تزامنت الذكرى المئوية للفوسفاط بالمغرب 1920-2020 مع حالة الوباء “كوفيد19″،

العبرة من القول أعلاه هو أن الوطنية القوية تصمد في وجه الأزمات، وتحمي الحياة من الاندثار.

في إطار التطور الذي خضعت له الحقول الإنتاجية الفوسفاطية المغربية عرف القطاع تحولا في السنوات الأخيرة باعتباره قطاعا ملازما للأرض ومُتطلعا إلى ربح رهانات إنسانية كونية، هذا يندرج ضمن استراتيجية النهوض بالقطاع الفلاحي العالمي، ومن ثمة الارتباط بالأرض، هي دورة إنتاجية تُعيد الحياة وفق مسار توليدي يتجدد بتجدد الحب في مقابل التراب – المادة الفوسفاطية – والسماد – إنتاجية المصانع الكيماوية – إذن العلاقة تبادلية وأيضا تعاقدية.

لقد ظهر الفوسفاط كمادة عضوية مع فضاءين جغرافيين خريبكة -بولنوار أوle Pain noir- واليوسفية -الويجانطي قديما Louis gentil-، كان هذا منذ 1920، ومع بوادر الاستقلال تفاعل المغرب مع التطور الصناعي العالمي، الشيء الذي أعاد الثقة في استثمار رصيد المقاومة والمقاومين في تثمين المادة الفوسفاطية وذلك من خلال إنشاء قطبين صناعيين للتحولات الإنتاجية الكيماوية بكل من آسفي والجديدة.

إنه تحول في طرائق الإنتاج، مرورا من الحفر والاستخراج إلى التصنيع الكيماوي وإنتاج الطاقة -نور العلم- إذن، نحن أمام تحول في نسق القوانين، وحتى لا نتيه -وهذا موضوع آخر- نكتفي بالتلميح إلى المؤسسات النقابية، باعتبارها مؤسسات دستورية تُسهم في بناء الركائز القانونية، كما أنها القناة الرسمية للحوار والتفاوض محليا ووطنيا ودوليا.

الذاكرة الفوسفاطية:

كيف يمكن بناء ذاكرة فوسفاطية؟

إن سلطة وقوة الوطن ترتبط وقوة اقتصاده، إذن، صمود وقوة حضور الوطن هو حالة قوة اقتصادية، ومعلوم أن الذاكرة تستدعي حالة فعل -أثر حقيقة- على امتداد حقب التاريخ المغربي السياسي، هذا الأثر صنعته الأيادي العاملة والعقول الفكرية، أنا أفكر أنا موجود قال: ديكارت، إذن، الفكر يستدعي حالة فعل/ عمل إيجابي، إنه الوجود الذي يتحقق وحالة تاريخ، الذاكرة. مئة عام، تبدو بالمدة الزمنية القصيرة جدا إذا ما نظرنا نظرة العمق إلى تاريخ المغرب، لكن، سعينا هو ذاكرة مركزة قريبة تاريخيا لكن أثرها حقق انفجارا اقتصاديا وثقافيا عالميين.

دلالات الذاكرة الفوسفاطية:

تتجدد الذاكرة بفعلين: المقاومة، والإبداع.

أنت تُقاوم، أنت تُبدع أشكال حياة.

نعود وبخلاصة شديدة إلى سنوات البدايات الأولى في عملية استخراج الفوسفاط من باطن الأرض وبأدوات تقليدية (فأس وكاسحة) وعربات من فولاذ تسحبها أياد آدمية، يبدو أن الأمر صعب، صحيح أن حياة المناجم كانت تعرف مخاطر وشهدت أيضا حوادث مميتة بسبب الردم، إلا أن مقاومة الذوات العاملة (العطاشة) كانت مغامرة تروم تحقيق حياة الآخرين، منح الحياة للآخرين، هي مغامرة تجاوزت الخوف من اللغة التي كانت تُكتب وتُعلَّقُ على منحدرات مداخل المناجم (الداخل مَفقود والخارج مَولود)، صعب، إذن، أن تنتصر على رُهاب اللغة، وتتغنى بالحياة وسط القفار، الظلام، الرطوبة، رائحة البارود المنفجر في ثقب الأرض، وظروف الاستعمار… إلخ. خريبكة أو اليوسفية وجهان لوجه واحد، وجه الذاكرة المناضلة، نضال السواعد القوية والعقول المسلحة والمشبعة بالوطنية، من هذين الفضاءين انفلت الفعل النقابي الأول من سطوة المستعمر الفرنسي، وكانت للنقابة الفوسفاطية الكلمة في تأسيس النواة الأولى للاتحاد المغربي للشغل، وأيضا توالدت عمليات التأسيس من أجل ذاكرة فوسفاطية قاومت وأبدعت فظهرت نقابات فوسفاطية ضمن مركزيات متعددة ومختلفة إيديولوجيا، وأيضا هناك نقابات فوسفاطية تتلمس بوادر الإبداع في خلق دينامية نضالية خارج المركزيات والأحزاب السياسية أيضا، إنها نقابات فوسفاطية تروم الاستقلالية وتحقيق الديمقراطية.

الأرض/ الفوسفاط وآليات الإبداع والابتكار:

الإنسان يَصنعُ الأرض يحرثها، يزينها ويُخرج منها معادن ويُضمنها أحلامه ويعود إليها حالما على أمل الفرصة في حياة أفضل، هي دورة الحياة تتجدد وفعل الإبداع الإنساني في صناعة حيوات مختلفة، من هنا انطلق الفوسفاطي في ابتكار أساليب حياة على أرضه -وطنه- وأيضا على أرض الآخر، كما أنتج مؤسسات تتماشى بالموازاة مع دينامية الإنتاج الصناعي، التعليم، الصحة وأشكال السكن.

المدن العملاقة تتحقق واقتصاد قوي، علاقة ضرورة حوار عالمي تتأسس وفق شرط القوة الاقتراحية الاقتصادية والثقافية. من هنا انصب التفكير في إعادة تجديد طرائق انبعاث القوة الفوسفاطية، والجميل في هذه القوة هو أنها قوة ناعمة تتمتع بالمرونة، قوة تقاوم في هدوء واستقرار، تُؤنسِن الإنتاج وتُحقق الحياة للعالم. هذه الحياة يمكننا القول إنها عوالم الفلاحة المتجددة، الأمن الغذائي العالمي. حيث إن الانتقال من المحلية والهيمنة الفرنسية إلى العالمية والكونية الفلاحية أسهم في تبويب الفوسفاط المغربي مرتبة تليق وأرضه ورجاله وأيضا إدماج التعدد الثقافي الكوني: الإفريقي والأمريكي والأوروبي والأسيوي، هذا، أسهم في إرساء دعامات الذاكرة الفوسفاطية المغربية كونيا، الكون الذي تتفاعل فيه الذات الإنسانية مع محيطها ومحيط الآخر ضمن قانون الحوار الاقتصادي الغذائي.

الحوار الاقتصادي:

تماشيا مع قانون الحوار الثقافي الذي يرتكز على مقولات العقل، الحرية، التسامح واحترام رأي الآخر وإن كان رأيه مخالفا لرأي الذات، كذلك قانون الحوار الاقتصادي، إنه قانون يرتكز على العقل والحرية، إذن، لنقف عند المقولتين: العقل والحرية، يتمظهر العقل الفوسفاطي في الفكر العلمي ذو البعد الإنساني، أي تحقيق إنسانية وفق منظمات عالمية للتغذية والصحة والمعاملات المالية، أي ضمان حالات استقرار الإنسان على الأرض، وأيضا تحقيق حالات السرور.

الحرية، من لم يكن حرا في أرضه لا يمكن أن يكون حرا في معادنها، إذن، تحرير الأرض فضاءات الفوسفاط كان نتيجة مقاومة وطنية مغربية، وعليه تحققت أشكال حريات أخرى تتعدد تلويناتها بحسب تعدد الفضاءات التي تندرج ضمنها. هذه الحرية أسهمت في استيضاح تحولين عميقين: تحول قبل الاستعمار والآخر بعد الاستقلال.

إن المسار الفوسفاطي يستوضح والتحولات التي عرفها، إنه مسار قرن من الزمن، نصف قرن قبل الاستقلال والنصف الآخر بعد الاستقلال، إنه مسار تتجدد صوره وعلاماته التي تحدد سماتها المدن التي دائما في تفاعل معه، مدن تتحول كذلك وفق علاقة تبادلية، هذا المسار الفوسفاطي نجده -كما سلف القول- يتسم بالانفجار الاقتصادي-الثقافي، إذن، مسار ينفجر كونيا ويحقق علامات دالة لحياة الذاكرة المغربية الفوسفاطية.

الله خلق الأرض، وجعل الإنسان خليفة عليها، هذه الأرض تستحق فعلا حياة فلاحية وأمنا غذائيا وسمادا يحييها، الأرض الفوسفاطية قوة مقاومة الوطن في ارتباط وفضاءات مثل فضاء البحر المتوسط والمحيط الأطلسي والجبال… إلخ.

hespress.com