خلصت ورقة بحثية إلى أن مواجهة الفساد تعد إحدى أهم دعائم الحكم الرشيد؛ في حين لا تزال بعض دول الإقليم تتذيل قائمة مؤشر مدركات الفساد (الذي يرصد واقع 180 دولة، ويقيس مستوى الفساد فيها من 100 درجة أعلاها الأفضل وأصغرها الأسوأ) الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، والتقرير الأخير لعام 2019 والصادر في يناير 2020 يؤكد على ذلك.

وأظهر إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقدماً ضئيلاً في السيطرة على الفساد بعد حصوله على نفس متوسط الدرجات الذي سجله العام الماضي في مؤشر الفساد العالمي وهو 39 درجة، مع الأخذ في الاعتبار أن الإمارات كانت استثناء في هذا السياق، حيث حلت في المرتبة الأولى على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ71 درجة والمرتبة الـ21 عالمياً بين الدول الأكثر نزاهة والأفضل في مكافحة ممارسات الفساد.

وأبرزت المقالة، المنشورة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أنه لا يزال مشوار دول الإقليم طويلاً لمكافحة الفساد، الذي يحتاج إلى حملة طويلة المدى، وليست ضربة قاضية كما يتصور البعض؛ لأن الإشكالية لا تكمن في الفساد الكبير، بقدر ما تتعلق بتجفيف منابع شبكات الفساد المتوسط والصغير، القائم في العديد من الإدارات والمؤسسات الحكومية، بما يهدد استقرار الدول وأمن المجتمعات.

وأشارت المقالة إلى أن القضايا المرتبطة بالفساد، بأشكال مختلفة، تمثل أحد الاتجاهات الرئيسية التي ميزت تفاعلات إقليم الشرق الأوسط، خلال عام 2020؛ وهو ما برز في ملامح مختلفة منها حرص القيادة السياسية على التصدي للفساد في مصر، واستمرار محاسبة رموز الأنظمة السياسية السابقة في دولتي الحراك الثوري بالسودان والجزائر، وتوتر العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في لبنان، ومحاولة احتواء الحراك الشعبي المناهض للحكومة العراقية، وتصدر قضية مكافحة الفساد في انتخابات مجلس الأمة بالكويت، وضيق مساحة الديمقراطية في المجال العام على نحو ما تشير إليه حالة تركيا، وتنامي الفساد في توقيت انتشار كوفيد-19، ووقوع الكوارث الطبيعية الكاشفة لهشاشة البنية التحتية.

وتوجد أبعاد عديدة تعكس تصدر القضايا المتعلقة بالفساد في تفاعلات الإقليم، خلال عام 2020، يتناولها التقرير البحثي على النحو التالي:

الإرادة السياسية

1ـ حرص القيادة السياسية على التصدي للفساد: وينطبق ذلك على مصر، حيث إن القيادة السياسية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي مصممة على اقتلاع جذور الفساد لتنفيذ برامج التنمية الشاملة؛ لأنه لا يمكن بناء مؤسسات دولة قوية دون مواجهة شاملة للفساد، وهو ما عكسته الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بمرحلتيها الأولى (2014) والثانية (2019)، والتي تقوم على تعزيز دور جهاز الرقابة الإدارية. وفي هذا السياق، نظمت هيئة الرقابة الإدارية في 9 دجنبر الجاري مؤتمر مكافحة الفساد احتفالاً باليوم العالمي لمكافحة الفساد، تحت شعار “متحدون على مكافحة الفساد”.

شرعية الانتقال

2ـ استمرار محاسبة رموز الأنظمة السياسية السابقة: على نحو ما بدا جلياً في حالتي السودان والجزائر بعد سقوط نظامي عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة. فعلى سبيل المثال، تواصل المحاكم الجزائرية إدانتها لرموز محددة مثل الوزراء والولاة ورجال الأعمال، حيث حكمت محكمة تيبازة في 8 دجنبر الجاري على والي العاصمة السابق عبدالقادر زوخ (خلال الفترة بين عامي 2013 و2019) المقرب من الرئيس السابق بوتفليقة بالسجن لمدة خمس سنوات، بحسب ما أفادت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية. وقد جاء ذلك الحكم بناءً على ثبوت منح مزايا لعائلة المدير العام للأمن الوطني السابق عبد الغني هامل. وبخلاف تنفيذ عقوبة السجن، يجب دفع غرامة مالية مقدرة بمليون دينار جزائري بالإضافة إلى 10 ملايين دينار كتعويض مادي.

خلاف مؤسساتي

3ـ توتر العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية: وهو ما ينطبق على الحالة اللبنانية، حيث تحولت العلاقة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري من التواصل إلى التأزم بسبب ما تعتبره وسائل إعلامية “انتقائية” في فتح ملفات الفساد، إذ تساءلت محطة “إن بي إن” في إحدى نشراتها الإخبارية في الثُلث الأول من دجنبر الجاري –على خلفية ما قاله ميشيل عون لدى استقباله رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى- حول استقلالية القضاء وعدم الاهتمام بالحملات التي تستهدف عرقلة عمل القضاة بوجه خاص والعمل القضائي بشكل عام؛ الأمر الذي أثار التساؤلات بشأن الأسباب وراء تعطيل التشكيلات القضائية، فضلاً عن إعاقة مشاورات تشكيل حكومة سعد الحريري، وهو ما يتضمن اتهامات مبطنة لعون.

غزل انتخابي

4ـ تصدر قضية مكافحة الفساد في انتخابات مجلس الأمة بالكويت: تمثلت القضية المركزية التي سيطرت على حملات الدعاية الانتخابية في انتخابات مجلس الأمة الثامن عشر (التي جرت في 5 دجنبر الجاري) في مكافحة الفساد، فضلاً عن قضايا أخرى مثل كوفيد-19 وتوابعها خاصة فيما يتعلق بأوضاع التعليم والصحة، ومعالجة خلل التركيبة السكانية، وتضخم أعداد العمالة الوافدة، وسياسات “تكويت” الوظائف الحكومية، وتطوير الوضع الاقتصادي المتردي، وإن كانت تلك القضايا مرتبطة أيضاً بمكافحة الفساد.

تكلفة حادة

5ـ محاولة احتواء الحراك الشعبي المناهض للحكومة: تحاول حكومة مصطفى الكاظمي تعزيز شرعيتها عبر محاربة الفساد؛ وهو ما عكسه قرارها بتشكيل لجنة للتحقيق في قضايا الفساد الكبرى في العراق، في 27 غشت الماضي؛ فقد فشلت الحكومات المتعاقبة في إدارة القضايا الاقتصادية والأمنية في البلاد، أو تحسين الظروف المعيشية والخدمات العامة للشعب العراقي، على نحو أدى إلى تفجر الحراك الشعبي في أكتوبر 2019، علاوة على تصاعد وتيرة الاحتجاجات الفئوية على مدار عام 2020، لاعتبارات تتعلق بتنامي الفساد داخل الجهاز الحكومي، وهو ما أثر على مفاصل الدولة ومؤسساتها الخدمية.

السياق السلطوي

6ـ ضيق مساحة الديمقراطية في المجال العام: يشير أحد التحليلات إلى أن تراجع وضع تركيا في مؤشر مدركات الفساد، خلال الأعوام الماضية، يعود إلى ضيق مجالات التعبير عن الرأي من جانب الأطراف المخالفة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، والتضييق على القوى السياسية المعارضة، والمنظمات غير الحكومية واعتقال قياداتها ومقاضاتهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم. وفي سياق متصل، يعمل النظام التركي على منح مزايا لحلفائه من رجال الأعمال بما يعزز من نفوذهم وسيطرتهم.

تأثير الأوبئة

7ـ تنامي الفساد في توقيت انتشار كوفيد-19: هناك اتجاه في الكتابات يشير إلى ازدياد حالات الفساد في العديد من الدول، وخاصة في الشرق الأوسط، لا سيما في ظل حالات انتشار الأوبئة والأمراض. ولعل الجائحة ساهمت في حدوث ذلك على نحو ما عبر عنه أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في بيانه “التعافي تحت راية الازدهار”، بقوله: “إن الفساد فعل إجرامي لاأخلاقي وخيانة للأمانة المستودعة من الشعب. وضرره يكون أشد جسامة في أوقات الأزمات، كما في الوقت الحالي الذي يكابد فيه العالم جائحة كوفيد-19. والتعامل مع هذا الفيروس يخلق فرصاً جديدة لاستغلال ضعف الرقابة وعدم كفاية الشفافية، حيث يتم تسريب الأموال بعيداً عن الناس في أوقات هم فيها أحوج ما يكونون إلى تلك الأموال”.

غضب الطبيعة

8ـ وقوع الكوارث الطبيعية الكاشفة لهشاشة البنية التحتية: وهو ما ينطبق على حالة السودان، حيث تعرضت الأخيرة لفيضانات ضربت معظم المناطق السودانية في 18 شتنبر الماضي، على نحو تسبب في أضرار مادية فادحة؛ الأمر الذي فسره البعض بالنهب المنظم الذي مارسه نظام حكم الإنقاذ في عهد عمر البشير على مدار ثلاثة عقود دون الاهتمام بتنمية الدولة وتحسين مرافقها، بحيث أصبح قطاع ليس بالقليل من السودانيين يعيشون في أحياء تفتقد لأنظمة الصرف وفي مساكن تبنى بمواد بسيطة لا تستطيع مقاومة الكوارث الطبيعية.

hespress.com