصيبا مما عالجته أعلاه أو كما نقول بالعامية “حتى هوما بْخبيزتهوم”، وذاك حديث ذو شجون سأفرد له تدوينة في المستقبل بإذن الله.

hespress.com